في ما لا يصلح له المجاز - الرومي

Breaking

Home Top Ad

Responsive Ads Here

Post Top Ad

Responsive Ads Here

الثلاثاء، 24 سبتمبر 2019

في ما لا يصلح له المجاز



 
عمر قدور
«قلَّ الرجال إلى حدِّ لغيرك ما... أشرتُ يوماً إذا ناديتُ: يا رجلُ»

هذا البيت من قصيدة طويلة للراحل جوزيف حرب، ألقاها في القرداحة مؤبّناً حافظ الأسد في أربعينه، حيث لم ينسَ أن يعرج فيها على الإبن البكر باسل الذي كان قد رحل قبل سنوات، وأن يختمها بمديح الإبن الذي كان حينها يتهيأ لاستلام الحكم بأبيات يقول في أحدها: واصعد بشعبك للآتي وأنت كمن... إلى الينابيع بالأشجار يرتحل. جدير بالذكر أن جوزيف حرب نال على موقفه هذا وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة بعد عشر سنوات، أي للمصادفة قبل الثورة السورية بأقل من ثلاثة أشهر، ولم يبدر عنه بعد الثورة ما ينبئ بتغير في موقفه إزاء الحكم في سوريا، الموقف الذي لم تغير فيه ممارسات نظام الوصاية في بلده الأم.

رحل جوزيف حرب، وقد يرى الكثيرون أنه ليس من اللائق الآن نبش مواقفه السياسية أو المآخذ عليها، وربما يكون من سوء الحظ أن يرحل في وقت يشهد هذا الاصطفاف الحاد، وأن لا يتمكن الكثير من السوريين من نسيان المواقف المؤلمة لهم، المواقف المتأتية من شعراء رددوا قصائدهم المغنّاة، أو من شعراء آخرين لطالما ترددت في قصائدهم المجازات المضادة للقهر وللتهميش والإلغاء. جوزيف حرب ليس استثناء كما نعلم، طلال حيدر في تلك الأثناء ساق المبالغة إلى منتهاها فأبّن باسل الأسد في قصيدة يقول في جزء منها: بيشبه أهل بيت النبي.. معصوم ع الميلين.. بتخمنو هلق إجا.. وبتخمنو بعدين. وفيما بعد أبّن حافظ الأسد في قصيدة يقول فيها: شفت الأسد.. بإيده عم يودع عالدنيي السما.. وحوله ملايكة السما تهدّي الجموع. وفي مكان آخر من القصيدة: لما الأسد بينام.. بتتيتم الأيام.. بتقرا ع حالا الفاتحة.. بتقلك عليك السلام.. طلع الصبح لابس سواد الليل ع أسده.. حنوا الدني بشار.. حمل الحزن عن بلده.

مع ذلك، وليس فقط لأننا الآن في زمن من الاصطفاف الحاد، يحضر السؤال عما يدفع شعراء معاصرين إلى مديح الحكام، شعراء يدّعي جلّهم الانتماء إلى الحداثة الشعرية والحداثة العامة لكنهم يظهرون في مدائحهم كأنهم قادمون للتو من بلاط الخليفة أو السلطان؟ يزيد من هول المفارقة أن يستمد هؤلاء مخزونهم من أزمان كان الحكام يؤلّهون فيها، أو يُنظر فيها إليهم ككائنات نصف بشرية ونصف سماوية، فجوزيف حرب يقول في قصيدته الآنفة الذكر: إن كان من رسل لله قد ختموا... فالأرض أيضاً لها من أهلها رسلُ. أما طلال حيدر فمنح العصمة لباسل، ثم أتى بالملائكة لتهدئة الجموع الثكلى بحافظ الأسد! قد نقول إن فائض المحبة يأتي بمبالغات غير مقصودة تماماً، نرى ذلك بخاصة في قصائد الغزل، ولكن عندما ترفع المعاني من شأن الحاكم وتقلل من شأن المحكومين ألا يذكر هذا بأولئك الشبيحة الذين ظهروا في التسجيلات المسربة يرغمون المعتقلين على السجود لصورة بشار وعلى القول إنه ربهم؟

يُسجّل لشعراء كجوزيف حرب وطلال حيدر وضوحهم مقارنة بشعراء آخرين اختبأوا خلف المجازات ليخفوا مواقفهم الحقيقية التي لا تمت بصلة لنصوصهم؛ شعراء حداثيون «بحق» رفعوا راية التغيير، وتناولوا ما اعتبروه من المحرمات، ولكن ما أن نزل الناس محتجين إلى الشوارع حتى اصطفوا مع الحاكم وتنكروا لأطروحاتهم السابقة. البعض منهم لم يتنكر لها، ووجد العزاء بالقول إن «الجموع» الثائرة التي كان يقصدها ليست هؤلاء الرعاع الجهلة الذين قاموا بثورتهم الآن. من غير المهم هنا مناقشتهم بالقول إن الزنوج، في ثورتهم التي دافعوا عنها فيما مضى، لم يكونوا خريجي أوكسفورد مثلاً، وحتى الذين قاموا بمثالهم «الثورة الفرنسية» التي وصفها كثيرون بثورة الرعاع؛ هؤلاء لم يكونوا خريجي السوربون. ما يهمنا في هذا الصدد هو استخدام المقولات كعدة ثقافية ليس إلا؛ قضايا مثل الحريات والحداثة والتقدم كانت فيما مضى معياراً للانتماء إلى الجو الثقافي، أو بالأحرى معياراً للانتماء إلى النخبة، ويمكن المغامرة بالقول إن الثقافة كانت لمدة طويلة لدى الكثيرين مشروع صعود بالمعنى الاجتماعي الضيق للكلمة، فلا هي مشروع ثقافي شخصي، ولا هي مشروع ثقافي أكثر عمومية. وعلى الرغم من أن الصعود الاجتماعي ليس معيباً في حد ذاته، إلا أن أداته هنا لم تكن قائمة على المنجز الشخصي، بل على تمثل ثقافة النخبة الثقافية وتوسل الانضمام إليها.

هكذا كانت المجازات ملائمة تماماً لأنها جسر بين ما يتطلع إليه المثقف من مكانة وبين الثمن الذي لا يود دفعه لقاء ذلك. عادة، يوصف المجاز بأنه جسر بين معنَيَيْن، وفي تلك المسافة الفاصلة بينهما يكمن جماله حيث لا يكون على هيئة المعنى الأول تماماً، ولا على هيئة المعنى الثاني تماماً. يحتمل المجاز الوقوعَ في الحيرة والتردد والشكّ، مثلما يحتمل الإحالة القاطعة إلى طرف من طرفيه، لكنه يبقى أقرب إلى الاحتمال الأول ففيه يتحقق، وعندما ينحاز كلياً إلى أحد الجهتين يكون قد فقد وظيفته الأساسية. وإذا كان المجاز من أعمدة الفن الرئيسية فهو يفقد قيمته سريعاً في عالم السياسة، ويفقدها بخاصة في اللحظات التاريخية الحاسمة، في لحظات القطيعة التي لا تقبل جسراً بين معنى آفل ومعنى قادم. هنا، في الموقف السياسي المباشر، لا بد للشاعر أن يتخلص من مجازاته التي لم تعد تنفع كعدّة، أو على الأقل لا بد له من اعتزال اللحظة الراهنة ليحافظ على قدر من الالتباس في نصوصه. الخيار الثاني ليس سهلاً كما يجري تصوره، فالكثير من الشعراء يعزّ عليهم البقاء خارج دائرة الاهتمام الحالية، ولأنهم لا يقدرون على الانتماء إلى الجموع التي سعوا طويلاً إلى الخروج منها، لأنهم بهذا المعنى لا يقدرون على التخلي عن نخبويتهم المكتسبة، فليس أمامهم سوى الانحياز إلى السلطة القائمة بوصفها مكافئاً لسلطتهم الثقافية، وليس أمامهم سوى الخوف من السلطة القادمة لأنها غير مضمونة أولاً، ولأنها تالياً قد تخلخل من طبيعة «الناموس» الثقافي السائد.

يجدر بالحديث عن الموقف السياسي للراحل جوزيف حرب أن يفتح النقاش على عموم العلاقة بين المثقف والسلطة؛ السلطة بمعناها المتعدد والمتشعب، وبمعنى أن فروعها المتعدد تتآزر لتصنع نظاماً. ذلك بدوره يقتضي تفحص النص الذي كان سائداً، لا بغرض الكشف عن النفاق أو الكذب «فهذه مسألة أخلاقية» وإنما بغرض التدقيق في مدى مواءمته الكلية للنظام السائد، وفي مدى انسجامه مع ادّعاءات الحداثة التي حملها النظام القديم ككل. مثل هذه المساءلة هي التي تمنع إعادة إنتاج النظام نفسه ثانية، وتحبط محاولات النظام القديم الهيمنة على المستقبل بالبنى الأساسية ذاتها بعد تغيير بسيط في توجهاتها السياسية المباشرة. أما على الصعيد الشخصي فقد يكون أفضل تكريم لكاتب راحل أن يُعدّ رحيله مناسبة لمساءلة فعل الكتابة، وأن يجري تخليصه من عيوب نصوصه وعثراتها، ومن ثم الاحتفاظ له بقيمته الحقيقية المجردة عن أغراضه الشخصية. بالتأكيد الذين يُسقطون على الحقل النقدي مقولة «اذكروا حسنات أمواتكم» لن يفهموا ذلك، ومن غير المستبعد أنهم يفكرون في آخرتهم أكثر مما يفكرون في يومنا هذا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Responsive Ads Here

الصفحات