ترجمة محمد رشو لم أكن قد رأيته منذ خمسة وعشرين عاماً، وفجأة قابلته عند مدير مهمات في شركة. «ينبغي أن تأتي ذات مرة،» قال يوهانس «وحينها...

ترجمة محمد رشو
لم أكن قد رأيته منذ خمسة وعشرين عاماً، وفجأة قابلته عند مدير مهمات في شركة. «ينبغي أن تأتي ذات مرة،» قال يوهانس «وحينها سنتكلم.» أعطاني عنوانه وخرج من الغرفة، مصفّراً بهدوء، مرتباً، كأي إمرء قضى يوماً طيباً.
بعدها بستة أيام، كنت أجلس بجانبه على الشرفة الأمامية الصغيرة لشقته، في الطابق الثاني، في أحد شوارع أمستردام الضيقة التي تعود إلى القرن التاسع عشر. كانت أمسية صيفية هادئة، شربنا الشاي الذي كان قد أعده في إبريق شاي ياباني مصنوعٍ من حديد الزهر المصبوب.
«لقد تخلصتُ مؤخراً من كلّ شيء تقريباً.» قال وهو يلقي نظرةً حوله، على غرفة معيشته التي كانت خالية، سوى من بعض وسائد الجلوس. كانت الجدران محض سطوحٍ بيضاء بدون أية دوكرة هنا أوهناك. «ستتذكر أنه كان لديّ فيما مضى الكثير من الأغراض.»
«أجل،» قلت، رغم أنني لم أعد أستطيع أن أتذكر وضعه المعيشي السابق. آنذاك كنا نعيش في غرف الطلبة التي كانت صغيرةً للغاية إلى درجة أن الأمر كان يبدو كما لو أنه كان لدينا الكثير من الأغراض. ولكن لم يكن من الممكن أيضاً، إنكار حقيقة أن مسكنه الحالي كان مفروشاً بشكل مقتصد للغاية وعلى نحوٍ لا يوصف.
«هل استلهمت هذا من معلمة الترتيب اليابانية؟» قلت.
«لا!» صرخ يوهانس، كما لو أن سؤالي كان يتضمن افتراضاً شريراً ينبغي حله في أسرع وقت ممكن. لقد صدمت من ضراوته المفاجئة، وعلى الفور أدركتُ مرة أخرى أنه فيما مضى أيضاً، كان فيه شيءٌ من غرابة الأطوار، وكيف أنني كنت دائماً على حذرٍ ما حين حضوره.
«لأجل هذا الأمر، لست بحاجة إلى معلم روحي أبداً.» قال يوهانس.
قررت ألا أسأله فيما كان يحتاج هو إذن، إلى معلم روحي، مَنْ يعرف، ربما قد يثور مرة أخرى. حتى وقبل أن يكون في مقدوري أن أسأله أي شيءٍ آخر، رفع يوهانس يده. «أتسمع هذه الموسيقى؟»
كنتُ قد سمعت الموسيقى لبعض الوقت. البانك روك الصاخب، كانت تنبعث من الجانب الآخر من الشارع، من الطابق الثالث، حيث كانت النوافذ مفتوحة على مصاريعها. جار الطابق العلوي كان من قد رفع الصوت عالياً.
«فرقة دمى نيويورك،» قلت «كان ذلك منذ زمن طويل.»
«هذه موسيقاي أنا،» قال يوهانس.
«نعم؟ هل ما زلت تستمع إلى ذلك؟» سألتُ متفاجئاً.
«لا، إنها حقاً موسيقاي أنا،» قال بابتسامة صغيرة تكاد أن تكون اعتذاراً. «عندما قمتُ بتنفيض البيت، وضعتُ تسعة صناديق ممتلئة بأشرطة الكاسيت على الرصيف. أنت تتذكر أنني كنتُ فيما مضى أقتني كل شيء؟ لا أحد كان بحوذته موسيقى مثلي. في المساء نفسه رأيتُ أن كل تلك الصناديق قد اختفت. أخذها الطلاب الذين يسكنون في الطرف الآخر مقابلنا، سرعان ما أصبح ذلك واضحاً.»
ابتسم مرة أخرى. ومع هذه الابتسامة بدا مسترخياً، مرتاحاً، مبتهجاً طائشاً كما الصبيان، بدا شخصاً يحيا هكذا بلا قواعد صارمة للحياة. «أقضي الصيف بأكمله هنا على شرفتي أستمع إلى موسيقاي الخاصة. أنا لن أسير بعد الآن فقط وفق ما هو مسلسلٌ لنا. غريب، أليس كذلك؟ أنت تريد أن تفقد ما تمتلكه، وإذ تنالُ ما كنت تمتلكه على الفور مرتداً إليك مرة أخرى. تماماً كالرجل الذي في حكاية الخاتم والسمكة. على الرغم من أن الأمر يبدو مدروساً بعناية، فليس ما كنت تمتلكه قد ارتد إليك مرة أخرى، إذ الموسيقى بحد ذاتها شيءٌ غير مادي، ما كنتُ أملكه كان على شكل كاسيتات، وهذا ما كنت قد فقدته.»
يجب أن أعترف أنه، هنا، فقدني أنا أيضاً قليلاً. فيما مضى كان قادراً على أن يفكّر ويُفلسف كل الذين كانوا يخرجون حينها من الحانة ويدخلونها، هذا ما تذكرته فجأة.
في الطرف الآخر، كان صوت الموسيقى قد رفع أكثر وأكثر. نظرتُ لأرى فيما إذا كان أحدٌ ما يتجول هناك، لكنني لم أرَ سوى ستائر زرقاء ومصباح طاولة مرفوعاً للأعلى. كنت أعرف ذلك المصباح، وكان لدي واحداً مثله أيضاً، كان مصباح إيكيا ويسمى كارلسباد.
«يان ڤيليم سخووف،» قلتُ بصوت مرتفع قليلاً، ليعلو على صوت الموسيقى. «هل ما زلت تتذكره؟»
«نعم؟» نظر إلي بشكلٍ غريبٍ، مثيرٍ للريبة.
«كان الوحيد من بيننا الذي ترك غرفته دون أن تكتظ بالأغراض. كانت لديه فقط خمسة أشرطة كاسيت، هل ما زلت تتذكر؟ عندما كان يقتني موسيقى جديدة، كان يقوم بتسجيلها على موسيقى أخرى. لقد كان يرى في هذه الفرق الخمسة امتيازاً، كما أعتقد، كان يفضل أن يكون لديه واحدٍ من كل شيء، كما لو كان الأمر متعلقاً بالجوارب أو الأحذية، زوج واحدٌ، لا غير.»
«نعم، نعم،» قال يوهانس كما لو أنه كان غائباً في مكانٍ آخر، كمن لم يثر فيه الماضي سوى ذكرى غامضة للغاية. ربما لم يكن يحب أن يتذكر بأنه كان يعرف شخصاً قبل خمسة وعشرين عاماً وكان حينها يقوم بالأشياء التي اكتشفها هو الآن للتو. لا أعرف فيما إذا كان الأمر كذلك حقّاً، لكنه ما لبث أن غيّر الموضوع على الفور.
«هل تعرف ماذا أودّ أن أكون؟» قال.
«ستارة زهور.» لقد كانت تنبعث من مقابلنا قبل أن أدرك ذلك. لم يكن لدي أي فكرة عمن كان يغنيها. (لقد بحثت عنه لاحقاً، كان فيم كيرستين). «أنا آسف،» قلت، لأنني رأيت أن يوهانس كان جاداً، وأنه كان قد عانى المشقّة ليطرح هذا السؤال. قررتُ أن أعطي إجابة جدية رصينة. «شخصاً لديه أقل عدد ممكن من الممتلكات؟»
كانت الموسيقى تصدح الآن في الشارع بأكمله.
«لا،» قال يوهانس، حزيناً بعض الشيء وعلى نحوٍ فجائي. «لا. نعم، هذا أيضاً، لكن لا. أنا أفضّل أن أكون المساحة الفارغة بحد ذاتها.»
قد ينفجر بعض الناس في الضحك إذا سمعوا شيئاً كهذا، بل ويلومونه أيضاً، لكنني لم أكن أرى ذلك تصريحاً غريباً. إنها ليست رغبة سيئة في أن تتمنى أن تكون شيئاً آخر. منذ وقت ليس ببعيد ظننت أنني أفضل أن أتجسد مثل شارعٍ من شوارع آود-زاويد. ليس واحداً في الطرق الرئيسية، ولكن شارعاً جانبياً، لطيفاَ، متواضعاً، مبنياً على طراز مدرسة أمستردام في العمارة.
كنت أتمشى وبانتظام عبر زاويد لأبحث عن شارعٍ ما، لكنني لم أكن قد اخترت بعد أيّ شارعٍ هو. اعتقدتُ لحظتها أنني أستطيع أن أقول هذا ليوهانس، على الرغم من الحيطة التي كنتُ أشعر بها تجاهه، وكنتُ أظن حينها أن هذا كان يمكن أن يساعده، وأن يساعدني أنا أيضاً، وأننا، حينها، سيكون بإمكاننا أن نقترب من بعضنا البعض بسبب هذا، لكن الموسيقى كانت الآن تصم الآذان بشدة، يوهانس بنفسه حاول أن يقول شيئاً، وعلاوة على ذلك، كنت أنا مشتتاً من الحركات التي كنتُ ألحظها في الطرف الآخر مقابلنا.
في غرفة المعيشة في الطابق الثاني، أسفل الطابق الذي كانت الموسيقى تصدر منه، كان قد ظهر هنالك رجلٌ وامرأة. كان الرجل يحمل بيده عصا طويلة، كان يدفعها مراراً وتكراراً للأعلى وبحركاتٍ سريعةٍ ومحكمة. الشيء الغريب الآن كان أن العصا لم تسقط عندما تركها الرجل، لكنها بقيت، بلا حراك، عالقةً في مكانها. استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن أدرك أن الرجل كان يدقّ العصا بعنفٍ وقوة إلى درجة أنها علقت في السقف.
ثم رأيتُ – بجانبي كان يوهانس لا يزال يتكلم، ولم أتبين منه كلمة واحدة – كيف أمسك الرجل بالعصا مرة أخرى. رأيتُ من حركات المرأة انها كانت تشجب بشدة هذا الفعل، ولكن الرجل ظل مثابراً ووجّه ضربة قوية أخرى. في اللحظة التالية اختفى الرجل والمرأة تحت حطامٍ من لوح السقف، وبعد ذلك غابا عن الأنظار في غمامة غبارٍ رمادية. في الوقت نفسه رأيت طابقاً فوق كارلسباد يهبط للأسفل مختفياً على نحوٍ مستقيم. لكن كان هناك هدوءٌ على الفور، كما لو أن المصباح كانت له علاقةٌ بتلك الموسيقى. كذلك كانت الستائر الزرقاء في الطابق الثالث قد هبطت بدرجةٍ ما للأسفل وعلقت هناك فجأة، حيث بقي عمود الستارة معلقاً في مستوى منتصف النافذة المفتوحة.
هذا الأخير لم أستوعبه – كيف يمكن أن يؤثر هبوط الأرضية على وضع الستائر؟ لم أستطع أن أفترض وأن أقبل أن الجار في الطابق العلوي قد قام بتثبيت الجزء السفلي من ستائره بأرضية شقته. ومع ذلك، بدا ذلك التفسير المنطقي الوحيد للوضع الحالي الذي كانت تقف فيه الستائر، وبينما كان يوهانس بجانبي قد هدأ أخيراً لينظر باستغرابٍ وحسب، إلى جيرانه في الطابق الثاني المقابل له، ملفحين بالأبيض، معلّقين في النافذة يسعلون ويعطسون، بقيتُ أنا معلقاً في السؤال الذي حيرني ما الذي سيجعل أحداً ما يقوم بتثبيت حواف ستائره إلى أرضية بيته.
المعلمة اليابانية: ماري كوندو صاحبة كتاب سحر الترتيب والتي تقدم دورات وندوات وبرامج في رمي الأشياء وتنظيمها.
فيم كيرستين(1924-2001) ملحن ومغني وكاتب أغاني هولندي
آود-زاويد: أحد أحياء أمستردام.
روب فان إيسّين (1963) كاتب ومترجم وناقد هولندي، من أعماله الروائية: صياد السمك (2008)، الشتاء في أمريكا (2017)، والابنُ الصالح (2018) التي توجت بجائزة ليبريس للآداب عام 2019. القصة من مجموعته القصصية هنا أيضاً يعيش بشر (2014) والتي نالت في العام الذي بعده جائزة ي. إم. أ. بيسهيوفيل التي تمنح لأفضل مجموعة قصصية.
ليست هناك تعليقات