Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

"العاشر من ديسمبر" مجموعة قصصيّة للقاصّ الأميركيّ جورج سوندرس

ريم غنايم "حيث لا جمل لا حقيقة" (الفيلسوف الأمريكيّ ريتشارد رورتي) القراءة الأولى لقصص مجموعة "العاشر من ديسمبر"(2...


ريم غنايم
"حيث لا جمل لا حقيقة" (الفيلسوف الأمريكيّ ريتشارد رورتي)
القراءة الأولى لقصص مجموعة "العاشر من ديسمبر"(2013) للكاتب الأمريكي جورج سوندرس (1958-)، قد توقع أيّ قارىء- مهما بلغت درجة ذكائه- في مطبّات التساؤلات حول الهدف من وراء هذا النّوع من الكتابة القصصيّة. عنصر المفاجأة والتساؤل المتكرر عند القارىء يَثبتان في القراءة الثانية والثالثة، ويقرّان لنا بأننا أمام تمرينات لغويّة وأسلوبية وعمليّات تخصيب لمضامين غريبة يتقاطع فيه الغرائبيّ والسورياليّ مع الواقعيّ. فعلاً، كتابة القصّة القصيرة ليست أمرًا سهلاً، خصوصًا اذا أراد الكاتب أن يقصيها من فخّ تبعيّتها وإلحاقها بجنس الرّواية وكأنّها على هامشها. بأدواته البسيطة والمركّبة، يباغت سوندرس القارىء بعبثيّة المشاهد المأخوذة من الواقع والمعاد صياغتها عبر قنوات التّخييل. رغم وعورة الأسلوب في هذه القصص ورغم الإبهام والتساؤل حول الهدف من وراء هكذا كتابة، لا نشكّ في كون سوندرس كاتب قصّة من الدرجة الأولى وأقرب وصفٍ له أنّه حطّاب ثلوجٍ لا يفعل شيئًا سوى أنّه يذيب الخيالات ويُدخلها الى عالم الواقع بكثير من الإغراب والانتفاء المعجونين أيضًا بدفىء دفين بين ثنايا الحبكات العشر.
تتألّف المجموعة القصصية "العاشر من ديسمبر" من عشر قصص نشرها الكاتب في فترات زمنيّة متباينة (بين الأعوام 1995-2012). وقد اقتنصت هذه المجموعة مكانة لها في قائمة أكثر الكتب مبيعًا في النيو يورك تايمز عام 2013. عشر قصص تمثّل عشر زوايا للمجتمع الأمريكيّ ولماكينة الرأسماليّة التي جبلت هذا المُجتمع وطحنته في طواحين الاستهلاك والتشظّي. أبطال في المكان الصحيح في التوقيت الصحيح يواجهون أسئلة أخلاقيّة وقيميّة محيّرة: في القصة الرابعة نجد حكاية مجرم (جف، في قصّة Escape from Spiderhead يدخل السّجن ويُجبر على المشاركة في حقل تجارب حول أثر دواء مؤلم Darkenfloxx يُعطى له ولمشاركتين (هيذر وريتشل) ليُثبت مدى أثره في امتحان العاطفة بينهم، حتى تنتحر هيذر وينتحر من بعدها جف في امتحان القسوة هذا ليُبعد الألم عن ريتشل. ألعاب فتية خطيرة نجدها في القصّة الأولى (جولة انتصارVictory Lap) التي يقف فيها الصّبي كايل أمام امتحان اخلاقيّ حيال انقاذ-تجاهل صديقته سابقًا- أليسون ابنة الخامسة عشرة من حادثة اختطاف لها حدثت أمام عينيه. وفي قصّة "جروPuppy" التي نرى فيها إحدى البطلات توثق ابنها (الذي يعاني من معيقات ذهنيّة) بجذع شجرة في ساحة البيت حتى لا يهرب من البيت. في قصّة "حضّ Exhortation" نجد رسالة يوجّهها مدير مصلحة ما الى طاقم العاملين في المصلحة، يحثّهم على اتباع القوانين وأن يسلكوا سلوكًا ايجابيًا في هذه المصلحة رغم أننا لا نعرف ما هي القوانين وما هو نوع المصلحة سوى ايحاءات من العنف النّاعم المغلّف بكلام رقيق يوجّهه المدير الى الطّاقم- هو نفس الكلام الذي وجّهه اليه من هم أعلى منه في المصلحة.
على طول هذه القصص، يعيدُ سوندرس رسم الواقعيّة الجديدة، كوميديا الرّعب التي ترتكز على الفكاهة والمرح، والرمزيّة الموغلة في الغموض، والأجواء الحلميّة العشوائيّة. ابن بخللٍ ذهنيّ تقرر أمّه ربطه في شجرة في قصّة الجرو، ربّ أسرة مُفلس يعوّض ابنته بشراء فتيات آليات يُستوردن من العالَم الثالث ليوضَعنَ كَزينة فوق العشب كما في قصّة "مذكرات فتيات السيمبليكا"، وربّ أسرةٍ فقدَ عقله بعد وفاة زوجته لينتهي به الأمر الى الانشغال بتزيين عمودٍ في حديقة بيته. الدّمج المفاجىء والصّادم الى حدّ كبير بين السّذاجة وبين التمرّد، بين الشّعور باليأس والخصاء وبين القدرة على إحداث تغيير ما عبر سلوك الأبطال، المسافة التي تفصل بين ضحكنا وبين بكائنا من مشاهد غروتسكيّة هي الميزات التي تجمع بين معظم قصص هذه المجموعة. على الرّغم من التمايز الواضح في أجواء القصص المكتوبة في أعوام مختلفة، إلا أن هناكَ حركة خفيّة مشتركة للشخصيّات، شخوص محبوسة داخل قلقها الوجوديّ وداخل طموحاتها المتخيّلة بتغيير مكانها في المجتمع الهرميّ. شخوص قادمة من طبقات برجوازيّة صغيرة وطبقات دونيّة تحاول أن تشقّ طريقها في عالم سقفه مجبول بالماديّة (آل روستن Al Roosten ) و (مذكّرات فتاة السيمبليكا The Semplica Girl Diaries")، وفي نفس الوقت نلمس موقفًا نقديًا لاذعًا للمجتمع الأمريكيّ ولسلّمه الطبقيّ تحديدًا تلكَ المجموعات القابعة في سجن البورجوازيّة الدونيّة.
جورج سوندرس ليس كاتب قصّة سهلاً، خصوصًا وأننا أمام عمله الأدبيّ السّادس بعد خمسة أعمال أدبيّة تتراوح بين مجموعات قصصية وروايات قصيرة بدأها في العام 1996 مع مجموعته (أرض حرب أهليّة في أفولٍ رديء Civilwar Land in Bad Decline)- (وهي ست قصص ورواية قصيرة). المسألة متعدّدة الوجوه، سواءً في العوالِم المتمايزة التي يقدّمها لنا سوندرس في هذه المجموعة، أو من حيث الأساليب اللغويّة المُنهكة بالنّسبة للقارىء كونها أساليب ما بعد حداثيّة بامتياز لا تجاري القارىء ولا تتواطأ مع الذائقة الجماهيريّة العامّة، وهذا على ما يبدو ما جعل منه محبوبًا عند كتّاب ما بعد الحداثة الأمريكييّن الأكثر شهرةً أمثال ديفيد فوستر والاس الذي جعل من أدبه بندقيّة محشوة بالرصاص موجّهة نحو رأس الرأسماليّة الأميركيّة ومجتمعها الاستهلاكيّ بجدارة.
تتطلب قراءة قصص سوندرس فرز جهود غاية في الدقّة وغاية في وضوح الموهبة اذ في كتابة القصّة يرمي الكاتب شباكه في منطقة شديدة الحساسية هي التخوم الزئبقيّة الفاصلة-الدامجة بين الواقع وبين الفانتازيا، بين الرّعب وبين الدفء البشريّين. إنّها القدرة على تزويج الحسناء (ببُعدها الواقعيّ) من "الوحش" (ببُعده الخياليّ البعيد عن الواقع). الدّخول في إغراب الواقع، البحث عن شخوص طيّبة في عمقها الباطنيّ، شرّيرة في واقعها الظاهريّ، مونولوجات قصيرة، مشاهد فانتازيا سورياليّة (كما في القصّة الأخيرة العاشر من ديسمبر عنوان المجموعة) والخروج الى الواقع بلا خطّ واضح بينهما، محاولة خلقٍ عالمٍ ثالث لا هو الواقع ولا هو الخيال، هذا هو عمل الكاتب الذي يجعل منه مميّزًا مستخدمًا اللغة كأداة لها اثرها في تحويل نصوصه إلى عالم غرائبيّ ما بعد حداثيّ موغل في الخصوصيّة، نصوص مفتوحة على تأويلات مختلفة يشارك القارىء في خلقها. اللغة الصّعبة الشائكة المتآمرة على صدمة القرّاء في دمج اللغة الدارجة مع اللغة القروسطيّة، هي ما تساهم في خلق هذه الخصوصيّة الما بعد حداثيّة لقصص سوندرس. وإن بدا البنيان العامّ لهذه القصص غير مترابط، من المؤكّد أن سوندرس ينجح عبر جمله وصياغاته اللغويّة بإدراك مفهوم اللعبة المرحة الضاربة في العبثية لترسم واقعًا بشريًا حديثًا هو المأساة في شكلها الجديد. عالمٌ متخيّلٌ متكامل لواقع متهافت سببه الرأسماليّة الوحشيّة.

ليست هناك تعليقات