ترجمة: مبارك وساط
تقديم:
هنري ميشو (1899-1984) Henri Michaux-، شاعر وكاتب بلجيكيّ، وُلِد في مدينة نامور (ببلجيكا)، وتُوفِّي بباريس، وكان قد اكتسبَ الجنسيّة الفرنسيّة. في سِنِّ الثّانية والعشرين، قرأ “أناشيد مالدورور، لِلوتريامون، فشعر أنّ حياته ستكون منذورةً للكتابة.
بعد أن استمالتْهُ، في بدايات شبابِه، التّجربة الصّوفيّة في المسيحيّة، وبعدها الفلسفات الهنديّة والصّينيّة، انتهى به المطاف إلى عَيْشِ “تجربته الباطنيّة” الخاصّة من خلال الكتابة (والرّسم، والصِّباغة أيْضًا).
من بين أعماله: «ذاك الذي كُنْتُه»، «إكوادور»، «أملاكي»، «شَخْصٌ يُدْعى ريشة»، «الليلُ يتملْمل» «رحلةٌ إلى غارابانيا العُظمى» ( وغارابانيا العظمى هاته، بلاد مُتَخَيّلة، وأقوامها متخيّلون، وقد اقتطفنا من نصوص هذه المجموعة، فما يلي: “في بلاد الهاكْ”، و”الإيمَنْغلون”)، « العيش في الثّنايا»… )
———————–
حياتي
تَمْضِين مِنْ دُوني، يا حياتي.
تَتدحْرَجين،
وأنا ما أزال أنتظرُ أن أقوم بخطوة.
تَنْقُلين المعركة إلى مكان آخر.
هكذا تَهْجُرينني.
لم أتْبعْك قَطّ.
ما تعرِضينه عليّ ليس واضحًا لي.
القليلُ جِدًّا، الذي أرغبُ فيه، لا تَجْلُبينه أبدًا.
ولأنّهُ ينقصُنِي، أتطلَّع إلى الكثير.
إلى الكثير من الأشياء، إلى اللانهاية تقريبًا…
بسبب ذلك القليل الذي ينقص، الذي أبدًا لا تجْلُبينه.
فليَسْرِقوا
فيما كنتُ أَحْلِق ذقني هذا الصّباح، ماطًّا شَفتَيّ وَدافِعًا بهما قليلاً إلى فوق لتُصْبِحَ لديّ مساحةٌ مَشْدودةٌ أكثر، وصُلبةٌ فِعْلا تحت الشَّفْرة، ما الذي أراه؟ ثَلاثُ أسنان ذَهبِيّة! أنَا الذي لمْ أكنْ قَطُّ عند طبيب أسْنَان.
آه! آه!
ولماذا؟
لماذا؟ ليجعلوني أشُكُّ في نفسي، فيسرقوا اسْمي الذي هو بارْنَابِيه. آه! إنّهم يجْذبون بِحَزْم من الجانب الآخر، يجذبون، يجذبون، وأنا أُمْسِكُه. «بارنابيه»، «بارنابيه»، أقول بهدوء، لكنْ بِعَزم؛ هكذا، تذهبُ كُلُّ مجهوداتهم سُدى.
في بلاد السِّحْر
نرى القفص، نسمع رفرفةً. نسمع الصّوت الواضح للمنقار يُسَنَّنُ على القُضْبان. لكنّ الطّائرَ ما له من وجود.
ففي واحد من هذه الأقفاص الفارغة، سمعتُ أشدّ صريخٍ لببغاواتٍ إناثٍ في حياتي. وبالطّبع، فلا واحدة منهنّ كانت العينُ تُدركها.
فيالها من ضجّة! كما لو أنّهنّ كُنّ ثلاث أو أربع دزينات في هذا القفص:
«… ألا يكون هذا القفص الصّغير ضَيِّقًا عليهن؟» سألتُ بشكلٍ آليٍّ، لكنْ مُضْفِيًا على سؤالي، فيما كنت أسمعني أنطق به، نبرةً تهكُّمِيّة.
«بلى، أجابني صاحبُه بصرامة، ولهذا فهُنّ يَلْغَطن إلى هذا الحدّ. إنّهنّ يرغبن في مكان أوسع. »
•
أنْ يمشيَ شخص على ضِفّتي النّهر معًا، هذا تمرين شاقّ.
في أحيانٍ كثيرة، يرى المرءُ رجلا (طالبًا يدرُسُ السِّحر) صاعِدًا مع النّهر، ماضِيًا على هذه الضِّفَّةِ وتلك في آن: ولأنّه منشغل جِدًّا، فهو لا يَرَاكُمْ، ذلك أنّ ما يُنْجِزُه عَسير وعليه ألاّ يَشْرُدَ بتاتًا. وإلاَّ فسرعان ما سيجد نفسَه، وحيدًا، وعلى إحدى الضِّفّتين، فأيُّ خِزْيٍ سيُشَكّله له ذلك وقتها!
•
كثيرًا ما ترون، مساءً، نيرانا في القُرى. هذه النّيرانُ ليستْ نِيرانًا. هي لا تُحْرِقُ أيَّ شَيْء. بالكاد، ومن أجل هذا يجب أن تكون تلك النّار شديدة الاضطرام، بالكاد قد تحرق خيطَ عنكبوتٍ عابِرًا في وسطها.
وبالفعل، فهذه النّيران هي من دون حرارة.
لكنّ لها لمعانًا لا شيءَ في الطّبيعة يُدانيها فيه (وإنْ يَكُنْ دون ألق القوس الكهربائيّة).
وتلك الاضطرامات تفتُنُ وتُخيف، دونما خطورة، على أَيِّ حال، وتلك النّيران تختفي على حين غِرّة، مثلما تكونُ قَدْ ظهرتْ.
•
رأيتُ الماءَ الذي يَحْبِسُ نفسَه عن السّيلان. إذا كان ماءٌ ما مُتعوِّدًا حَقًّا على مكانِه، إذا كان ماءَك، فهو لن يَتَدَفّق، حتّى وإن انكسرَ الدّورق إلى أربع قطع.
سينتظر، فحسب، أن نأتيَه بواحد آخَر. وهو لن يُحاول الانسكاب إلى الخارج.
أذلك بِمفعولُ قُوّةِ الكاهن؟
نعم ولا. في الظّاهر، لا. فالكاهن قد لا يكونُ على عِلْمٍ بانكسار الدّورق ولا بما يُكابِدُهُ الماء ليلبَثَ في مكانه.
لكنْ عليه ألاّ يجعل الماءَ ينتظرُ وقتًا أطولَ ممّا ينبغي، فبقاؤه في وضْعه ليْسَ مريحًا، بَلْ مُرْهِقٌ جِدًّا، وهو، في تلك الحال، من دون أنْ يَضيع فِعْلاً، قدْ ينْتَشِرُ إلى حَدٍّ ما.
بالطّبع، يَجِبُ أنْ يكون ماءَك وليس ماءً جلبته قبل خمس دقائق، ليسَ ماءً تمّ تغييرُه للتّوّ. فهذا الأخير سيتدفّقُ على الفور. إِذْ ما الذي سيستبقيه؟
صورة للمَيْدُوزِيمْ
أربعةٌ وثلاثون من الرّماح المُتشابكة، أيُمكنُها أنْ تُشَكِّل كائنًا؟ نعم، واحِدًا من المَيْدُوزيمْ. مَيْدوزيمًا مُضَعْضَعًا، مَيْدوزيمًا ما عاد يعرف أين يتّخذ له مكانًا، ولا أيَّ وضْعٍ يتّخذ، ولا
كيفَ يُجابِه، ما عاد يعرفُ سوى أنْ يكونَ مَيْدوزيمًا.
لقد دمّروا «الواحد» الذي هُو من مُقَوّماته.
لكنّهُ لم يُهْزَمْ بَعْد. الرِّماحُ التي يجب أنْ يَسْتعملها بشكلٍ مُجْدٍ ضِدّ العديد من الأعداء، أنْفَذَها بَدْءًا في جَسَدِه.
لكنّه لَمْ يُهْزَمْ بَعْد.
•
إنّهم يَتّخذون أشكال فقاعات ليحلُمُوا، إنّهم يتّخذون أشكالَ نباتاتٍ معترشةً لتتحرّك مشاعرُهم.
هيئةٌ هي عِبارةٌ عنْ حَبْلٍ طويل، تَتّكِئ على جِدارٍ، جدارٍ لنْ يراهُ أَحَدٌ، على أيّ حال، فيما بعد. إنّها هناك. إنّها تتحاضَنُ مع نفْسِها.
وهذا كُلُّ شيء. إنّها مَيْدُوزيمة.
وهي تنتظر. مُتهدّلة القِوام، لكنْ أقَلَّ بكثير منْ أيّ حبلٍ في حجمها مُسْتَنِدٍ إلى ذاته.
هي تنتظر. فيا أيّامًا، ويا سَنواتٍ، تعالَي الآن. إنّها تنتظر.
•
مطّاطيةُ الميدوزيمات القُصْوى هي منبع تلذُّذهم. ومصائبِهم أيْضًا. بضْعُ رِزَمٍ تَسقط منْ عربة، سِلْكٌ حديد يتدلّى مُتَرَجِّحًا، إسْفنجة تشرَّبتْ سائِلا حتّى امتلأتْ، أُخرى فارغة وناشِفة، بُقْعة غَبِشة على سَطْح مرآة، أَثَرٌ يُومِض، تَفَرّسوا، تفَرّسوا جيِّدا في كلٍّ منها: ربّما يكون هذا الشّيء من بينِها، في الواقع، مَيْدوزيما، وربّما تكون كلّها مَيْدُوزيمات… انتابَ الواحدَ منها، أو جَرَحهُ، أو نفخه، أو قَسّاه، أوْ أفاضَ عليه المياه إحْساسٌ ما…
•
هذه المئات من الأسلاك التي تسري فيها رعشاتٌ كهربائيّة، تَشَنُّجِيّة، هذه الأسلاك المتشابكة بصورة مبهمة، هي التي تُشَكِّلُ وَجْهَ المَيْدوزيم. وَبوجْهه ذاك، يُحاوِلُ المَيْدوزيم القلِق أنْ يَتَفَحَّصَ في هدوءٍ العالَمَ المُصْمَتَ الذي يُحيطُ به.
بِهِ سَيُجيبُ العَالَم، مثلما يُجيبُ جَرَسٌ طَنّان.
وفيما يَهْتَزّ لنداءات، وَيُضْرَبُ، ثُمّ يُضْربُ، وَيُنادَى، ثُمَّ يُنادى، فإنّهُ يتطلَّعُ إلى يومِ أحدٍ، أحدٍ حقيقيٍّ، لم يَحْللْ بَعْدُ ولا مرَّة.