Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

صوت سلمى نعّوم أكمل... نشوة المنتشين بطبيعتنا

محسن أ. يمّين قبل أن يختبر سركيس باسيم، "أمير الناي" و"شحرورة الوادي" صباح تعاونهما الرائع في الفن، كان باسيم قد مر...


محسن أ. يمّين
قبل أن يختبر سركيس باسيم، "أمير الناي" و"شحرورة الوادي" صباح تعاونهما الرائع في الفن، كان باسيم قد مرّ على المستوى المحلّي الزغرتاوي، في اختبار تمهيديّ، بمرافقته، لسنوات، في العزف، المغنّية سلمى نعّوم، زوجة ضوميط أبو عيون، خلال الحفلات التي كانت مطاعم إهدن في نبع مار سركيس، والدواليب، ومطاعم زغرتا، في المرداشيّة، مسرحاً لها.


ونجاح سلمى في الأداء المتناغم سواء مع باسيم، أو مع من علّمه العزف: مخائيل زاده، سيبثّ من حولها في عشرينيّات القرن الماضي، إمتداداً حتى أربعينيّاته، موجات غامرة من الفرح، ستذيع صيتها في أوساط الجيل الذي سبقنا إلى الحياة، على نحو تردّدت أصداؤه في الشعر، وفي الصحافة المناطقيّة المزدهرة، يومئذ. لكن سلمى نعّوم أبو عيون، شقيقة سركيس نعوم، بطل القمح في زغرتا، أيّام المجاعة، التي لم يكن دافعها يقلّ قوّةً عن دافع باسيم، لم تكن تحدوها الآمال العريضة للبحث عن الشهرة، كتلك التي راودته هو. لأنّ وضعها الأنثوي كان من شأنه تكبيل تجربتها الغنائيّة، وإبقائها في نطاقها المحلّي الضيّق. فالظروف الإجتماعيّة السائدة في بيئتها لم تكن تسمح بأن ترسل صوتها إلى أوسع ممّا فعلته. سوى أنّ جميع من أنصت إليها، فيما سبق، بتبجيل وإهتمام، لم يكن يجد الكلمات للتعبير عن حالة النشوة التي كانت تُخلّفها وهي تشعّ بموهبتها الغنائيّة الفريدة، كما يشعّ البدر في اللّيالي المقمرة.

وأوّل المنتشين الذين وصلنا عنهم بصوتها المصحوب بتنهّدات ناي باسيم، ونقرات عوده، كان الشاعر أسعد الخوري الفغالي المعروف بـ "شحرور الوادي" (1937-1892) حين قال: "إهدن شبّانك بتميس/ ونورك زايد ما بيخيس/ بصوت سلمى وقصبة سركيس/ مين ما بيعلق بغرامك".

وحين يطلق شاعر، من عيار "شحرور الوادي"، الذي كان أوّل من ألّف فرقة زجليّة نظاميّة، ودعي، بحقّ، "صنّاجة القرن العشرين"، وطاف لبنان مُحيياً مع فرقته ليالي الأنس والطرب، مُستقبلاً بالتصفيق والإعجاب في زغرتا وإهدن، فإنّ ذلك كان كفيلاً بجعل القلوب تنبض بقوّة أكثر وهي تسمع سلمى وسركيس، ويجعل العيون تبرق، وتزداد. وهما لن ينسيا معروفه ما عاشا. وسيحملهما الوفاء له من زغرتا إلى بدادون، الحين بعد حين، بعد وفاته، للغناء والعزف عند ضريحه، على ما كانت تروي شقيقته التي أكبرت فيهما عرفانهما بالجميل الواصل إلى أعلى درجاته (نقلاً عن الأستاذ يوسف زيدان مدير تكميليّة زغرتا الثانية للصبيان، تكميليّة الأب سمعان الدويهي حاليًّا).
ولحق بشحرور الوادي كُثُرٌ لا يتّسع المقام للإتيان على ذكرهم جميعاً، ممّن تبدو أرواحهم وكأنّها خُلقت من أجل الغناء، والموسيقى، والشعر، والكلمة الطيّبة. فالشاعر شبلي الملاّط، للمثال، عندما حان أوان مغادرته لمديريّة إهدن، عام 1927، وأراد أن يقيم عشاءً وداعيًّا في مطعم الدواليب، في إهدن، لم يجد أفضل من الإستعانة بصوت سلمى كي يطرب الحضور بصوتها الشجيّ الآخذ بمجامع القلوب، وبنغم ناي باسيم. وهناك بين حفيف الأشجار الغضّة، وخرير المياه المتدفّقة، دارت رؤوس هكتور خلاط، الشاعر اللّبناني باللّغة الفرنسيّة، وسابا زريق، شاعر الفيحاء ورئيس تحرير "الحوادث"، وفريد أنطون، صاحب "صدى الشمال"، وسواهم، خفيفةً بمُتعة اللّحظة، وبمُتعة الشبع بالمشروبات، والكلمات الملقاة، والنكات، والأحاديث (راجع صدى الشمال عدد 122، السبت 1 تشرين الأوّل 1927).


ومثل ذلك حصل حين وَدَّعت زغرتا قاضي صلحها مراد أبي نادر بعدما قضى فيها ثلاثة أعوام ونصف كان خلالها موضوع إكرام وإعتبار لما أتّصف به من التجرّد والإستقامة، حال صدور مرسوم نقله إلى عاليه. يومها صدح صوت سلمى في مطعم مخائيل زادة، في المرداشيّة، وقد رافقها هو بالعزف على الناي وهي ترسل صوتها ب "أبو الزلوف" و"أمان يا أمّي على المصريّة"، إلى ساعةٍ متأخّرة من اللّيل، في مواكبة خلفيّة موسيقيّة مشكّلة من خرير مياه نهر رشعين، وحفيف أوراق الدلب، ورنين الأنخاب المتبادلة بحضور القائمقام بديع صالح، والملازم مسعود عبد الملك، والمتحدّثين فريد أنطون، جميل الحاج، حميد معوّض (النقيب)، مجيد خوري، روكز فاخوري، والدكتور بولس فرنجيّة، وسائر المدعوّين (جريدة "الرقيب" حزيران 1933).

صوت سلمى كان الحاضر دوماً. فيطلع، في نسيم اللّيالي، عالياً فبل أن يتبدّد في الهواء كأنّما ليذوب في أشعّة القمر قبل عهد بلدتيها بالكهرباء، وبعدها، واهباً البهجة لمن حضر، مشعلاً في النفوس العاطفة، والشوق، والعشق، والدموع، في بعض أحايينه.
وعندما لقيت من يجمعها بصباح، أواخر الأربعينيّات، في إهدن حيث كانت صباح تصطاف، بعد زواجها الأوّل من نجيب الشمّاس، لا ندري إذا كانت حنجرتها كانت لا تزال تطاوعها لتُسمع صباح ما يفجّر حماستها، إلاّ أنّ صورة مخلّدة لتلك اللّحظة إنتهت إلينا من أحد الأصدقاء تبدو وكأنّها منتزعة من براثن الفناء لتؤكّد لنا أنّ اللّقاء كان قد تمّ، دون أن نعلم أكثر عن التفاصيل.

شكر خاص للأستاذ يوسف زيدان، وللسيّد بربر المعرّاوي.

ليست هناك تعليقات