ترجمة أحمد حميدة
الاتحاد الثقافي

نلتقي هنا.. بشعراء كبار، شاد كلّ منهم أعمالاً شعريّة مهيبة، جعلت منه علامة مضيئة في المشهد الشعريالمعاصر: لوران غسبار، أوجين غييوفيك، جان غروجان، وفيليب جاكّوتّيه، وهم الشّعراء الذين حظوا بمكانة رفيعة لدى متذوّقي الكلمة الشّعريّة، لما تميّز به خطابهم من رصانة بالغة، تنأى بالشّعر عن الابتذال والتشويه، ثمّ لأنّ خطابهم كان دوماً خطاباً صارماً، متجذّراً في التوتّرات التي تهزّ الوجود الإنسانيّ، ولكن.. ليكون في ذات الوقت خطاباً ملغّماً وغير آمن، ممعناً في بحث مضنٍ وتقصٍّ قويم محكم، تحفزه إلى ذلك.. رغبة راسخة في النّفاذإلى أدقّ الأسرار.
غير أنّ تلك الضّرورة المشتركة التي يمليها الخطاب الشّعريّ، ليست وحدها.. السّبب الذي يحملنا على الجمع بين هؤلاء المبدعين، وهم الذين يشدّهم إلى بعضهم بعضاً إيمان عميق بالمقول الشّعري.. أي بذلك الشّعر الذي تنزاح بحضوره الحدود، والذي بداخله تستكنّ قوّةلا تني تلهمهم أسباب اليقظة والصّحو، وتبقيهم على قيد السّهر.
بقلم سوزان ألاّر
الزمن الشّعريّ
اللاّفت.. أنّ التمشّي الشّعري لدى هؤلاء الشّعراء يتجاوز في الحقيقة فعل الكتابة، طالما أنّ هذا التمشّي هو سعي الكائن المشدود إلى ما وراء ظاهر الأشياء، التّائق بمجامع كيانه إلى «الحيّز».. «الحيّز الحقيقي» (جاكّوتّيه)، «الحيّز الذي لا اسم له» (غسبار)، إلى هناك.. حيث تنتظم الفوضى ويتوارى الوجود العابر، وحيث يكون انصهار الذّات بالذّات سبيلاً إلى إعادة التّمركز في قلب وحدة الخلق الأوّل.. والتّموضع في رحم الحياة. الحيّز، أو بالأحرى «اللّحظة» (غييوفيك)، «لحظة البذار» (جاكّوتّيه)، الشّبيهة بالنَّفَسِ في حركة التنفّس (غسبار)، أو بإيقاع ترتيلة تمنح المطلق ماهيته وشكله. إنّها تلك اللّحظة الممتلئة التي تكمن فيها طاقة إشراقيّة سريّة، تبدو في وميضها وانخطافها، وكأنّها معبر إلى عالم آخر، أو ولوجاً للرّحابة، «في مجالٍ لا يشوبه تصدّع ولا يحاصره سياج» (غييوفيك).
وأن يتمّ البوح بتلك التّجربة وتحويلها إلى معرفة، فذلك هو ما ترومه الكتابة وتتشبّث به، حين تسعى إلى استعادة ثورة الانفعال الذي تكون قد ولّدته رؤية المرئيّ، وتأويل العلامات التي أتاحها ذلك الانفعال، فتعمل على إعادة اكتشاف «النّواة المركزيّة»، التي تختفي بداخلها، وتحت غشاوة المتعدّد والمتضارب، وحدة الكائن وهويّته الأعمق.
ليست الكتابة حينئذ لعبة كلمات تشي بسعة المعرفة، ولا مهارة لفظيّة تُستعذب فيها جماليّة المقول، وإنّما هي التزام بخطاب صارم يسعى الشّاعر من خلاله، وهو يسائل لغز الحياة ومبرّر وجودنا على هذه الأرض، إلى استحضار العالم الحسيّ والنّور الموهوب للعين، للتأمّل في معنى الانكسارات والابتلاء التي هي قدر الإنسان، الإنسان الموسوم بالتّناهي، والذي يظلّ لا محالة.. متأرجحاً بين حالي الفقد والامتلاء.
أيّ مقاربة للشّعر؟
ينبئنا هؤلاء الشعراء الذين تنهل جميع أعمالهم من معين الرّوح، أنّهم مدعوّون إلى نزال مع «الظّلمة المبهمة للوجود» (جاكوّتّيه)، مع تلك «القتامة اللّيليّة التي نظلّ عاجزين عن إنارتها» (لوران غسبار)، لتعقّب موسيقى هذا الوجود، تلك الموسيقى التي «لا ثقل لها، لا مقدار ولا شكل» (جاكّوتّيه).
لا أحد من هؤلاء الشّعراء حاول تعريف الشّعر، لأنّ مثل ذلك التّعريف يعني تقييد الشّعر واحتجازه. ولو أردنا تحديد موقعه، لقلنا أنّه يكمن في سموّ رفضه، وفي تمرّده على كلّ ما هو معقول وقابل للتصوّر، وعلى كلّ ما هو قابل للقياس والشّرح (لوران غسبار). قد نستشعره ساعة حضوره، فنعمل على تسجيله في كلمات تكون عاجزة عن التّصريح به تماماً، ولكنّها تظلّ دوماً مدفوعة «بنفس اللاّمتناهي» (جاكّوتّيه)، «نفس ينشد البقاء» (غييوفيك)، ولا حياة له إلاّ متى كان في حالة سعي دائب.. بحثاً عن «النّبع»، عن ذلك النّشيد الجذل، الذي يكشف في وثبة مباغتة.. «النّور الفتيق للصّبح» (غسبار).. فحول الكلمة كما حول السّراج، نبقى مسلوبي الإرادة، منجذبين كالحشرة إلى اللّهب كي نحترق، لا من أجل فكرة، ولكن من أجل كلمة، فالفكرة تسمّر القصيد على الأرض وتصلب الشّاعر من أجنحته. ونحن، كي نعيش، ينبغي لنا العثور على معاني كثيرة أخرى للكلمة، أن نمنحها ألف معنى ومعنى، أن نقترح عليها أكثر الكلمات جسارة وجرأة، حتّى تغدو أنوارها -ومتى غشيها الذّهول- عصيّة على الذّبول، منفلتة، تجنّح الكلمة لتتردّد بين طيران دائم وحالات إحساس بالدّوار والسّقوط، وذلك حدّ الإصابة بالإنهاك.
توثّب، انبجاس، انبثاق مفاجئ.. تلك هي علامات القصيد الطّارئ، ذلك «المحمل المختزِلِ لضياء لا يقبل التّجزئة» (غسبار). هكذا يمضي الشّعر، مثل «قوّة صارمة ومتحوّلة».. «أداة وصل وفصل» تدُكّ: «الأفق، بحثاً عن أفق جديد آخر يكون أكثر نأياً» (غسبار).
وفيما يسعى الشّعر إلى ريّ الحياة، وإعطاء الكلمة المزيد من القدرة على التوثّب إلى الأمام، فهو يظلّ غير منفصل عن البحث الذي يجعل تلك الكلمة نابضة، تائقة بلا حدّ إلى ما هو متفلّت: أي جوهر الحياة الثّابت، اللاّمرئيّ والسريّ.
ما الشّعر؟ لو كان ثمّة إجابة دقيقة قابلة للصّياغة، لامّحي معها كل أثر للشّعر. وعلى حدّ تعبير إدمون جابيس: «يوم يتّفق البشر على معنى أوحد لكلّ كلمة، لن يكون هناك أيّ مبرّر لبقاء الشّعر». ولن يكون بوسع ذلك الذي يطرح مثل هذا السّؤال، غير الاقتراب منه فحسب. فلا شيء يعدّ ضروريّاً للشعر، ولا شيء يكفيه. وأعني بذلك أنّ الكلام اليوميّ، كما الصّيغ الّلغويّة المألوفة، قد تتحوّل إلى شعر على لسان هذا الشّاعر أو ذاك، فيما قد يغيب الشّعر تماماً في صيغ أخرى يرى البعض أنّها شاعريّة. (...) أو في الماء المنعش للقصيد.
الخطاب الشّعريّ
ما يجمع بين هؤلاء الشّعراء، هو أنّهم لم يفردوا للكتابة فضاء لفظيّاً خاصّاً بها -فجميعهم قطع مع قاعدة الشّعر المقفّى، ومع فنّ تنميق الكلام- وتوجّهوا إلى كتابة شعر يخاطب الجانب السريّ في الإنسان. «أوليس الشعر مسيرة مستعادة دوماً، نحو السرّ المستكنّ في ذات الإنسان؟» (جاكّوتّيه). حينئذ.. لن يتعلّق الأمر بالخضوع إلى قواعد محدّدة سلفاً تتقولب داخلها الكتابة، وإنّما بالاشتغال على اللّغة لتنفسح الطّريق أمام الكلمة، وتنفتح دروب معرفة تسائل فعل الحياة برمّته، الجانب المضيء والجانب المظلم فيها، ما تأتي به من حالات امتلاء وحالات فقد، وما تثيره من إحساس بالحضور أو بالغياب، في رحم جرح عضال: تبدّد المطلق. نحتاج حينئذ إلى الكتابة، ولكن ونحن موتّرون على تجارب قصوى تكون مدخلاً إلى الكلمة المجرّدة.. العارية، التي تجعل حدود المبهم تنحسر وتتراجع، وتساعد على كشف المحجوب الذي بالكاد يلمح، أو المدرك بطريقة حدسيّة. وحينها ستكون حالة الاستقامة التي سوف تسكن الشّاعر، غير منفصلة عن الحاجة الباطنيّة الملحّة، التي من قصيد إلى آخر، توجّه نهمه إلى الضّياء. ولننصت في هذا الصّدد إلى ما يقوله جاكّوتّيه: «الصّواب.. لا أبتغي له بديلًا.. الكلمة الصّائبة.. ينبغي أن نكون بانتظارها أو أن نتعقّبها»، أو ما يقوله غسبار: «إنّ العمل الوحيد، السّعادة الوحيدة المسعفة، الحمّى الوحيدة القادرة على إيقاف العدوى: حقيقة تنبثق من كتابة دقيقة وصائبة».. أو أيضاً ما يقوله غييوفيك: «أنظر إلى قفا الكلمات.. وفكّ هذه الخصلة».
ولأنّهم اختاروا الاستقامة كمنهج في الحياة، لمحاصرة تساؤلاتهم عن القدر البشري، كان هؤلاء الشّعراء مسكونين بنفس التطلّع: أن يكون الشّعر بفضل سطوة الكلمات وما تولّده تلك الكلمات من صور، لا تعبيراً عن الوجود الموهوب للبصر، وإنّما عبوراً إلى ما وراء هذا الوجود: اختراقاً لجدار العتمة، انفتاحاً لباب.. ومسيرة عنيدة نحو مكان آخر لا يقيّده حدّ ولا يعتريه ثقل. وكم يذكّرنا ذلك بما ذهب إليه راينر ماريا ريلكه وهو يفصح عن إحساسه بالشّعر: «الشّعر طرق لأبواب المحال، وتجاوز لنقب المكان والزّمان، ورجم لجدار العتمة كيما تنفتح يؤر من نور تكشف عن كينونة الإنسان».
وكلمة انقتاح، هي هنا، كلمة جوهريّة، ولكنّها تحيل على الحدس أكثر من كونها تعبّر عن حقيقة يقينيّة. إنّه الإحساس باختراق حدّ أو جدار، والتنقّل داخل فضاء طلق، هو في ذات الوقت فضاء خارجي وداخليّ، كذاك الذي تخيّله ريلكه، (جاكّوتّيه)، ولن يكون إدراك ذلك الفضاء بمثابة النهاية، إن هو إلاّ مجرّد غاية، تليها غايات أخرى أبعد غوراً.
أن نلمح عبر ذلك الانفتاح وميضاً، شبيهاً بوميض خافت لمصباح في ظلمة الغاب أو في غيهب المنفى. ثمّ.. «الإصرار على المسير في الضّياء وملامسة تلك الومضة غير القابلة للتّجزئة» (غسبار). ويعيش الشّاعر نفس التوتّر في ما وراء انكسارات وتمزّقات الوجود، كيما تلتئم «تلك اللّقاءات بالذّات بعيداً عن كلّ سياج» (غسبار). تلك الّلحظات من المعرفة النابضة (غسبار)، قبل الاندماج الحميميّ في «نواة» الكينونة.. غير القابلة للتّقسيم (غييوفيك)، وتلك.. لحظات امتلاء تحفظ الذّات من التشتّت والتشظّي. حينها سيبدو ذلك الذي يَكتُب وكأنّه قد أترع كأسه بكلّ أنوار الصّيف (جاكّوتّيه)
هكذا يكون الشّعر، توقاً موجعاً إلى الإفلات من الخواء.. ذلك الجرح الغائر الذي لا شفاء منه. ولذا.. يغدو كلّ شيء في الشّعر، سواء تعلّق الأمر بالحياة أو بالكتابة، عبارة عن بحث محموم: البحث عن وطن تكون للكلمة الشّعريّة فيه مكانتها السّامقة التي تستحقّ، بعد أن تكون الكتابة قد تخلّصت من الثّرثرة والهذيان، ومن النّظام البائد للغةٍ قد غدت متكلّسة، بحث عن عالم بكر، لا يني يتجدّد في خضمّ حركة التّكوين، بحث عن معنى لضياع ما هو متعالٍ: بحث عنيد عن مكان قد نستعيد فيه طاقة الإحساس بأنّنا لا نزال على قيد الحركة. ففي الصّحراء الخالية التي هي عالمنا، وفي غياب أيّ تفسير للغز الإنسان الموهوب للعدم، يطلق الشّعر نداء إلى القوى الكامنة في الرّوح، عساها تزحزح أكثر.. جدار المبهم، وتجعل العالم من حولنا أكثر احتمالًا.
كذلك هم الشّعراء، الذين لا يفترضون أنفسهم بجودة كتابتهم ودرايتهم الواسعة بأسرار الكلمات. مأخوذون في دوّامة أفكار وخواطر تجعلهم شديدي التّداني من بعضهم بعضاً، يعيش هؤلاء.. الشّعر، في نزاله مع اللّغة، كتمشٍّ موجّه إلى حيث يكون الصّمت والاعتزال وسائل للكشف عن الحقائق المنسيّة.
لنقل بأنّ ما قد نسمّيه شعراً، هو ذلك الحدث، الذي في انخطاف اللّحظة، تنزاح فيه الأسيجة ويتوارى فيه التوتّر، ويمتلئ فيه فراغ الباطن، ولكنّ الشّعر هو أيضاً إعادة بدء متكرّرة لكتابة تنشد الانفتاح، حين تنبئ الكلمة عن رهان المقول: الأمل في أن يتشكّل بفعل الشّعر فضاء تتواصل فيه كلّ الأشياء، أي فضاء أوحد تسري فيه الحياة ما بين المرئيّ واللاّمرئيّ.
من شاعر لآخر
ومع ذلك.. أن نقرأ لهؤلاء الشّعراء الذين يجمع بينهم نفس النّزوع إلى الترقّي، نفس التعطّش إلى الوطن الأصليّ، نفس الحاجة الملحّة إلى الكلمة الصّارمة، فإنّ ذلك يعني أن نلج أعمالاً تحمل كتابة استثنائيّة، وأن نلقي السّمع إلى أصوات، هي من حيث خصوصيّتها.. مختلفة، وتبيّـن تلك الأعمال، أكثر من أيّ تأويل لها، مدى رحابتها ونفاستها. ولنشر هنا فحسب، أنّ ما يمنح لكلّ صوت من تلك الأصوات درجته اللّونيّة الأسمى، هو النّفس الشّخصيّ لخطاب يظلّ نابضاً وعلى قيد الحياة.
كذلك هي سيولة خطاب جاكّوتّيه، «الغرّ».. الذي ما بين الشّعر والنّثر يحتفر اشتباهات فكر قلق، موزّع بين حركتين: أولاها تأمّليّة، يغذّيها التحسّس، فيما تكون الثّانية مترعة بمرح صاخب ورقيق، في لحظات ذهول يتجلّى فيها جمال الخلق. وتقترن هاتان الحركتان في القصيد لتعطي بعداً روحيّاً لبحث «عن الهناك في الهنا».
ومختلف هو خطاب لوران غسبار الذي، وهو مفتون بطاقة «الجسد-الرّوح»، التي لا يَفصِل عنها غسبار اللّغة، يمنحنا ذلك الخطاب كتابة مركّزة، «عموديّة» من حيث توقها إلى التكثف، يسندها «إيمان راسخ بالكلمة في قلب سواد اللّيل الذي يكتنفها»..
وبالنّسبة لغييوفيك، ففي تشظّي القصيد الرّحب، المحاصر بالصّمت، يلتئم الحوار مع «الدّاخل-الخارج»، حوار يخترقه تساؤل ملحاح، وفي تكرّر ذلك الحوار يكون بالإمكان ملامسة سطوة الخطاب الممعن في الوجوم.
أمّا جان غروجان، فإنّه في موسيقى خطاب خالص وخال من الشّوائب، يجدّد الخطاب الإنجيليّ، ناقلاً للقارئ رؤية للإنسان الذي «قدّ من زمن»، الإنسان العابر الأبدي المتلمّس لمواطن الضّياء والمتشوّف لنفسِ خطابٍ يحيي الإنسان من رميم. غير أنّه في علاقته بالمتسامي، يبتعد عن معاصريه. لذا.. قد نكون بحاجة إلى تتبّع الخطّ الذي يميّز جان غروجان في هذه الجوقة من الأصوات الفذّة.
فحيال هؤلاء الشّعراء الذين أداروا ظهورهم للدّيانات، يكون غروجان قد شاد أعماله وفق تصوّر قوامه أنّ كلّ شيء في مجال المعرفة يمرّ حتماً عبر تخاطب يجمع بين الإنسان والرب: تخاطب تنبثق فيه الحقيقة من ذات الإنسان، وبه تتواصل عبر الزّمن. ولتوق الإنسان إلى ما يقع وراء هذا الوجود، وحرصه على إدراك اللاّمرئيّ في قلب المرئيّ، يجيب غروجان بموقف إيمانيّ يرتهن إلى خطاب تتحدّى أنواره الزّمن، وهي الأنوار التي من فرط الإقدام على تأويلها ومساءلتها.. لا تنفكّ عن مرافقة الكائن البشري. فيما ابتعد بقيّة الشّعراء عن كلّ ولاء لما هو ّدينيّ مقدّس، ليجعلوا التّجربة الجوهريّة لبؤس الكينونة مرتبطة بضرورة إدراك «حقيقة» أخرى كامنة في الإنسان وتعيش بداخله، تعرف تارة بالتّوق إلى المطلق، وبالتعطّش إلى الجمال والتّوق إلى الحقيقة تارة أخرى.
حينئذ.. ثمّة اختلاف بين هؤلاء الشّعراء في تقديرهم للمتعالي، ومع ذلك.. تجمعهم قناعة واحدة: أن يظلّ خطاب الشّعر ممعناً في البحث ومنفتحاً على مغامرة التّساؤل. ويشير غروجان في هذا الصّدد إلى أنّه: «متى تجمّدت الجملة وغدت جازمة وباتّة، ماتت اللّغة»، لأنّ اللّغة تستمدّ من بحثها الدّائب عن الحقيقة.. قدرتها على السّير قدماً نحو مزيد من الضّياء. إنّه الإيمان المشترك في فعل يصنعه الخطاب الشّعريّ لإزاحة حدود المبهم. ويعني ذلك أنّ الشّاعر، وهو يعيش متسائلاً عن هويّة «ذات» تظلّ على قيد الصّيرورة ومتغيّرة على الدّوام، مأخوذة في حياة موسومة بالتقطّع والتبدّد، في وجود موسوم بالإِلغاز، سوف يعمل دون هوادة على إعادة خلق اللّغة، التي متى تجذّرت في المعيش اليوميّ، تكون قد تأصّلت في تربته.
سوف يكون البصر مسدّداً بعد ذلك، على ذلك التمشّي للخطاب الشّعري، وعلى السّفر في «الوطن الذّهنيّ» للشّعر. ولكن لابدّ في هذا السّياق من إقامة علاقة حيّة مع ذلك الخطاب، والدّخول في حوار معه، وبذات الأسئلة التي سوف يطرحها الشّعراء على الشّعر، سوف يجد هؤلاء، في عبورهم لوطن اللّغة، في حالة مواجهة مع مسألة المعنى الذي ينبغي أن«يرسّخ» (غسبار) «عند اختراق المعتّم» (غييوفيك).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق