سليمان المعمري
شبّه الشاعر الفرنسي رينيه شار الإنسان مرة بشجرة تنمو "في مطلع نيسان غير واثقة من نهاياتها". تذكرتُ شار بُعيدَ فراغي من قراءة قصص "سماء خضراء" للكاتبة العُمانية غنية الشبيبي (بيت الغشام 2020). ثمة بشر وأشجار ونهايات غير موثوق منها تعجّ بها هذه المجموعة التي تومئ بقصصها الثمانية عشر إلى كاتبةٍ موهوبة استطاعت في باكورة أعمالها التخلص من طغيان الذات والتفجّع غير الفني على ما يصيب أبطالها في الغرفة أو الشارع كما هي حال كثير من المجموعات القصصية الأولى لعدد غير قليل من القاصين العُمانيين، ومن بينهم كاتب هذه السطور، وإن كان هذا التفجّع سيطلّ برأسه للأسف في بعض قصص "سماء خضراء" ولكن في تتبعه لحيوات بشر مسحوقين أو أشجار بائسة.
يتكدسّ أناس مطحونون من مختلف الأعمار في هذا الكتاب معلنين عن بؤسهم اليومي، الذي استمر لبعضهم عشرات السنين: لقيط يعاني من تعيير أقرانه له بأبيه غير المعروف، أم مصابة بالزهايمر تنتظر نهايتها بعيداً عن عقوق الأبناء، امرأة فقيرة تبحث عن مأوى بعد أن احترق بيتها بتماس كهربائي جراء المطر، معلّمة تعاني الوحدة بعد أن حرمها أبوها من الزواج بحبيبها بذريعة القبيلة، مريضة نفسية تكابد مرضها من جهة، وجهل عائلتها المؤمنة بالمسّ والجن من جهة ثانية، سائق أجرة معدم يسلبه اللصوص المال القليل الذي كسبه من عمله، طفل يعاني فقدان أمه وجدَّتِه اللتين قيل له إنهما ذهبتا إلى القمر، وطفلة تفرض عليها قسوة الحياة ترك المدرسة والعمل خادمة لزوجة أبيها، وغيرهم كثر من أبطال هذه المجموعة التي يبدو أنها قررت رصد كل أنواع البؤس التي يكابدها البشر، ولم تكتف بذلك، بل كان للشجر أيضا نصيبه من هذا البؤس.
من الأشجار التي انتصرت لها هذه القصص: "البيذامة" التي تحمل عنوان إحدى القصص، والتي ينسى كل أهل البيت – باستثناء الفتاة ساردة القصة - ما أغدقته عليهم من ثمر وظل، لمجرد أنهم أرادوا بناء غرفة جديدة في هذا البيت. أما النخلات الثلاث في قصة "المصير" فيُضَحّى بها من أجل تعبيد طريق القرية، ولا تجد من يدافع عنها سوى شيخ طاعن في السنّ "يبكي على نخلاته" بلا حول ولا قوة. وحتى عندما تكون الأشجار بخير، فإن ذلك ليس إلا مقدمة للحديث عن بؤسٍ ما، يصيب بشرًا آخرين، تجاوزهم البؤس في قصص سابقة. فالجوافة الساكنة حديقة المدرسة التي تعمل فيها بطلة قصة "أمنية الجنة"، و"تدلت ثمارها التي خالطها نضج شهي" نعرف أن سبب ذكرها أن بطل القصة الغائب كان يحبها كثيرًا ويعشق رائحتها. والغافة التي كانت الملاذ والحصن لتلك المرأة المشردة في قصة "المجنونة" تلوذ بها من مشاكسات المراهقين، ومطاردات موظفي مستشفى الأمراض النفسية، لم تكن هذه الغافة في النهاية إلا شاهدًا على ذهاب تلك المرأة إلى المجهول. أما السجن بطل قصة "زيارة أولى" فإن الساردة لم تجد للتدليل على أنه "قفر موحش" إلا "شجيرات باهتة تجثم بقسوة على تربة رملية تشوبها حجارة متفاوتة الحجم".
ومع النهاية الحزينة للبيذامة بقدوم العامل الآسيوي ضخم الجثة ذي اللحية الكثة والشعر الأشعث حاملا "أدوات القتل بين يديه" تتبدى نهاية حزينة أخرى لهذه القصة، حين تُقحم الكاتبة بشكل فج الانتفاضة الفلسطينية مُفسِدةً بذلك النهاية الجميلة للقصة بهذه الخطابية المباشرة، ومُعيدة التذكير بـ"شار" وحديثه عن "النهايات غير الموثوق منها"، وهو الأمر الذي تكرر في غير قصة بعد ذلك لشديد الأسف وكأن الكاتبة لا تؤمن أن القصة يمكن أن تكون جميلة ومؤثرة بدون نهاية ميلودرامية حزينة، فعلى سبيل المثال تنتهي قصة "أخت القمر" برمي مريم – المريضة النفسية التي يظن أبوها أن بها مَسّا من الجن- نفسها في بئر قديمة خارج البيت، وفي قصة "عشرون عاما في انتظار الفرح" وبعد أن وفّت الأم المكافِحة بنذرها بإقامة عرس بهيج لولدها الذي انتظرتْ عرسه عشرين عاما تنتهي القصة بحادث سير طارئ ومفتعل لهذا العريس أثناء زفّته، نكاية بأمه ربما، وربما لكي يحزن القارئ أكثر.
في المقابل، استطاعت النهاية المفتوحة لقصة "المصير" بتمدد العجوز الذائد عن نخلاته الثلاث حزينًا من غير حراك، دون أن نعرف هل هو ميت حقّاً أم أن سكونه وصمته كانا بسبب حزنه الشديد، استطاعت أن تجعل القصة أكثر جمالاً وتأثيرا على القارئ، وربما هذا ما أهلها للفوز بالجائزة الأولى في مسابقة "قصص على الهواء" التي نظّمتها مجلة العربي بالاشتراك مع إذاعة مونتي كارلو. وهذه النهاية المفتوحة هي أيضًا ما جعل قصة "نور" واحدة من أجمل قصص المجموعة؛ وهي قصة تميزت أيضًا عن بقية القصص بلغة بسيطة وسلسة ابتعدتْ عن الجمل "المشعرنة" التي تنساق أحيانًا لإغواء الصورة الشعرية والتشبيهات الطويلة فتعيق القارئ عن متابعة الحكاية.
وإذا كانت هذه المجموعة قد نجت من تفجعات الذات كما ذكرت قبل قليل، إلا أنها لم تنجُ من كثير من الجمل التقريرية التي تعطّل السرد حتى في بعص القصص الجميلة، وهي جُمَل يتدخل بها السارد (الذي يأتي بضمير الغائب أحياناً كسارد عليم، وبضمير المتكلم أحياناً أخرى كسارد مشارك في القصة) محاولاً توجيه القارئ بشكل غير فني. بعض هذه التدخلات جاءت على هيئة تساؤل من هذا السارد، كما في قصة "المجنونة": "هل كانت تبحث بينهم عن وجع سنينها البائدة؟"، وكما في قصة "البيذامة" :"أليس جزاء الإحسان الإحسان وجزاء المعروف معروف مثله؟"، وكما في قصة "أمنية الجنة": "أليس الانتصار للحب هو انتصار للجمال والنقاء والسعادة المنشودة، والتخلي هو ضعف واستسلام وموت على قيد الحياة؟"، وفي قصة "نور" : "ترى أي صبر هذا الذي تتلفع به جداتنا، غريب أمرهن، ينخر الوجع قلوبهم، ولا تنبس إحداهن ببنت شفة". في حين جاءت بعض التدخلات على هيئة عبارات تقريرية عادية لا تضيف للقصة بقدر ما تأخذ من جمالها، مثل "لا شيء أمر من أن تفقد المرأة سندها" أو "لا شيء يربك الذات الانسانية كالنفس اللوامة".
وإذا كانت الملاحظات السابقة متوقعة من الكتاب الأول لأي كاتب، فإن هذا لا ينفي موهبة غنية الشبيبي الواضحة التي تعد بالكثير مستقبلا، وتمكنها اللغوي، وبراعتها في الوصف، وإذا جاز لي أن أختم هذه القراءة باقتباس من إحدى قصص المجموعة فسأقول إنها -أي الكاتبة- خطت خطوتها الأولى في محاولتها أن تصنع "من أوراق الأشجار جناحين خضراوين لا يطالهما اليباس".
التصنيÙ:
رواية