إنّ أخطر ما جاء في بيان مطرانية جبيل المارونية (22 تموز 2019) ليس اعتراضها على إقامة حفل "مشروع ليلى" في مدينة جبيل (مع الإشارة...
إنّ أخطر ما جاء في بيان مطرانية جبيل المارونية (22 تموز 2019) ليس اعتراضها على إقامة حفل "مشروع ليلى" في مدينة جبيل (مع الإشارة إلى أنّ الفرقة كانت قد عزفت في نفس المدينة ونفس المهرجان قبل تسع سنوات بحضور رئيس الحكومة ورئيس بلدية المدينة). فللمطرانية أن تعبّر عن رأيها، ولمن يلتزم أو تلتزم بموقفها أن يقاطع أو تقاطع الحفل وهذا خياره/ها الحرّ؛ إنّما الأخطر هو ما جاء في الطلب الذي وجّهته المطرانية في ختام البيان إلى المركز الكاثوليكي للإعلام ل"القيام بالمقتضى". فما هي تداعيات هذه النداء؟ وكيف يمكن قراءة تواتر الأحداث التي أدّت إلى إلغاء الحفل من قبل إدارة مهرجانات جبيل؟ والأهم من ذلك، ما العمل إزاء ما يحصل؟
لكل مرجعية طائفية في لبنان مجالس مشابهة، وقد اعتادت الأجهزة الأمنية الرقابية على "الاسترشاد" بها في سياق عملها. فمفهوم الرقابة المسبقة، وهو من ميزات الدولة البوليسية من زاوية الحقوق والحريات، لا يزال القاعدة الأساس في مجال التعبير الفنّي والثقافي والإبداعي، وهو مترسّخ في قوانين باهتة تمنح صلاحية استنسابية للأجهزة الأمنية لمنع أي عمل سينمائي أو مسرحي أو حتى مناشير لا تحترم "عواطف الجمهور وشعوره واجتناب إيقاظ النعرات العنصرية والدين" . وفي حين كانت هذه الأجهزة "تسترشد" بتوصيات المراجع الطائفية من وراء الكواليس، حيث تمكنّـت من منع عرض مئات الأفلام والمسرحيات خلال العقود الماضية بموجب قرارات أحياناً شفهية وتخلو من أي تعليل وأسباب للمنع، ها هي هذه الأخيرة، أي المراجع، تظهر هذه المرة علناً، للرأي العام ولأجهزة الدولة على حدّ سواء، وإزاء أعمال فنّية لا تستند فيها الرقابة المسبقة حتى على أي تشريع أو نص تنظيمي، أنّها في هذه الحالة الآمر الناهي في هذا المجال.
لمن يعتبر نفسه أنه انتصر نتيجة إلغاء الحفل، فهو حقيقة الأمر قد ساهم في ترسيخ ممارسة خطيرة، ليس فقط لأنّها تخالف الدستور والحرّيات والحقوق الأساسية (فهذا أمر بات عرفاً في بلدنا)، بل لأنّ هذا الانتصار يمكن أن ينقلب ضده إذا ما جاء عهد أقوى أو استشعرت طائفة أخرى بأنّ عملاً ما يمسّ بعواطف جمهورها وقواعدها. أمّا لمن ساند إقامة الحفل، بمعزل عن رأيه بأداء الفرقة، فقد بات من الملّح الخروج من دوامة ردة الفعل والذهاب إلى أصل المشكلة بدلاً من تحميل أفراد أو فرقة أو مهرجان أو حتى مسؤولٍ ما وزر وعبء معركة ذات أبعاد وتداعيات سياسية وحقوقية واجتماعية جسيمة.
إنّ تظهير ما حصل على أنّه نزاع بين "مناصري/ات" حرية التعبير و"مناصري/ات" حرية المعتقد يؤدّي حقيقة الأمر إلى زيادة التعصب -تعصب الرأي والتعصب الديني على حد سواء- والأخطر والأهم يساهم في تمادي الدولة في التنصل من دورها. فالمهزلة التي شهدناها تتكرّر في كل مناسبة تستبق أو تعتبر فيها المرجعيات الطائفية بأنّ عملاً - أو حتى طرحاً - ينتقص من صلاحيتها وامتيازاتها، والمشهد ذاته أيضاً يتكرّر: دولة بجميع مؤسساتها الدستورية إمّا تخضع أو تنأى بنفسها، ومرجعيات طائفية تفرض سلطة أمر واقع، وأفراد ينزلقون في فخّ الفرز، مع أو ضد "مشروع ليلى"، مع أو ضد الكنيسة ...(أو أي أمر أو مرجع ديني آخر).
تحرك القضاء بناءً على شكوى تقدّم بها أحد المواطنين ضدّ أعضاء الفرقة لأسباب مشابهة لموقف المطرانية، وهذا حقّه. إلاّ أنّ ظروف القضية لم تكن تستدعي بتاتاً تدخل الأجهزة الأمنية، وكان من الأجدى حصر التحقيقات بقضاء التحقيق حيث حق الدفاع مصان والتمثيل القانوني ملزم بموجب القانون. وأهم من ذلك، كان من الضروري أن يتحرك من تلقاء نفسه لوضع حد للتهديدات وأعمال الترهيب التي تعرّض لها أعضاء الفرقة وأسَرهم. وبالرغم من أن مدعى عام جبل لبنان أخلى سبيل أعضاء الفرقة على أثر التحقيقات وقضت بعدم توفر أي جرم، تفاقمت الأمور واشتدّت التعبئة الطائفية ووصل خطاب الكراهية لحدّ الحضّ على القتل.
إزاء كل هذه التطورات، التزمت المرجعيات الطائفية الصمت -وهنا نتساءل عما كان سيكون موقفها في حال نفذّ البعض تهديداتهم/هن- ولم تُعد النظر بجسامة تداعيات موقفها: بل على العكس تشبثّت به من خلال إصدار بيان موقع من مدير المركز الكاثوليكي للإعلام يطالب مرّة أخرى بوقف الحفل (29 تموز 2019). أمّا الوزارات المعنية - كوزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة الثقافة (ولحسن حظنا أن توزيع الوزارات في هذه القضية يحترم الكوتا الطائفية وحجم الكتل النيابية عملاً بالمحاصصة اللبنانية) - والتي هي المؤتمنة على سلامة المواطن/ة وأمنه/ها وحقوقه/ها وحرياته/ها، فقد ارتكبت حقيقة الأمر جرماً بحق مواطنيها ومواطناتها نتيجة عدم الفعل حيث امتنعت عن اتخاذ أي إجراء وإصدار أي موقف وتحريك أي جهاز من أجهزتها لوضع حدّ للسجال القائم وفرض سلطة القانون.
إن ملاءمة مدى وأشكال ممارسة الحريات في المجتمعات ليست حصراً معضلة لبنانية، وهو أمرٌ نشهده في أكثر الدول تطوراً وديمقراطية، ويمكن أن تنجرف بسهولة إلى أعمال تطرف وعنف كما نشهد اليوم. فالضمانة الوحيدة لصون هذه الحريات، بعدالة وإنصاف ودون تمييز، تتحقّق من خلال تكريس دولة القانون وسلطة القضاء المستقل بصفته حامي الحريات، كل الحريات، أكانت حرية المعتقد أو التعبير أو التجمع أو التظاهر أو غيرها والتي قد يحصل أحياناً أن تتعارض. وفي حال اعتبرت أي جهة أنّها متضرّرة من أي قول أو فعل أو عمل صادر عن جهة أخرى، فلها أن تلجأ إلى المؤسسة الدستورية الوحيدة المخوّلة التثبت من وقوع ضرر أو عدمه أي القضاء المستقل، بناء على وقائع وأدلة واستناداً إلى الدستور والتشريعات المدنية، وبالتالي حسم أي نزاع يمكن أن ينشأ في هذا الصدد بدلاً من التنصل منه وتركه يتأجج في الشارع.
إنّ ما نشهده اليوم يتجاوز، قضية "مشروع ليلى" على أهميتها، ويضع الجميع أمام استحقاق بالغ الأهمية. لا يمكن تجاهل مدى حدّة انقسام الرأي العام الذي استغلّته بعض الجهات لتظهير هذه القضية على أنّها مسألة تهدّد الطائفة أو تمسّ بالإيمان وبالدين. ومن غير المجدي اعتبارها معركة "وجودية" بين "المؤمنين" من جهة، والفنانين أو المدافعين عن حرية التعبير من جهة أخرى. إن الاختلاف في الآراء والمعتقدات والمواقف والأفعال هو أمر محسوم وعاد لا مفر منه، ويتغيّر بحسب الظروف والسياق. والمسؤولية تقع حصراً على عاتق الدولة، والمطلوب منها أن تقوم بواجبها وتضطلع بدورها في إدارته وتنظيمه والبت بالنزاعات الناشئة عنه من خلال مؤسساتها الدستورية التي هي في هذه الحالة القضاء المستقل واعند الحاجة لأجهزة الأمنية المناط بها تطبيق قرارات هذا القضاء.
ولتحقيق ذلك، يقتضي أولاً أن تستعيد الدولة دورها في ضمان الأمن لكل مواطناتها ومواطنيها، بمعزل عن رأيهم أو معتقدهم أو انتمائهم الديني أو عدمه، والتصدّي لأي محاولة تضليل وتجييش واحتقان الرأي العام، يليه ورشة عمل تشريعية شاملة ومتكاملة تبدأ بإلغاء القوانين الباهتة التي تمنح الأجهزة الأمنية والمرجعيات الطائفية سلطة استنسابية ومطاطة تؤدّي في أغلب الأحيان إلى انتهاكات جسيمة. ويقتضي استكمال هذه الخطوة بإصدار تشريعات حديثة تحظّر جميع أشكال الرقابة المسبقة على الأعمال الفنّية والإبداعية، وبشكل عام على جميع وسائل التعبير وتكرّس مبدأ الرقابة اللاحقة القضائية دون سواها، على أن يقترن ذلك بمراجعة وإصلاح قانون العقوبات اللبناني الذي لا يزال يتضمن أحكاماً قمعية تعود إلى أوائل القرن الماضي والتي غالباً ما تلجأ إليه الأجهزة الأمنية لملاحقة مبدعين وفنانين ومثقفين وناشطين. وأخيراً وليس آخراً، تحمل القضاء المستقل دوره دون غيره وصيانة الدولة لقراراته حصراً.
نايله جعجع
ليست هناك تعليقات