تتراجع آنا كارينينا عن نواياها وعوض أن تبوح لدولي أخت زوجها فرونسكي بهمومها تبرح المكان، تلقي بنفسها في أول عربةو تُفسح المجال لدواخلها......

من أجل تحقيق الجمال ليس من الضروري الانضباط للقاعدة وشروط الجنس الأدبي.. سوف يرى بعضهم إن هذا المشهد يستبق ما سوف ينجزه جيمس جويس بعد نصف قرن في رائعته عوليس بشكل أكثر تحررا وأكثر وعيا بمنهجية الهذيان... غير إن مونولوغ آنا هو استرداد أو امتداد لمحاولات أخرى كانت تهجس بالتجاوز في أشكال الكتابة السردية والخروج من مأزق الجنس وإعلاء شأن سيرة محارب بطاسة حلاقة... قبل ذلك بقرن تجرأ لورانس شتيرن 1713/1768أن يكسر القاعدة؛ يخوض المغامرة / المقامرة يكتب رواية بشكل متحرر من كل التشريعات والقوانين.
وسط ازدهار الرواية كجنس أدبي جديد يتمرد لورانس شتيرن من أجل كتابة رواية بلا قصة كما يقول هو.. حيث ضبابية الخط السردي ومقاربات تيبوغرافية مختلفة عما هو سائد؛ مزقت وحدة النسيج النصي للأثر من ذلك : صفحات سوداء؛ صفحات بيضاء؛ إدماج علامات الطباعة كجزء من المتن؛ رسوم مصغرة؛ أشكال هندسية.. مع التركيز أساسا على التفاصيل الدقيقة وخلال فصول مطولة سيتوقف لورانس عند أعمال هي في منتهى الدقة ويسلط الضوء على الحدث التافه البسيط.
أصل حكايةتريسترام شانداي إن تريسترام هذا يكتب سيرته بينما هو الغائب الوحيد في الأحداث التي تصنعها الكلمات... وليس ثمة غير الكلماتتصنع الأحداث وتشكل الوجود؛ وهو ما فتح الأفق لشتيرن لامتياح مادة كتابته من منابع متعددة؛ النحو؛ فن الحرب؛ فن الطب؛ فن الطبخ؛ الحكايات الشعبية..
ليس لأن لورانس شتيرن كتب خارج سقف الجنس تابع أثره ليون تولستوي في ما سبق ذكره بشأن مشهد انتحار آنا كارينيا ولكن لأن الإبداع هو هذا التحرر الدائم وإرادة التجاوز والكتابة خارج القاعدة الكتابة بوعي مسلح بالتحرر لذلك سيهتف فلوبير مرة قائلا أريد أن أكتب الفراغ لن يمر وقت طويل لتأـي فرجينيا وولف1882/1941لتقطع نهائيا مع قوانين السرد المعتادة فإذا السرد يؤسسه المونولوغ ويدفعه روايتها الأمواج التي تستعصي على التصنيف حتى أن بعضهم يميل إلى تسميتها بالقصيدة الرواية.. هي الأثر الأكثر إثارة للجدل للخرق العظيم الذي تعمدته؛ فليس الخط السردي هوالعمود الفقري للرواية ومعمارها لا يكاد يتخذ هيأة محددة بقدر ما هو كتابة متحررة بوعي؛ والشخصيات مائعة تتميز باللامبالاة اللانهائية ولم تكن فرجينيا وحدها في إعلان الانقلاب على دساتير الكتابة الروائية بل لعلها كانت متأثرة بمارسيل بروست في روايته البحث عن الزمن الضائع وجويس في عوليس هذا العمل الذي طالما اشمأزت منه ورفضت نشره في الدار التي أسستها صحبة زوجها ولم تكن وولف وحدها من رأى أن أعمال جويس ليست مِؤهلة للنشر؛ بدءا من عمله الأول ناس دبلن ثمصورة الفنان في شبابه وسوف يتطلب الأمر ناشرا أمريكيا ليوصل ستيفن ديدالوس إلى القراء.. كانت حجة رفض الناشرين لأعمال جويس أن أسلوب كتابته لا يستجيب لتطلعات القراء لما يتعمده من إيغال في الهذيان وعدم وضوح خط السرد واهتمامه المبالغ بالتفاصيل الدقيقة والتافه اليومي واستطراداته المطولة ونسفه للدراماتيكية القائمة على الصراع بين الأضداد وما يتطلبه هذا من شخصيات وشخصيات مضادة ولغته التي تنزع نحو الشعرية.. سيثير صدور عوليس سنة 1924 ضجة كبرى في جميع الأوساط بما فيه الأوساط غير الثقافية.. تقنيات مغايرة في بناء الشخصيات؛ مقاربة مختلفة تماما للسائد في البناء المعماري للرواية وتأويل الزمن السردي؛ اتكاء السرد على حالات الذات وهواجسها ومزاجاتها المتقلبة وعدم التعويل على الأحداث لدفع السرد وإعطاء الأولوية للهذيان والحوار الداخلي والمادة الحلمية وهو ما استدعى معجما لغويا مختلفا تماما؛ لغة إشارية إيحائية مكثفة وهو ما سيقتضي تركيبة مغايرة للجملة؛ سيتواصل الآحتفاء بالطاسة في
يقظة فينجان التي رغم أنها لم تنل نفس نجاح عوليس لكنها واصلت نفس التمشي نحو التحرر من انضباطية الجنس الأدبي سيقول عنها بارت:
quot;هو كتاب يفتقر للحسم يعمد إلى إنتاج مشهد لغوي من حيث إنه يحتفي بالدوال على حساب المدلولات؛ إنه شعر النثر
لحق الحلاق الذي سرق منه كيخاد ا طاسته للحلاقة وقال له هات الطاسة فأجابه دون كيشوت هي خوذتي التي سأحارب بها.
جعل جويس من محاولة الاختراق دينا جديا تفشى وجاءت كتابات بروست لترسخ هذا التوجه مما جعل ناتالي ساروت وهي بصدد صاحب البحث عن الزمن الضائع لقد فتح عصر الريبة
فعلا؛ تتالت الأعمال السردية المتمردة؛ سيجيء البولوني فيتولد غمبروفيتش يكتب نصوصا روائية بالقدر الذي لا تتوسل فيه الغنائية تحتكم إلى الواقع عبر فتنة مخيلة متجاوزة ورواياته فيرديدورالأدب الإباحي هي بمثابة شذرات تشردية يتهيَّأ إنها حكايات ولكنها مقاربات نثرية مختلفة ذات منزع شعري و ستأتي رواية السائرون نيامالهيرمان بروخ لتمزج بين خمسة أجناس مختلفة رواية.. قصة.. شعر.. دراسة؛ وستاتي أعمال لولكليزيو الذي يمزج بين أكثر من جنس وينسف القاعدة موظفا كل طاقات الكتابة من اجل إنجاز عمل أكثر تحررا؛ ولعل ما قاله الكاتب الكبير ميلان كونديرا بشأن مائة عام من العزلة لغابريال ماركيز يؤكد فعلا ما قالته ساروت هو عصر الريبة وعدم الاطمئنان ليقين النظريات
إنها واحدة من اعظم النتاجات الأدبية الشعرية التي عرفتها ولم يقل النتاجات الروائية.
عبد الوهاب الملوح
ليست هناك تعليقات