أسعد قطّان الكتاب المقدّس مكتبة أدبيّة، لا بسبب حجمه أو عدد كتبه فحسب، بل لأنّ هذه الكتب تنطوي على كمّ كبير من الأنواع الأدبيّة. أوَّل...
أسعد قطّان
الكتاب المقدّس مكتبة أدبيّة، لا بسبب حجمه أو عدد كتبه فحسب، بل لأنّ هذه الكتب تنطوي على كمّ كبير من الأنواع الأدبيّة. أوَّل ما يسترعي الانتباه هو أنّ أسفار الكتاب المقدّس تجمع بين الشعر والنثر. كتاب المزامير مثلاً هو من الدفّة إلى الدفًة مجموعة نصوص شعريّة. كتاب أيّوب يزاوج بين النثر والشعر. صورة أيّوب في الشقّ الشعريّ تختلف كثيراً عن صورته في الشقّ النثريّ. أيّوب النثر صبور، واثق بحكمة الله رغم الضربات التي يتلقّاها. أمّا أيّوب الشعر، فيسائل الله ويثور عليه. هذا الافتراق، الذي يمكننا ملاحظته حتّى في النصّ العربيّ المنقول عن العبريّة، يوحي بأنّ أكثر من يد واحدة اشتركت في صوغ هذا الكتاب. وهناك طبعاً نصوص نثريّة صرف بعضها ذو طابع تاريخيّ وبعضها أقرب إلى المرويّات التي تجمع بين التأريخ والتأليف.
السرد (narration) هو قوام الحكاية أو القصّة. وهذه تتّصف بديناميّتها، أي بأنّها تتحرّك في الزمن من بدء ما إلى نهاية ما عبر حبكة وشخصيّات. لا ينحصر السرد بالنثر. فبعض المزامير مثلاً يتّخذ شكل حكاية مسرودة مستمدّة من تاريخ إسرائيل. ولكنّ النثر هو، بلا شكّ، الشكل الأدبيّ المفضّل للسرد لأنّه يتيح حرّيّة أكبر في صوغ الحكايات. طبعاً الكتابة التاريخيّة القديمة تقوم أيضاً على السرد. ولذا، فهي كثيراً ما تتشكّل من عدد كبير من القصص تتراوح في حجمها وعدد شخصيّاتها.
كتابة الحكاية ليست عمليّة اعتباطيّة، بل تمتلك قواعد يدركها القرّاء في العادة بحسّهم الأدبيّ حتّى ولو لم يلمّوا بها علميّاً. كلّ حكاية مثلاً تشتمل على بدء وخاتمة. على وجه العموم، الكاتب يولي الخطوات الأولى من حكايته اهتماماً خاصّاً كما أنّ المؤلّف الموسيقيّ يفرد مكانةً خاصّةً للجمل الأولى في مقطوعة موسيقيّة. فالبدء، أو المقدّمة، هو المدخل إلى عقل القارئ... وإلى قلبه: عبارة «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله»، التي يُستهلّ بها إنجيل مرقس، تضطلع بوظيفة مركزيّة في فهم الإنجيل برمّته. وهذا ينطبق على الآيات الأربع الأولى من إنجيل لوقا، حيث يشرح الإنجيليّ المنهجيّة التي اعتمدها في عمليّة الكتابة، كما ينطبق على ما يعرف بمقدّمة إنجيل يوحنّا (١/١-١٨) التي تشكّل نوعاً من «خارطة طريق» للإحاطة بدلالات هذا النصّ العبقريّ.
ما ينسحب على المقدّمة ينسحب على الخاتمة أيضاً. السؤال عن مغزى خاتمة حكاية أو رواية ما هو من الأسئلة الأساسيّة التي يطرحها كلّ قارئ متمرّس. فإذا أتت هذه الخاتمة «مفتوحةً» مثلاً، ترك هذا لدى القارئ «صدمةً» من المفترض أن تولّد لديه رغبةً في المزيد من التساؤل والتحليل. أوثق المخطوطات القديمة تشير إلى أنّ إنجيل مرقس ينتهي بالآية ٨/١٦: «فخرجن من القبر وهربن، وقد أخذتهنّ الرعدة والدهش، ولم يقلن لأحد شيئاً لأنّهنّ كنّ خائفات» (وهي الآية التي يُختتم بها هذا النصّ لدى قراءته في ليتورجيا الفصح البيزنطيّة). هذه النهاية المفتوحة وغير المتوقّعة هدفها استثارة ردّ فعل خاصّ لدى القارئ. الإنجيليّ مرقس يكسر منطق السرد التقليديّ: إذا كانت النسوة لم يخبرن أحداً بقيامة يسوع بسبب الخوف، كيف انتشر خبر القيامة؟ هنا، السرد يرتطم بحاجز يوحي بأنّ مغزى الخاتمة يتجاوز المنطق السرديّ التقليديّ. ثمّة، إذاً، دعوة للقارئ أن يتفاعل مع الخاتمة بطريقة تتخطّى اعتبار النصّ مجرّد «مصدر» لأحداث حياة يسوع. لقد اقترح الشرّاح احتمالات عدّة لحلّ هذه المعضلة. وأنا، طبعاً، لن أشير إليها تاركاً لقرّاء هذه المداخلة القصيرة أن يبحثوا ويجتهدوا.
أخيراً، إذا كانت العمليّة السرديّة انتقالاً من نقطة إلى نقطة أخرى في الزمن، فهذا الانتقال يمكن أن يكون بطيئاً أو سريعاً. وتيرة السرد تشبه الإيقاع في المقطوعة الموسيقيّة. والقارئ المتمرّس يشبه السمّيع المدرّب الذي يلفته تغيّر الإيقاع، لأنّه كثيراً ما يرتبط بانزياح في التعبير. في حكاية دعوة يسوع لتلاميذه الأوّلين، من الطبيعيّ أن يتوقّع القارئ بعض التفاصيل. ولكنّ الإنجيليّ مرقس يفاجئنا بإسقاط التفاصيل واللجوء إلى الإقلال والتكثيف في السرد: «فرأى سمعان وأخاه أندراوس يلقيان الشبكة في البحر، لأنّهما كانا صيّادين، فقال لهما: اتبعاني أجعلكما صيّادي بشر، فتركا الشباك لوقتهما وتبعاه». باللغة الموسيقيّة، ثمّة نوع من التسريع في الإيقاع، والقارئ مطالب بأن يستوقفه هذا التسريع وأن يسعى إلى تقصّي دلالاته. لعلّ الإنجيليّ لا يبتغي هنا تزويد قرّائه بمعطيات «موضوعيّة» عن دعوة بطرس وأندراوس بقدر ما يهدف إلى مدّهم بمثال نموذجيّ يبيّن لهم كيف يجب أن يكون ردّ فعلهم هم إذا
دعاهم السيّد كما دعا تلاميذه الأوّلين.
(الصورة: الثور-رمز الإنجيليّ لوقا، جدرانيّة، الألزاس-فرنسا)
ليست هناك تعليقات