“ذكرى وفاة الشاعر الروسي ماندلشتام
– إعداد و ترجمة: إبراهيم إستنبولي
الشاعر الروسي أوسيب أميليافيتش ماندلشتام 1891 – 1938
كان الشاعر الروسي باراتينسكي يعتبر النحّات والموسيقي والفنان التشكيليّ من بين السعداء :
صاحب الأزميل، والأرغن والريشة !
سعيد كل من لا يتجاوز هذه الحدود،
وستكون له نشوة في الاحتفال الدنيوي …
أما الشعر، وأسفاه، فلم يرد ذكره في تلك القائمة . إلا أننا لن ندع ذلك يكدّرنا … لأنّ الشعر بالتحديد هو الذي مُنِح القدرة على الغوص في أعماق الروح البشرية، أن يدرك مأساة العالم وأن يحمل على كتفيه كل الثقل وكل الألم وكل الحزن
…
وذلك دون أن ييأس أو يتراجع أو يستسلم. بل أكثر من ذلك، لقد استطاع الشعر في مقارعته مع القدر التاريخي والاجتماعي والشخصي أن يكتسب ( خصوصاً الشعر الروسي في القرن العشرين ) المقدرة على الفرح والحبّ والسعادة
…
ومن اللافت أن سمة اليأس والأسى والخيبة لم تتسرب إلى الشعر الروسي في ثلاثينات القرن العشرين – حقبة القهر المرعب للسلطة بحق الإنسان، وإنما في الأوقات الأخفّ وطأة – في سبعينات القرن الفائت : ” العالم بمجمله – حثالة ” – هذا هو الشعار السهل الذي اقترحه شعر الحقبة البريجنيفية للإنسان.
لذلك لم تكن صدفة أن الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام كان أكثر ما يروق له عند يسينين ذلك الشطر المعبّر جداً:
… لم أرم بالرصاص أولئك التعساء في الزنزانات .
للتوّ فقط، وبمناسبة مرور سبعين عاماً على وفاة الشاعر ماندلشتام في معسكر الاعتقال في الشرق الأقصى، تمّ تشييد تمثال للشاعر في موسكو، قرب الشقة التي كانت تعود لأخيه وحيث عاش الشاعر زمناً ما. وفي الفترة نفسها تم تشييد تمثال آخر له في مدينة فَرونيجْ حيث أمضى الشاعر فترة نفيه عام 1934 ..
جاء في انطولوجيا الشعر الروسي التي أصدرها الشاعر الروسي المعاصر ليفغيني يفتوشينكو بخصوص وجود ماندلشتام في مدينة فَرونيج التي أمضى فيها الشاعر فترة نفيه الأولى 1934 ما يلي : ” … رحت أصعد ببطء على السلّم المتخلخل والممتلئ بأعقاب السجائر – ذات السلّم الذي صعدته آنّا أخماتوفا في منتصف الثلاثينات إلى ” غرفة الشاعر المنقوم عليه ” عندما جاءت لتتفقده . كما رحتُ أقرأ على الجدران المتسخة رسائل مؤثّرة كتبت بالفحم أو بواسطة مسمار كان قد تركها زوار الغرفة من مدن مختلفة .. وهنا في فرونيج أيضاً قصوا عليّ حكاية مدهشة. كانت المقبرة قبل الثورة تقع على طرف المدينة. ثم كبرت المدينة وتوسعت فصارت المقبرة بصلبانها وشواهد قبورها تقع في وسط المدينة، مشكلة بذلك مصدر حزن وأسى للمدنية الاشتراكية … فقرر ” آباء المدينة “، بعد أن أبقوا على بعض القبور الهامة، أن يحوّلوا ما تبقّى من المقبرة إلى حديقة وأن يشيدوا فوقها مبنى لسيرك. ولكن الحيوانات كانت أكثر حساسية من البشر .. إذ كانت كما لو تفقد عقلها تخرج عن السيطرة وهي تشعر بنَفَس الموت من تحت الحَلَبَة … ”
كان ماندلشتام ينتمي إلى ذلك الصنف العظيم من الشعراء في روسيا، الذي لم يحاول قط أن يكون ” أكثر من شاعر ” . لكن خصوصية روسيا دفعته لأن يكون. لم ينجح في تحاشي ذلك. لأنه كان يؤمن أكثر من أي شيء بحرية الشاعر … إذ لم يكن داخله خالياً من أي معنى سياسي، بعيداً عن أي مضمون اجتماعي أو يحلّق فوق السحاب .
ولد الشاعر المقبل أوسيب ماندلشتام في عائلة تاجر من الفئة الأولى كان قد تلقى في فتوته تعليماً في مدرسة تلمودية. وكانت أمه عازفة. لقد حصل الولد على تعليم غير منظم وغير مكتمل لكنه كريم … لكن الثورة حظيت باهتمامه أكثر مما هي الدراسة والتجارة والدين اليهودي بل وحتى أكثر من الموسيقى . وقد تشبع بالأدبيات الماركسية بقدر ما قرأ من الشعر . لقد انخرط في الثورة لدرجة أنه لم يكن يفترض حتى في أسخف أحلامه أن تدعوه نفس تلك الثورة ” عدواً للشعب ” . وأكبر شاهد على ذلك قصيدته المؤثرة للغاية والصادقة حتى النخاع ” رَوَاهٌ قرب التابوت ” التي يصف فيها بعينين باكيتين مراسم دفن لينين … التي ما زالت تبعث القشعريرة حتى الآن ولكن لسبب آخر – ألا وهو أنه بات معروفاً اليوم كيف كانت تتمّ وفاة أمثال ماندلشتام الذين آمنوا وصدقوا يوماً ما ذلك الشخص وتلك الثورة، تلك الوفاة التي أقل ما يمكن القول أنها كانت جنازة ” كلبية ” بامتياز، من دون أية مراسم دفن أو وداع .
لقد كان ماندلشتام، وربما بفضل أوهامه الاشتراكية المهدورة، وعلى الأرجح بصورة غير متوقعة من قبله هو نفسه، كان أول شاعر وصم ستالين بما لا يمُحى منذ عام 1933 حين راحوا يلقبونه جهاراً ” القائد العظيم “. لم يكتب ماندلشتام هجاءً وحسب، بل وراح يقرأه على مسامع المحيطين به .. لدرجة أن شينغيلي قال له مباشرة : ” أنا لم أسمع شيئاً … “، أما باسترناك فطلب منه الحيطة والحذر؟ …
كم هي صعبة قراءة رسائله التي كتبها قبل اعتقاله الأخير: ” إنني غير موجود. لم يبق لي سوى حقّ واحد – أن أموت. إنهم يدفعونني وزوجتى للانتحار … لن أنصاع لقرار النفي الجديد هذه المرة. لستُ قادراً “. وبالفعل لم يكن مندلشتام قادراً على تنفيذ قرار النفي .
لقد تنبأ الشاعر بما يخبئ له المستقبل : ” ها قد أمضيت ربع قرن وأنا أخلط ما هو هام مع الأشياء التافهة، لا أكترث البتة بالشعر الروسي، و لكن قريباً ستنصهر أشعاري معه و ستتّحد به، مبدّلة في بنائه وتكوينه ” . وهذا ما حصل .
هنا نورد قصيدة الهجاء التي كانت السبب في نفي ماندلشتام:
نحن نعيش، دون أن نشعر بالوطن من تحتنا،
أحاديثنا لا تُسمع لأبعد من عشر خطوات .
وحيث يوجد ما يكفي لنصف حديث،
فإننا نتذكر الجبليَّ في الكرملين.
أصابعه الثخينة الدهنية كما الديدان،
وكلماته صحيحة كما الأوزان الثقيلة،
وشارباه ” الصرصوريان ” يضحكان،
وتتلألأ رقبة حذائه.
ومن حوله أوباش من القادة بأعناق نحيلة،
وهو يلعب بخدمات أنصاف البشر .
هذا يصفّر، وهذا يموء وذاك يئن،
بينما هو وحده يقصف وينمّ .
كما الحدوة يصدر المرسوم تلو المرسوم –
يصيب هذا في الإرب، ويصيب ذاك في الجبين،
يصيب هذا في الحاجب وذاك في العين.
وكل إعدام عنده – توت عليق
وصدر منتفخ للأوسيتيني1 .
تشرين الثاني 1933
*****
ألطف من اللطف – وجهك،
وأكثر بياضاً من الأبيض – يدك،
وأنت بعيدة عن مجمل العالم،
وكل ما فيك – مما هو لا مفر منه.
ومما هو لا مفر منه –
حزنك،
وأصابع يديك الملتهبتين
والصوت الناعم لأحاديثك غير الشجية،
والبُعْدُ في مقلتيك.
كانون الأول 1909
*****
أوه، أيتها السماء، أيتها السماء،
سوف تأتينني في الحلم !
فمن المستحيل أن تكوني قد عميتِ
وأن يحترق النهار كورقة بيضاء :
قليل من الدخان وبعض الرماد!
24 تشرين الثاني 1911
*****
آخماتوفا
بنصف استدارة، آه أيها الحزن،
رحت تنظرين إلى غير المبالين .
والشال شبه الكلاسيكي جَمَد
وقد راح ينزاح عن الكتفين .
وصوت كله شؤم – يا للنشوة المريرة –
راح يزيل القيود عن أعماق الروح :
هكذا – يا فيدرا الساخطة –
وقفت يوماً ما راشيل .
9 كانون الثاني 1914
*****
وقد حرمتموني من البحار ومن
الجري المتأهب ومن الإقلاع،
وبعد أن منحتم قدمي
الأرضَ القسرية استناداً،
ماذا حققتم ؟ فالحساب الباهر :
لم تتمكنوا من نزع الشفاه الهامسة .
أيار 1935
*****
لم تمت أنت بعد، ما زلت غير وحيد،
طالما أنك تستمتع بعَظَمة السهول.
وبالعتمة ، وبالبرد وبالعاصفة الثلجية .
ولتحيا بصبر في الفقر الباذخ
وفي الشقاء العظيم .
مجيدة هي تلك الأيام والليالي،
وغير آثم العمل العذب .
إنه لتعس ذاك، الذي يخيفه النباح،
كما ظله، وترميه الرياح،
وبائس مَن ذاته يقف نصف حيّ
قرب الظلّ ويطلب الصدقة.
كانون الثاني 1937
وأخيراً لم يبق سوى أن نشير إلى أنه تنبهت مؤخراً السلطات في كلّ من موسكو و فورونيج .. فتم تشييد تمثال برونزي للشاعر ماندلشتام عشية الذكرى السبعين لرحيله. والجميل في التمثال هي وضعية الرأس المرفوع بالضبط كما كان الشاعر إبّان حياته.
– إعداد و ترجمة: إبراهيم إستنبولي
الشاعر الروسي أوسيب أميليافيتش ماندلشتام 1891 – 1938
كان الشاعر الروسي باراتينسكي يعتبر النحّات والموسيقي والفنان التشكيليّ من بين السعداء :
صاحب الأزميل، والأرغن والريشة !
سعيد كل من لا يتجاوز هذه الحدود،
وستكون له نشوة في الاحتفال الدنيوي …
أما الشعر، وأسفاه، فلم يرد ذكره في تلك القائمة . إلا أننا لن ندع ذلك يكدّرنا … لأنّ الشعر بالتحديد هو الذي مُنِح القدرة على الغوص في أعماق الروح البشرية، أن يدرك مأساة العالم وأن يحمل على كتفيه كل الثقل وكل الألم وكل الحزن
…
وذلك دون أن ييأس أو يتراجع أو يستسلم. بل أكثر من ذلك، لقد استطاع الشعر في مقارعته مع القدر التاريخي والاجتماعي والشخصي أن يكتسب ( خصوصاً الشعر الروسي في القرن العشرين ) المقدرة على الفرح والحبّ والسعادة
…
ومن اللافت أن سمة اليأس والأسى والخيبة لم تتسرب إلى الشعر الروسي في ثلاثينات القرن العشرين – حقبة القهر المرعب للسلطة بحق الإنسان، وإنما في الأوقات الأخفّ وطأة – في سبعينات القرن الفائت : ” العالم بمجمله – حثالة ” – هذا هو الشعار السهل الذي اقترحه شعر الحقبة البريجنيفية للإنسان.
لذلك لم تكن صدفة أن الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام كان أكثر ما يروق له عند يسينين ذلك الشطر المعبّر جداً:
… لم أرم بالرصاص أولئك التعساء في الزنزانات .
للتوّ فقط، وبمناسبة مرور سبعين عاماً على وفاة الشاعر ماندلشتام في معسكر الاعتقال في الشرق الأقصى، تمّ تشييد تمثال للشاعر في موسكو، قرب الشقة التي كانت تعود لأخيه وحيث عاش الشاعر زمناً ما. وفي الفترة نفسها تم تشييد تمثال آخر له في مدينة فَرونيجْ حيث أمضى الشاعر فترة نفيه عام 1934 ..
جاء في انطولوجيا الشعر الروسي التي أصدرها الشاعر الروسي المعاصر ليفغيني يفتوشينكو بخصوص وجود ماندلشتام في مدينة فَرونيج التي أمضى فيها الشاعر فترة نفيه الأولى 1934 ما يلي : ” … رحت أصعد ببطء على السلّم المتخلخل والممتلئ بأعقاب السجائر – ذات السلّم الذي صعدته آنّا أخماتوفا في منتصف الثلاثينات إلى ” غرفة الشاعر المنقوم عليه ” عندما جاءت لتتفقده . كما رحتُ أقرأ على الجدران المتسخة رسائل مؤثّرة كتبت بالفحم أو بواسطة مسمار كان قد تركها زوار الغرفة من مدن مختلفة .. وهنا في فرونيج أيضاً قصوا عليّ حكاية مدهشة. كانت المقبرة قبل الثورة تقع على طرف المدينة. ثم كبرت المدينة وتوسعت فصارت المقبرة بصلبانها وشواهد قبورها تقع في وسط المدينة، مشكلة بذلك مصدر حزن وأسى للمدنية الاشتراكية … فقرر ” آباء المدينة “، بعد أن أبقوا على بعض القبور الهامة، أن يحوّلوا ما تبقّى من المقبرة إلى حديقة وأن يشيدوا فوقها مبنى لسيرك. ولكن الحيوانات كانت أكثر حساسية من البشر .. إذ كانت كما لو تفقد عقلها تخرج عن السيطرة وهي تشعر بنَفَس الموت من تحت الحَلَبَة … ”
كان ماندلشتام ينتمي إلى ذلك الصنف العظيم من الشعراء في روسيا، الذي لم يحاول قط أن يكون ” أكثر من شاعر ” . لكن خصوصية روسيا دفعته لأن يكون. لم ينجح في تحاشي ذلك. لأنه كان يؤمن أكثر من أي شيء بحرية الشاعر … إذ لم يكن داخله خالياً من أي معنى سياسي، بعيداً عن أي مضمون اجتماعي أو يحلّق فوق السحاب .
ولد الشاعر المقبل أوسيب ماندلشتام في عائلة تاجر من الفئة الأولى كان قد تلقى في فتوته تعليماً في مدرسة تلمودية. وكانت أمه عازفة. لقد حصل الولد على تعليم غير منظم وغير مكتمل لكنه كريم … لكن الثورة حظيت باهتمامه أكثر مما هي الدراسة والتجارة والدين اليهودي بل وحتى أكثر من الموسيقى . وقد تشبع بالأدبيات الماركسية بقدر ما قرأ من الشعر . لقد انخرط في الثورة لدرجة أنه لم يكن يفترض حتى في أسخف أحلامه أن تدعوه نفس تلك الثورة ” عدواً للشعب ” . وأكبر شاهد على ذلك قصيدته المؤثرة للغاية والصادقة حتى النخاع ” رَوَاهٌ قرب التابوت ” التي يصف فيها بعينين باكيتين مراسم دفن لينين … التي ما زالت تبعث القشعريرة حتى الآن ولكن لسبب آخر – ألا وهو أنه بات معروفاً اليوم كيف كانت تتمّ وفاة أمثال ماندلشتام الذين آمنوا وصدقوا يوماً ما ذلك الشخص وتلك الثورة، تلك الوفاة التي أقل ما يمكن القول أنها كانت جنازة ” كلبية ” بامتياز، من دون أية مراسم دفن أو وداع .
لقد كان ماندلشتام، وربما بفضل أوهامه الاشتراكية المهدورة، وعلى الأرجح بصورة غير متوقعة من قبله هو نفسه، كان أول شاعر وصم ستالين بما لا يمُحى منذ عام 1933 حين راحوا يلقبونه جهاراً ” القائد العظيم “. لم يكتب ماندلشتام هجاءً وحسب، بل وراح يقرأه على مسامع المحيطين به .. لدرجة أن شينغيلي قال له مباشرة : ” أنا لم أسمع شيئاً … “، أما باسترناك فطلب منه الحيطة والحذر؟ …
كم هي صعبة قراءة رسائله التي كتبها قبل اعتقاله الأخير: ” إنني غير موجود. لم يبق لي سوى حقّ واحد – أن أموت. إنهم يدفعونني وزوجتى للانتحار … لن أنصاع لقرار النفي الجديد هذه المرة. لستُ قادراً “. وبالفعل لم يكن مندلشتام قادراً على تنفيذ قرار النفي .
لقد تنبأ الشاعر بما يخبئ له المستقبل : ” ها قد أمضيت ربع قرن وأنا أخلط ما هو هام مع الأشياء التافهة، لا أكترث البتة بالشعر الروسي، و لكن قريباً ستنصهر أشعاري معه و ستتّحد به، مبدّلة في بنائه وتكوينه ” . وهذا ما حصل .
هنا نورد قصيدة الهجاء التي كانت السبب في نفي ماندلشتام:
نحن نعيش، دون أن نشعر بالوطن من تحتنا،
أحاديثنا لا تُسمع لأبعد من عشر خطوات .
وحيث يوجد ما يكفي لنصف حديث،
فإننا نتذكر الجبليَّ في الكرملين.
أصابعه الثخينة الدهنية كما الديدان،
وكلماته صحيحة كما الأوزان الثقيلة،
وشارباه ” الصرصوريان ” يضحكان،
وتتلألأ رقبة حذائه.
ومن حوله أوباش من القادة بأعناق نحيلة،
وهو يلعب بخدمات أنصاف البشر .
هذا يصفّر، وهذا يموء وذاك يئن،
بينما هو وحده يقصف وينمّ .
كما الحدوة يصدر المرسوم تلو المرسوم –
يصيب هذا في الإرب، ويصيب ذاك في الجبين،
يصيب هذا في الحاجب وذاك في العين.
وكل إعدام عنده – توت عليق
وصدر منتفخ للأوسيتيني1 .
تشرين الثاني 1933
*****
ألطف من اللطف – وجهك،
وأكثر بياضاً من الأبيض – يدك،
وأنت بعيدة عن مجمل العالم،
وكل ما فيك – مما هو لا مفر منه.
ومما هو لا مفر منه –
حزنك،
وأصابع يديك الملتهبتين
والصوت الناعم لأحاديثك غير الشجية،
والبُعْدُ في مقلتيك.
كانون الأول 1909
*****
أوه، أيتها السماء، أيتها السماء،
سوف تأتينني في الحلم !
فمن المستحيل أن تكوني قد عميتِ
وأن يحترق النهار كورقة بيضاء :
قليل من الدخان وبعض الرماد!
24 تشرين الثاني 1911
*****
آخماتوفا
بنصف استدارة، آه أيها الحزن،
رحت تنظرين إلى غير المبالين .
والشال شبه الكلاسيكي جَمَد
وقد راح ينزاح عن الكتفين .
وصوت كله شؤم – يا للنشوة المريرة –
راح يزيل القيود عن أعماق الروح :
هكذا – يا فيدرا الساخطة –
وقفت يوماً ما راشيل .
9 كانون الثاني 1914
*****
وقد حرمتموني من البحار ومن
الجري المتأهب ومن الإقلاع،
وبعد أن منحتم قدمي
الأرضَ القسرية استناداً،
ماذا حققتم ؟ فالحساب الباهر :
لم تتمكنوا من نزع الشفاه الهامسة .
أيار 1935
*****
لم تمت أنت بعد، ما زلت غير وحيد،
طالما أنك تستمتع بعَظَمة السهول.
وبالعتمة ، وبالبرد وبالعاصفة الثلجية .
ولتحيا بصبر في الفقر الباذخ
وفي الشقاء العظيم .
مجيدة هي تلك الأيام والليالي،
وغير آثم العمل العذب .
إنه لتعس ذاك، الذي يخيفه النباح،
كما ظله، وترميه الرياح،
وبائس مَن ذاته يقف نصف حيّ
قرب الظلّ ويطلب الصدقة.
كانون الثاني 1937
وأخيراً لم يبق سوى أن نشير إلى أنه تنبهت مؤخراً السلطات في كلّ من موسكو و فورونيج .. فتم تشييد تمثال برونزي للشاعر ماندلشتام عشية الذكرى السبعين لرحيله. والجميل في التمثال هي وضعية الرأس المرفوع بالضبط كما كان الشاعر إبّان حياته.