إبان أسابيع الحجر الصحي وحظر التجوال البغيضة، عقب التفشي الهستيري لفيروس "كورونا"، شرعت في إعادة ترتيب فوضى رفوف مكتبتي وتنخي...
إبان أسابيع الحجر الصحي وحظر التجوال البغيضة، عقب التفشي الهستيري لفيروس "كورونا"، شرعت في إعادة ترتيب فوضى رفوف مكتبتي وتنخيلها وتصنيفها على حسب المجالات والمعارف والأجناس. ولقد بدأت تنضيداتي وترصيصاتي وتبويباتي اليومية، المدعومة بمنشفة قطنية مبللة لمسح الغبار ووضع نزر طفيف من حشيشة التبغ الطاردة للعث خلف الكتب والمجلدات، بموسوعات تاريخ الفن والكاتالوغات المونوغرافية المخصصة لأساتذة الرسم ومعلميه الكبار في مختلف العصور، حتى وقعت يداي في مستهل مساء البارحة على دليل مفهرس لأعمال الفنان البولوني الشهير "جيزلاف بيكشينسكي" (1929/2005). فتركت من فوري ما عزمت على القيام به، ثم قضيت ما فضل من الأمسية في قراءة سيرة حياة وتركة هذا المهندس المعماري العصامي غريب الأطوار، الذي كان يكره الصمت، لدرجة أنه أنجز كافة أعماله المتطرفة، المصنفة ضمن مدرسة "الواقعية المذهلة"، وهو يصيخ السمع لساعات طوال إلى موسيقى "الروك" الصاخبة داخل غرفة مغلقة بلا نوافذ. كما أنه لم يكن يضع عناوين إبانة للوحاته قط، ولم يحضر شخصيا بلحمه ودمه أي افتتاح لمعارضه الفنية في مختلف بقاع العالم، بل الأدهى من هذا أقدم على حرق نصف آثاره الناجزة في فناء منزله بعد إصابته بنوبة كدر عابرة قاربت الإضطراب العقلي. وبعد ذلك رفض بعناد صارم واستغناء باسق أي تصريح صحفي سطحي، أو تقريض نقدي أكاديمي، أو تفسير مبتسر من لدنه لمحتوى ما يقترفه من إبداعات سريالية ذات المنزع الباروكي اللافت. وأنا أقترب من نهاية سطور الدليل بشغف وإعجاب متصاعدين، صدمت بالغقرات المأساوية، التي تتحدث عن تفاصيل وفاة زوجته ليلة الإحتفال بعيد ميلاد المسيح، وبانتحار ابنه شنقا داخل بيت العائلة وكان هو من اكتشف جثته الباردة المخنوقة بحبل وسط دولاب الملابس، ثم أخيرا مقتله بسبع عشرة طعنة من سكين ماضية اخترقت شتى أنحاء جسده الناحل، لأنه على ما يبدو استنكف عن إقراض أحد المراهقين من أبناء جيرانه مبلغا زهيدا جدا من "الزولتي" (عملة بولندا الرسمية). و في متم الكاتالوغ ألقيت نظرة متفحصة على بعض أعماله الغفل من التسمية مسرفة الكابوسية المطبوعة بالمرضنة، والوجوه البشعة الممسوحة، والخلاءات الصحراوية المنيفة، والهياكل العظمية الممسوخة، والصلبان المهيبة، والتماثيل المجسمة الغارقة في ظلال مبتلعة، لعل من أبرزها لوحتة الوحيدة، التي انتقى لها قبيل اغتياله التاعس بشهر واحد لقبا توضيحيا، هو "زاحف الليل" (2005). دققت النظر مليا في هذه اللوحة الشنيعة المقززة، التي يتوسطها كائن شائه الخلقة، دباب دميم قد جينيا من بشر وصرصار وكلب. مقنع معمم بضمادة طبية بيضاء ملطخة بالدم تطمس معالم وجهه. وفي خلفيتها مدينة سرابية برتقالية مهدومة البنايات و مضرمة عن آخرها بألسنة النيران والسخام الأسود والأدخنة الكبريتية السامة كما لو أننا في نهاية العالم وقيامة البشرية. نهاية و قيامة يختزلهما بجدارة البيانو الموسيقي المشتعل في قلب اللوحة. أوصدت دفتي الكاتالوغ، ثم تناولت وجبة العشاء على وقع وأصداء أخبار التلفزيون المزعجة، التي تشكو انفراط عقد وعهد بعض الرهط الأغرار وتدفقهم البهيمي في الشوارع للتكبير والتهليل في بعض المدن مطالبين بالنزوح الفوري للوباء الفتاك، وخرق بعض الزمر الأوباش لقانون الحجر الصحي بالخروج و التخالط الإجتماعي المتهور، فضلا عن طرفة "كوفيدية" ضمن المنوعات الدولية لها صلة بسماسرة الموت الجدد، إذ طرحت شركة أمريكية لا وجه و لا دين و لا ملة لها خدمة باهظة الثمن لتشييع جنازات ضحايا "متلازمة الشرق الأوسط التنفسية" عن بعد بواسطة الفيديو.
بعدها مباشرة خمدت في سريري كالقتيل، لكن ما هو غير متوقع أنها كانت ليلة كابوسية بامتياز، رأيت فيها فيما يراه النائم المهجوس بالجاثوم ضمن سيناريو جهنمي متعاقب الصور والأحداث، موت الطبيبات والأطباء والممرضات بالآلاف . خراب المختبرات الطبية والمستشفيات واحتراقها. انتشار الآفة الوبيلة وشيوعها المنبث بين الخلق بعد الفشل في تليين عريكتها وتقوي شكيمتها. نكث الرعاع لحالة الطوارئ الصحية و مهاجمتهم للأصحاء المعتزلين بهدف إلصاق الداء بهم إثر تولي السفهاء وتغرب العقلاء واهتزاز عرش الإيمان. إقدام السلطات وقوات العسكر على قتلهم بالرصاص الحي أو اصطيادهم كالقرود بشباك عملاقة ثم حملهم عبر طائرات "الهليكوبتر" إلى معسكرات للاحتجاز بقمم جبال " الأطلس الكبير" العالية أو بفيافي المناطق الصحراوية القصية . فرارهم من هذي المعتقلات ونزولهم إلى المدن على هيئة مخلوق " زاحف الليل" الرهيب القتال، حيث اقتحموا المنازل والعمارات و عطسوا في وجه الجميع بلا رحمة ولا شفقة و لطخوهم باللعاب السيال.
أفقت من نومي عند منتصف نهار اليوم التالي، محطما مثل آنية خزف وصلت لتوها في علية إحدى حافلات "سريع وادي زم" على الطريق الوطنية غير المؤدى عنها . وعندما خرجت من العمارة للتخلص من القمامة، رميت أيضا في مكب النفايات كاتالوغ المأفون جيزلاف بيكشينسكي لعنة الله عليه وعلى أصله وفصله المقيتين.
في الليلة القادمة، سأخلد للنوم مبكرا، مبكرا جدا، وجل ما أتمناه..ما أتمناه من قلبي الخالص أن لا يطلع علي "زاحف الليل " قميء الطلعة، وينفث في محياي الهواء من أنفه وفمه الكريهين!.. من يدري؟
27/03/2020
ليست هناك تعليقات