أسعد قطّان: حين يظهر الله... أو يحتجب!

alrumi.com
By -
0



ليس صحيحاً أنّ الكنيسة عاشت حقبةً من الزمن من دون كتب مقدّسة (scripture). فما يُعرف اليوم بالعهد القديم كان كتاب الكنيسة منذ البدء. يسوع الناصريّ استعار من هذا الكتاب مصطلحاته معتبراً أنّ حكايته هو تنتسب إلى قصّة الله مع شعبه إسرائيل، التي يسرد العهد القديم خطوطها الكبرى. بنوّة المسيح لإله إبرهيم وإسحق ويعقوب، التي تكاد تشهد عليها كلّ صفحة من صفحات العهد الجديد، لا تترك أيّ مجال للفصل بين إله للعهد القديم عنفيّ ودمويّ وإله للعهد الجديد محبّ ورحيم. هذا الرأي تبلور في الأوساط اللاهوتيّة في القرنين الميلاديّين الثاني والثالث وما زال ملزماً للمسيحيّين إلى اليوم. أنت لا تقدر أن تكون مسيحيّاً إذا قبلت العهد الجديد بلا العهد القديم، لأنّك لا تستطيع الانتساب إلى خاتمة الحكاية من دون اعتناق بدايتها.

ولكنّ عدم الفصل بين العهدين لا يعني عدم التمييز. وهذا التمييز له طابع تفسيريّ بالدرجة الأولى. ماذا يعني هذا الكلام؟ لقد شهد القرنان الثاني والثالث ظاهرةً لعلّها الأهمّ في تاريخ الكنيسة تتلخّص بارتقاء عدد من الكتب التي ترتبط مباشرةً بيسوع الناصريّ إلى مصافّ الكتب القديمة من حيث الأهمّيّة. هذه الكتب، التي عُرفت بالعهد الجديد، وذلك في مقابل الكتب القديمة التي أشار إليها المسيحيّون بلفظ «العهد القديم»، صارت تشكّل معها «الكتاب المقدّس» المسيحيّ. ولكنّ هذا الالتحام في كتاب مقدّس واحد لم يقتصر على الشكل، بل تعدّاه إلى قرار تفسيريّ ذي دلالات بالغة الأثر، وهنا بيت القصيد. لقد أدرك مفكّرو الكنائس الأولى، التي تناثرت حول المتوسّط، أنّ حكاية يسوع، ولا سيّما موته وقيامته، تضطلع بدور معياريّ بالنسبة إلى فهم العهد القديم. نصوص التوراة ملهَمة طبعاً، ولكنّها تعكس صورة الله بمقادير مختلفة لا تؤلّف بالضرورة خطّاً تصاعديّاً من النصّ الأقدم إلى النصّ الأحدث كما يحلو لبعضهم أن يصوّر. بكلمات أخرى، الله يظهر أو يحتجب في نصوص العهد القديم تبعاً للسياق. هو يحتجب مثلاً في النصوص العنفيّة. ولكنّه يظهر بكثافة في النصوص التي تعكس محبّته اللامتناهية ورحمته وحنانه.


ما هو المنطق الذي يسوس هذه المقاربة؟ إنّه، بكلّ بساطة، صليب يسوع. فحادثة موت يسوع على الصليب هي أدقّ تعبير عن حقيقة الله. بالصليب كشف الله أنّ المحبّة والرحمة والغفران واللاعنف هي الأصل في طبيعته. ومن ثمّ، فإنّ نصوص الكتاب المقدّس التي تنسب إلى الله القتل والانتقام والعنف الدمويّ يجب عزوها إلى إسقاطات بشريّة. كيف ذلك وكتّاب الأسفار الإلهيّة ملهمون؟ الإلهام في المقترب المسيحيّ لا يستتبع أنّ المؤلّفين باتوا خارج التاريخ وتجرّدوا كلّيّاً من العناصر الثقافيّة والذهنيّة السائدة في زمنهم. والحقّ أنّ الإلهام لا يمحو المعطى الإنسانيّ، بل يلوح من خلاله، كما أنّ الإلهيّ في يسوع لا يعطّل الإنسانيّ، بل يعزّزه ويرسّخه ويتبدّى بواسطته.


حدث صلب يسوع وقيامته يمتلك، إذاً، قيمةً مرجعيّةً بالنسبة إلى نصوص الكتاب المقدّس برمّتها، ولا سيّما نصوص العهد القديم، إذ بواسطة هذا الحدث يتقرّر مدى ظهور الله أو احتجابه في النصوص المقدّسة. هذا الفهم الذي تبلور في فجر المسيحيّة لم يفقد شيئاً من رونقه. وهو ما زال يشكّل إلى اليوم قاعدةً ذهبيّةً حين نطرح السؤال عن العلاقة بين العهدين القديم والجديد.


(الصورة: المصلوب، غاليريا باربيريني، روما)

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)