شذوذ كاتب بورجوازيّ عن الملعون العجوز بيل ريم غنايم شكّل العام 1997 ضربة قاسية لعشّاق جيل البيت ولِمن جايلهم، ففيه رحل وليام سيوارد...
شذوذ كاتب بورجوازيّ
عن الملعون العجوز بيل
ريم غنايم
شكّل العام 1997 ضربة قاسية لعشّاق جيل البيت ولِمن جايلهم، ففيه رحل وليام سيوارد بوروز، صاحب الرواية الشهيرة "الغذاء العاري" والأب الرّوحي لحركة جيل البيت، عن عمر ناهز ال 83، وهو نفس عام رحيل صديقه وشريكه في الأبوّة ألن غينسبرغ، صاحب “عواء” عن عمر ناهز ال 71. قبلها بأعوام قليلة، 1969، رحل جاك كيرواك صاحب رواية “على الطريق” والضّلع الثالث في هذا المثلث متساوي الأضلاع، عن عمر ناهز ال47. ثلاثة يقفون على رأس أهمّ حركة بوهيمية في منتصف القرن العشرين، وهم نفس الثلاثة الّذين غيّروا وجه الخريطة الأدبيّة الأميركيّة لأكثر من عقدين، كردّ فعلٍ مناهض لوجه الحياة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة كما عاشها العالم وقتها.
السّؤال المطروح هنا، لماذا لا يزال العالَم يتذكّر، بنفس وهج الأمس، كتّابًا اتّهموا لسنوات طويلة بالفحش وارتكاب الجرائم والتّحريض على السّلطة والشذوذ والإباحيّة والمجون، الأمر الذي دفع الرقابة إلى مصادرة أعمالهم التي قلبت موازين المفاهيم الشّعريّة والنّثريّة في ذلك الوقت؟ الإجابة في رأيي تكمن في صدق الشّبان البيتنيكيّين في التّعبير عن مآزق راهنة يعرفونها ويألفونها، فوثّقوها بكلمات تشبهها تمامًا بدون بلاغة مستحيلة، واستعاروا عوالم بشريّة أخرى (كالانفتاح على البوذيّة والطاويّة، البوهيميّة، الجاز، البوب، الهايكو، السورياليّة، ولغة الشوارع وغيرها) احتضنوا رؤاها بحثًا عن ملاذات بديلة. إنّه الإيمان بالكلمات وبمن ينطق بها هو ما جعل جيلاً كاملاً يهتف مردّدًا وراء هؤلاء، فجاءت قصيدة عواء لألن غينسبرغ صرخة فظّة وخشنة وخادشة في وجه الاستبداد واليأس. وجاءت رواية كيرواك "على الطريق" مفتوحة وحرّة وعفويّة تسندُ مفهوم الضّياع كرديف للحريّة. وجاء بوروز برواياته "المدمن و"الغداء العاري" و"المثليّ" و "الآلة الناعمة" وغيرها، لوحات سورياليّة محسّنة الجينات، غائرة في فظاظة الواقع، والكتابة العفويّة بأسلوب التقطيع الدادائيّ. بهذه الأساليب وهذه الرؤية، كتب هؤلاء الشّبان ما فهموه وأدركوه وعاشوه دون أن يدخلوا في معاطف وأحذية السّلف، ودون اجترار شعريّة خاوية مفصولة عن عقائدهم وعن سياقهم المتفجّر برغبات الثورة والتمرّد والانفتاح والتغيير والتي تمثّلت في صعود الجاز، وثقافة البوب، والأزياء الهيبيّة وغيرها من مظاهر كانت بشكل أو بآخر الأذن الأخرى لجيل البيت.
هنا، وفي هذا السّياق، جاء بوروز.
لم يتجاوز رحيل بوروز أو العجوز بيل، قطيعة الجسد عن الرّوح التي خلقت معها رؤية مغايرة للعالَم والإنسان والتي سرعان ما تحوّلت إلى ثقافة جيل كامل رافض مثّله بوروز بتمرّده وثوريّته وموهبة الجنوح إلى أقصى اليمين وأقصى اليَسار دون أن يقيمَ وزنًا لمؤسسة حاكمة ولا لسلطة رادعة ولا لثقافة رسميّة. هذا الرّفض في حدّ ذاته سعيًا نحو الحريّة، هو ما جعل، من كتّاب جيل البيت، وثالوثه المقدّس "الأيقونات" العملاقة للثقافة المضادّة في الحياة الأدبيّة والفنيّة في الشارع الأمريكيّ والعالَم عمومًا.
لكن يبدو أن قدر الكاتب بوروز جاء بعَكس التوقّعات وبعَكس الحسابات المنطقيّة التي رَسمت للكاتب مسار المثقّف البورجوازيّ في عائلة مرفّهة لا يعوزها شيء، انسلَخ الطّفل عن جلده، وأصبح هذا الانسلاخ الاسم الآخر للحياة. لم ينقص الطفل بوروز شيئًا على صعيد حياته الأسريّة، فالطّفل كان ينتمي لعائلة بورجوازيّة مرفّهة عريقة الأصول، لم يكن له مبرّر ليختار مسار الانسلاخ الصّعب. لكنّ هذا البورجوازيّ المرفّه، والذي سيصبح شابًا متعلّمًا مثقفًا لاحقًا، قرّر عن طيب خاطر وبنيّة مبيّتة السّقوط من "قعر القفّة" ليتمدّد في حكايات قاع العالَم السفليّ. يعترف الكاتب بأسلوبه البوروزيّ، بهذه النيّة قائلاً:
“في الواقع، ذكرياتي الأولى مصبوغة بالخوف من الكوابيس. خفت من البقاء لوحدي، خفت من الظلام، وخفت من الذهاب إلى النوم لأني دائمًا حلمت برعبٍ خارق كان دائمًا على وشك أن يتحقق. كنت أخشى أن يأتي يوم أستيقظ فيه ولا ينقطع الحلم. أذكر أنّني سمعتُ الخادمة يوما تتحدث عن الأفيون وكيف أنّ تدخينه يسوق أحلامًا لذيذة، فقلت: “عندما أكبر سأدخّن الأفيون".
المتأمّل سيرة بوروز يلاحظ رابطًا خفيًّا قويًا بين رؤيته الاحتجاجيّة المتطرّفة للواقع، ومنصبه الاجتماعيّ كبورجوازيّ يمتلك كلّ صفات ومعايير النجاح للانخراط في المجتمع. ورغم ذلك، انحرف “الطفل” عن مساره. ربّما شيء ما يكمن في جوهر البورجوازيّة كحالة توفّر للفرد كلّ احتياجاته، إلى حدّ يصل الإشباع، هو ما يمهّد ويحفّز على التمرّد بامتياز. وربّما هي حالة الامتلاء التي شعر بها “الطفل”، هي ما جعلته ينحاز إلى “غريزة” الانحراف المبيّتة. إنّها نفس البورجوازيّة التي انحدر منها غينسبرغ وكيرواك، ونفس البورجوازيّة التي هيأتهم لمسارات أكاديميّة راقية. وربّما هو هذا الانضباط الزائد عن الحاجة، والأقدار المرسومة مسبقًا لأرواح متمرّدة، هي بالذّات ما هيّأ لهذا الطّفل ولع اللعب بالمسدّس وولع السّقوط كإيديولوجيا موجّهة للحياة. يُبَرهن نموذج بوروز هنا، أنّ البورجوازيّة هي النموذج الاجتماعيّ الأمثل والدّفيئة الحاضنة بامتيازاتها وتفوّقها، الذي قد يربّي، دون وعي أحيانًا، داخله أفرادًا يطيحون به وبقيمه.
لم يكن وليام بوروز كاتبًا عبقريًا تقرأ له نصًا فيهزّك بجماليّات النّثر والشّعر وفق معايير الأدب النموذجيّ. كان بوروز حالة أدبيّة، تقليعة حداثيّة سورياليّة فانتازيّة، أشبه بـ "كولاج" ينحت، ويصوّر ويُقحم وينشز، ويعمّق الواقعيّة بكلّ غثيانه وسفالته وجماله. هكذا جاءت روايته الشهيرة "الغداء العاري" وهكذا جاءت روايته الأولى "المدمن"، اعترافات جريئة لكاتب سقط في الإدمان بإرادة ورفض حبل النجاة بإرادة أيضًا.
وكنصّه الأدبيّ العفويّ، كان بوروز أيضًا خليطًا مفتوحًا على العالَم واتجاهاته. فكانَ ناثرًا، وشاعرًا، وكاتب مقالة، ورسامًا ومصوّرًا، وموسيقيًا، ومجرمًا، ومدمنًا ميئوسًا منه، وبوهيميًا، ومثليًا. كان خليطًا من الهارمونيا والنّشاز يشبه العصر الذي أفرزه وأفرز معه حالة من الغليان على المستوى الاجتماعيّ والفرديّ على حدّ سواء. هذا الخليطُ هو ما جعل منه “ماركة مسجّلة” حتّى وهو في الثالثة والثمانين.
عُرف بوروز في صباه فتى فظًا، بعيدًا عن المجتمع، قريبًا من هوايات الصّيد والقنص واللصوصيّة، بورجوازيّا سيّئًا يُعجَبُ بسير الكتّاب اللصوص، يقتحم المنازل، يحملُ سلاحًا وهو في الثامنة ويطلق النّار على الدّجاج، ويبحث عن صديق يشاركه الجريمة على الدوام. هذا الولع بالجريمة والرغبة في السّقوط تجسّد في سيرة الكاتب الإشكاليّة لاحقًا. ففي عام 1944، يرتبط اسم بوروز (وكيرواك) بجريمة قتل هزّت الأوساط الأدبيّة والإعلاميّة الأمرويكيّة، قام فيها لوسيان كار، أَحد الأصدقاء المقرّبين لبوروز وكيرواك، صديقًا له يُدعى ديفيد كاميرر وألقى بجثّته في نهر هدسون، ومثل كلّ من بوروز وكيرواك كشاهدَين تستّرا على الجريمة. وفي عام 1951 قتلَ بوروز زوجته جوان فولمر خطأً في لعبة تسلية بدأت بإطلاق الرّصاص على كأس زجاجيّة فوق رأس جوان، فأصابت الرّصاصة رأس جوان وأردتها قتيلة في الحال. تمكّن من الإفلات من المحاكمة بفضل أموال عائلته وحُكم عليه لمدّة عامَين غيابيا.
هل قتل بوروز زوجته خطأً أم أنّ جنونَ الكاتب لحظتها هو ما دفعه إلى القتل؟ في كلّ الأحوال، تظلّ هذه الحادثة، كما يقول بوروز، حدثًا موجّهًا في حياة الكاتب وفي رؤيته للكتابة والأدب لاحقًا (فقد نشر بوروز أوّل عملٍ أدبيّ سيرذاتيّ له هو المدمن عام 1953، أي فقط بعد عامَين على وقوع الحادثة).
نعم. كان بوروز إنسانًا “إشكاليًا” كما يبدو ظاهريًا، فلَم يترك طقوسًا “سافلة” إلاّ ومارسها وطال الانحراف كلّ جوانب حياة البطل السّيء. قتل الزوجة، الوقوع في الإدمان (المورفين، والهيروئين والماريحوانا والكوكائين والبنزدرين) والذي فلسفه بوروز كـ "أسلوب حياة"، الهويّة الجنسيّة الحائرة، الترحال بين عواصم العالَم : طنجة، باريس نيويورك، لندن، والضّياع كفلسفة جيل وعصر. حتّى في خنصر يده اليّسرى الذي قطعه ليثير إعجاب أحدهم، وحتى في هدوئه الغريب، هدوء من يبيّت خيانة العالَم لحظة بلحظة، وتشويه العاديّ بالصّخب، وحتّى في ممارسته للمثليّة كحال آخرين من أبناء هذا الجيل، كان بوروز منحرفًا بامتياز.
من يقرأ بوروز، يدرك بينه وبين نفسه أنّه لم يكن ناثرًا عظيمًا. وليست هنا النقطة الجوهريّة. كان بوروز تجسيدًا للعقل المنحرف الذي رأى في الحياة وفي الأدب وجهان لعملة واحدة. لذلك، تكمن أهميّته في رمزيّته كظاهرة عبّرت عن ثورة جيل كامل في الستينات والسبعينات. بيل هو ظاهرة اجتماعيّة احتجاجيّة في أدبه وفي حياته، وشأنه شأن تقليعات الهيبيز وموسيقى الجاز والبوب وشأن العالَم الذي كان ينتفضُ وقتها على الرأسماليّة وماكينة الاستهلاك، حاوَل بوروز أن يصرخَ بطريقته في وجه وحشيّة العالَم، فجاء الشّذوذ متطرفًا ردًا على تطرّف العالَم في هذه الوحشيّة.
عن الملعون العجوز بيل
ريم غنايم
شكّل العام 1997 ضربة قاسية لعشّاق جيل البيت ولِمن جايلهم، ففيه رحل وليام سيوارد بوروز، صاحب الرواية الشهيرة "الغذاء العاري" والأب الرّوحي لحركة جيل البيت، عن عمر ناهز ال 83، وهو نفس عام رحيل صديقه وشريكه في الأبوّة ألن غينسبرغ، صاحب “عواء” عن عمر ناهز ال 71. قبلها بأعوام قليلة، 1969، رحل جاك كيرواك صاحب رواية “على الطريق” والضّلع الثالث في هذا المثلث متساوي الأضلاع، عن عمر ناهز ال47. ثلاثة يقفون على رأس أهمّ حركة بوهيمية في منتصف القرن العشرين، وهم نفس الثلاثة الّذين غيّروا وجه الخريطة الأدبيّة الأميركيّة لأكثر من عقدين، كردّ فعلٍ مناهض لوجه الحياة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة كما عاشها العالم وقتها.
السّؤال المطروح هنا، لماذا لا يزال العالَم يتذكّر، بنفس وهج الأمس، كتّابًا اتّهموا لسنوات طويلة بالفحش وارتكاب الجرائم والتّحريض على السّلطة والشذوذ والإباحيّة والمجون، الأمر الذي دفع الرقابة إلى مصادرة أعمالهم التي قلبت موازين المفاهيم الشّعريّة والنّثريّة في ذلك الوقت؟ الإجابة في رأيي تكمن في صدق الشّبان البيتنيكيّين في التّعبير عن مآزق راهنة يعرفونها ويألفونها، فوثّقوها بكلمات تشبهها تمامًا بدون بلاغة مستحيلة، واستعاروا عوالم بشريّة أخرى (كالانفتاح على البوذيّة والطاويّة، البوهيميّة، الجاز، البوب، الهايكو، السورياليّة، ولغة الشوارع وغيرها) احتضنوا رؤاها بحثًا عن ملاذات بديلة. إنّه الإيمان بالكلمات وبمن ينطق بها هو ما جعل جيلاً كاملاً يهتف مردّدًا وراء هؤلاء، فجاءت قصيدة عواء لألن غينسبرغ صرخة فظّة وخشنة وخادشة في وجه الاستبداد واليأس. وجاءت رواية كيرواك "على الطريق" مفتوحة وحرّة وعفويّة تسندُ مفهوم الضّياع كرديف للحريّة. وجاء بوروز برواياته "المدمن و"الغداء العاري" و"المثليّ" و "الآلة الناعمة" وغيرها، لوحات سورياليّة محسّنة الجينات، غائرة في فظاظة الواقع، والكتابة العفويّة بأسلوب التقطيع الدادائيّ. بهذه الأساليب وهذه الرؤية، كتب هؤلاء الشّبان ما فهموه وأدركوه وعاشوه دون أن يدخلوا في معاطف وأحذية السّلف، ودون اجترار شعريّة خاوية مفصولة عن عقائدهم وعن سياقهم المتفجّر برغبات الثورة والتمرّد والانفتاح والتغيير والتي تمثّلت في صعود الجاز، وثقافة البوب، والأزياء الهيبيّة وغيرها من مظاهر كانت بشكل أو بآخر الأذن الأخرى لجيل البيت.
هنا، وفي هذا السّياق، جاء بوروز.
لم يتجاوز رحيل بوروز أو العجوز بيل، قطيعة الجسد عن الرّوح التي خلقت معها رؤية مغايرة للعالَم والإنسان والتي سرعان ما تحوّلت إلى ثقافة جيل كامل رافض مثّله بوروز بتمرّده وثوريّته وموهبة الجنوح إلى أقصى اليمين وأقصى اليَسار دون أن يقيمَ وزنًا لمؤسسة حاكمة ولا لسلطة رادعة ولا لثقافة رسميّة. هذا الرّفض في حدّ ذاته سعيًا نحو الحريّة، هو ما جعل، من كتّاب جيل البيت، وثالوثه المقدّس "الأيقونات" العملاقة للثقافة المضادّة في الحياة الأدبيّة والفنيّة في الشارع الأمريكيّ والعالَم عمومًا.
لكن يبدو أن قدر الكاتب بوروز جاء بعَكس التوقّعات وبعَكس الحسابات المنطقيّة التي رَسمت للكاتب مسار المثقّف البورجوازيّ في عائلة مرفّهة لا يعوزها شيء، انسلَخ الطّفل عن جلده، وأصبح هذا الانسلاخ الاسم الآخر للحياة. لم ينقص الطفل بوروز شيئًا على صعيد حياته الأسريّة، فالطّفل كان ينتمي لعائلة بورجوازيّة مرفّهة عريقة الأصول، لم يكن له مبرّر ليختار مسار الانسلاخ الصّعب. لكنّ هذا البورجوازيّ المرفّه، والذي سيصبح شابًا متعلّمًا مثقفًا لاحقًا، قرّر عن طيب خاطر وبنيّة مبيّتة السّقوط من "قعر القفّة" ليتمدّد في حكايات قاع العالَم السفليّ. يعترف الكاتب بأسلوبه البوروزيّ، بهذه النيّة قائلاً:
“في الواقع، ذكرياتي الأولى مصبوغة بالخوف من الكوابيس. خفت من البقاء لوحدي، خفت من الظلام، وخفت من الذهاب إلى النوم لأني دائمًا حلمت برعبٍ خارق كان دائمًا على وشك أن يتحقق. كنت أخشى أن يأتي يوم أستيقظ فيه ولا ينقطع الحلم. أذكر أنّني سمعتُ الخادمة يوما تتحدث عن الأفيون وكيف أنّ تدخينه يسوق أحلامًا لذيذة، فقلت: “عندما أكبر سأدخّن الأفيون".
المتأمّل سيرة بوروز يلاحظ رابطًا خفيًّا قويًا بين رؤيته الاحتجاجيّة المتطرّفة للواقع، ومنصبه الاجتماعيّ كبورجوازيّ يمتلك كلّ صفات ومعايير النجاح للانخراط في المجتمع. ورغم ذلك، انحرف “الطفل” عن مساره. ربّما شيء ما يكمن في جوهر البورجوازيّة كحالة توفّر للفرد كلّ احتياجاته، إلى حدّ يصل الإشباع، هو ما يمهّد ويحفّز على التمرّد بامتياز. وربّما هي حالة الامتلاء التي شعر بها “الطفل”، هي ما جعلته ينحاز إلى “غريزة” الانحراف المبيّتة. إنّها نفس البورجوازيّة التي انحدر منها غينسبرغ وكيرواك، ونفس البورجوازيّة التي هيأتهم لمسارات أكاديميّة راقية. وربّما هو هذا الانضباط الزائد عن الحاجة، والأقدار المرسومة مسبقًا لأرواح متمرّدة، هي بالذّات ما هيّأ لهذا الطّفل ولع اللعب بالمسدّس وولع السّقوط كإيديولوجيا موجّهة للحياة. يُبَرهن نموذج بوروز هنا، أنّ البورجوازيّة هي النموذج الاجتماعيّ الأمثل والدّفيئة الحاضنة بامتيازاتها وتفوّقها، الذي قد يربّي، دون وعي أحيانًا، داخله أفرادًا يطيحون به وبقيمه.
لم يكن وليام بوروز كاتبًا عبقريًا تقرأ له نصًا فيهزّك بجماليّات النّثر والشّعر وفق معايير الأدب النموذجيّ. كان بوروز حالة أدبيّة، تقليعة حداثيّة سورياليّة فانتازيّة، أشبه بـ "كولاج" ينحت، ويصوّر ويُقحم وينشز، ويعمّق الواقعيّة بكلّ غثيانه وسفالته وجماله. هكذا جاءت روايته الشهيرة "الغداء العاري" وهكذا جاءت روايته الأولى "المدمن"، اعترافات جريئة لكاتب سقط في الإدمان بإرادة ورفض حبل النجاة بإرادة أيضًا.
وكنصّه الأدبيّ العفويّ، كان بوروز أيضًا خليطًا مفتوحًا على العالَم واتجاهاته. فكانَ ناثرًا، وشاعرًا، وكاتب مقالة، ورسامًا ومصوّرًا، وموسيقيًا، ومجرمًا، ومدمنًا ميئوسًا منه، وبوهيميًا، ومثليًا. كان خليطًا من الهارمونيا والنّشاز يشبه العصر الذي أفرزه وأفرز معه حالة من الغليان على المستوى الاجتماعيّ والفرديّ على حدّ سواء. هذا الخليطُ هو ما جعل منه “ماركة مسجّلة” حتّى وهو في الثالثة والثمانين.
عُرف بوروز في صباه فتى فظًا، بعيدًا عن المجتمع، قريبًا من هوايات الصّيد والقنص واللصوصيّة، بورجوازيّا سيّئًا يُعجَبُ بسير الكتّاب اللصوص، يقتحم المنازل، يحملُ سلاحًا وهو في الثامنة ويطلق النّار على الدّجاج، ويبحث عن صديق يشاركه الجريمة على الدوام. هذا الولع بالجريمة والرغبة في السّقوط تجسّد في سيرة الكاتب الإشكاليّة لاحقًا. ففي عام 1944، يرتبط اسم بوروز (وكيرواك) بجريمة قتل هزّت الأوساط الأدبيّة والإعلاميّة الأمرويكيّة، قام فيها لوسيان كار، أَحد الأصدقاء المقرّبين لبوروز وكيرواك، صديقًا له يُدعى ديفيد كاميرر وألقى بجثّته في نهر هدسون، ومثل كلّ من بوروز وكيرواك كشاهدَين تستّرا على الجريمة. وفي عام 1951 قتلَ بوروز زوجته جوان فولمر خطأً في لعبة تسلية بدأت بإطلاق الرّصاص على كأس زجاجيّة فوق رأس جوان، فأصابت الرّصاصة رأس جوان وأردتها قتيلة في الحال. تمكّن من الإفلات من المحاكمة بفضل أموال عائلته وحُكم عليه لمدّة عامَين غيابيا.
هل قتل بوروز زوجته خطأً أم أنّ جنونَ الكاتب لحظتها هو ما دفعه إلى القتل؟ في كلّ الأحوال، تظلّ هذه الحادثة، كما يقول بوروز، حدثًا موجّهًا في حياة الكاتب وفي رؤيته للكتابة والأدب لاحقًا (فقد نشر بوروز أوّل عملٍ أدبيّ سيرذاتيّ له هو المدمن عام 1953، أي فقط بعد عامَين على وقوع الحادثة).
نعم. كان بوروز إنسانًا “إشكاليًا” كما يبدو ظاهريًا، فلَم يترك طقوسًا “سافلة” إلاّ ومارسها وطال الانحراف كلّ جوانب حياة البطل السّيء. قتل الزوجة، الوقوع في الإدمان (المورفين، والهيروئين والماريحوانا والكوكائين والبنزدرين) والذي فلسفه بوروز كـ "أسلوب حياة"، الهويّة الجنسيّة الحائرة، الترحال بين عواصم العالَم : طنجة، باريس نيويورك، لندن، والضّياع كفلسفة جيل وعصر. حتّى في خنصر يده اليّسرى الذي قطعه ليثير إعجاب أحدهم، وحتى في هدوئه الغريب، هدوء من يبيّت خيانة العالَم لحظة بلحظة، وتشويه العاديّ بالصّخب، وحتّى في ممارسته للمثليّة كحال آخرين من أبناء هذا الجيل، كان بوروز منحرفًا بامتياز.
من يقرأ بوروز، يدرك بينه وبين نفسه أنّه لم يكن ناثرًا عظيمًا. وليست هنا النقطة الجوهريّة. كان بوروز تجسيدًا للعقل المنحرف الذي رأى في الحياة وفي الأدب وجهان لعملة واحدة. لذلك، تكمن أهميّته في رمزيّته كظاهرة عبّرت عن ثورة جيل كامل في الستينات والسبعينات. بيل هو ظاهرة اجتماعيّة احتجاجيّة في أدبه وفي حياته، وشأنه شأن تقليعات الهيبيز وموسيقى الجاز والبوب وشأن العالَم الذي كان ينتفضُ وقتها على الرأسماليّة وماكينة الاستهلاك، حاوَل بوروز أن يصرخَ بطريقته في وجه وحشيّة العالَم، فجاء الشّذوذ متطرفًا ردًا على تطرّف العالَم في هذه الوحشيّة.
ليست هناك تعليقات