ديانا تريلينغ في صباح يوم أحد من آب (أوغسطس) 1962 وجدت ماريلين مونرو والبالغة من العمر ستة وثلاثين عاماً ميتة في فراشها في لوس انجليس و...
ديانا تريلينغ
في صباح يوم أحد من آب (أوغسطس) 1962 وجدت ماريلين مونرو والبالغة من العمر ستة وثلاثين عاماً ميتة في فراشها في لوس انجليس ويدها على الهاتف، كما لو إنها كانت قد تلقت مخ ابرة قبل لحظات أو كانت (وهذا هو الأرجح) على وشك أن تخابر أحداً. وكان على الطاولة إلى جانب فراشها صف طويل من الأدوية، من بينها زجاجة كانت فيها 25 حبة نمبوتال وجدت فارغة. وبعد أسبوعين قام فريق من الأطباء الفرنسيين الذين عينتهم الولاية بموجب قوانين كاليفورنيا بوضع تقرير عن ملابسات موتها وظروفه، وقرروا فيه إن كان انتحاراً. ولم يكن قد أشار أحد قط من قريب أو بعيد إلى احتمال كونها قُتلت قتلاً: فكان واضحاً إنها هي أودت بنفسها، وان موتها كان ذروة لآلام عقلية استغرقت وقتاً طويلاً، وسرعان ما تبين إنها اتصلت مساء يوم السبت بمحللها النفسي الذي كان يعالجها لما تشكوه من أرق وقلق وسويداء طالبة منه أن يسرع اليها، وانه قام بزيارتها. لكن تقرير الأطباء النفسيين الرسمي كان يتوجب عليه أن يقرر هل كانت جرعة الحبوب الزائدة مقصودة أو عرضية؟ هل قصدت ماريلين مونرو أن تتخلص من حياتها عندما أخذت حبوب النوم الخمس والعشرين تلك؟ وكان قرار الخبراء إن ذلك كان عن قصد متعمد، وأنها قد أرادت أن تموت.
وأعتقد ان هذا القول يحتاج إلى شيء من التعديل. لست أزعم بالطبع بأن موت ماريلين مونرو كان عارضاً بمعنى إنها جرعت هذه الكمية الكبيرة من الحبوب بدون إدراك لطبيعتها القاتلة. ولكني أعتقد إن الأصح أن اسمي هذه الميتة طارئة لا متعمدة، طارئة على الرغبة في التهرب من آلام العيش. لست بطبيبة نفسية، ولم يحدث لي أن عرفت ماريلين مونرو مطلقاً، ولكن يبدو لي انه يمكن لإنسان أن يبتغي التخلص من الوعي بدون أن ينشد الموت فعلاً، وانه يمكن لإنسان أن يبتغي وضع حد للعيش بدون أن يرغب في الموت. وهذا هو شعوري بخصوص ماريلين مونرو، إنها حتى عندما كانت تتحدث عن (ابتغائها أن تموت) إنما قصدت في الواقع إنها تبتغي وضع حد لآلامها، وليس لحياتها. فهي أرادت أن تقضي على الوعي لا على ذاتها. ومن ثم، بعد أن أخذت الحبوب، أدركت إنها قد لا تعود أبداً من المنام الذي كانت تتشوق إليه بوله، فمدت يدها إلى التلفون طلباً للمساعدة. لكن هذا بالطبع مجرد تخمين، والبحث فيه أجدر بالأطباء منه بغير الاختصاصيين. أما بالنسبة لنا نحن فان الدوافع المحيطة بانتحار ماريلين مونرو أقل أهمية من الحقيقة الطاغية، حقيقة الفعل ذاته: إن ماريلين مونرو قد وضعت حداً لحياتها. فبينما كان الأطباء والاختصاصيون يدققون في الفرق بين العارض والانتحار، أدرك الجمهور إن ما لم يكن بد من حدوثه قد حدث أخيراً: إن ماريلين مونرو قد قتلت نفسها. وأصاب الجميع صدمة ويأس، لكن لم يدهشهم أبداً أنها كانت هي المسؤولة عن موتها، لأن العالم كان لمدة سنوات خلت مهيئاً لمثل هذه النهاية الفاجعة لحياة من ابرز الحيوات في عصرنا.
والواقع إن معظم القصص والأخبار التي راجت خلال السنوات الأخيرة عن ماريلين مونرو كانت تتحدث عن إمكانية انتحارها أو على الأقل عن خطر انهيارها انهياراً عقلياً بالغاً. لا اقصد إن هذه القصص والأخبار كانت تقول صراحة إنها ستقضي على حياتها في يوم من الأيام أو إنها ستتخطى حدود الوعي والإدراك، لكن كان جميع الذين يكتبون عنها يتعمدون أن يؤكدوا لنا إنها رغم عدم استقرارها ورغم خطورة مشاكلها العاطفية فهي ما تزال مليئة بالحياة ومتشوقة لها: فهي ممثلة جدية، طموحة؛ وهي قد عقدت نيتها على تحسين فنها؛ وهي قد فشلت في الزواج مرات عديدة لكنها ما تزال تنشد الكفاية والتحقيق في الحب؛ وهي قد أسقطت عدة مرات ولكنها كانت لا تزال تتشوق إلى إنجاب الأطفال؛ وهي تحت إشراف دقيق من قبل المحللين النفسيين؛ وقوامها افضل منه في أي وقت مضى؛ وهي تدرب نفسها على الدقة وضبط المواعيد؛ وهي تحاول التغلب على كل ما يضع العثرات أمام إنجازها فيلمها الأخير - على هذه الشاكلة كانت تتوالى جميع القصص والأخبار. بل إن الحديث الأخير الذي أدلت به ونشر في إحدى الصحف (عندما نشر فعلاً كانت قد أصبحت في عداد الأموات) كان فيه ذات الوتر هذا، وتر الأمل: فقد بدت ماريلين مونرو فيه تفعمها الثقة بان تمثيلها سيتحسن وستجد الأدوار الصالحة لها، وإنها ما بين علاجيها - علاج التحليل النفسي وعلاج العمل والجهد - ستصل إلى راحة البال التي كانت تفتقر إليها منذ أمل طويل.
وقد أدرك الجمهور انه ما دامت هناك مثل هذه الضرورة البالغة إلى التفاؤل فان الوضع ينذر بالخطر الشديد. لكن الغريب هو انه طوال هذه الفترة التي كانت تتزايد فيها مشاكلها التي كان الجمهور مطلعاً عليها تمام الاطلاع، ظلت الصورة التي يحملها لها هذا الجمهور كما كانت عليه. فمهما كان يقال لنا عن ضعف تمسكها بالحياة ظللنا نفكر بها كتجسيد لطاقات الحياة. وأظن أن رد فعلي لموتها كان كرد فعل الكثيرين: كان كأني منيت شخصياً بفقدان عزيز؛ غير أني شعرت أيضاً كما كنت لأشعر إزاء كارثة في التاريخ، أو في الطبيعة؛ فقد غاب عن الحياة شيء، وقد غاب من الحياة شيء، لأن ماريلين مونرو لم تعد موجودة. فإذ فقدتها الحياة، تأذّت الحياة.
كانت ماريلين مونرو نجمة معترفاً بها قبل ان اعرفها أنا إلا كفتاة تزين صورها غلافات المجلات. فهناك دوماً هذا الدرع، درع السخرية، يضعه بعضنا بين أنفسنا وبين من يكون محطّاً لإعجاب الجماهير، فكنت أتعمد تجاهل أفلامها. لكن حدث ذات مساء أن شاهدت على شاشة التلفزيون جزءاً من فيلمها (موقف الباصات)، وإذا بي أراها. ولست متأكدة أني عرفت من هي هذي التي أراها على الشاشة، لكن نوراً التمع في الغرفة: وحيث كان كل شيء قاتماً أشرق في الحال ضياء وتألق كما لو انبثق عن شيء يتخطى البشري والعادي. كانت لحظة فذة، لا أذكر أني عرفت مثلها في حال أية ممثلة أخرى؛ لحظة تتخذ مكانها مع اختبارات فنية نادرة وعزيزة على القلب، كذكرياتي أيام شبابي عن بافلوفا التي وصلت حداً من الكمال لم يصله أي فنان ممثل، أو الاختبار القريب العهد، اختبار رؤية بعض صور متحركة لنجنسكي. وماريلين مونرو أيضاً كانت تتحرك: وهذه نقطة هامة، إذ إن الصور الساكنة لم تكن لتستطيع أن تقتنص ما فيها من صفة وطبيعة مكهربة؛ ففي صورها المدروسة كان أول ما يفرض ذاته على المتفرج وفرة الناحية الجسدية فيها، لكنه لم يكن يرى فيها حيويتها الفريدة أو الصفاء الذي يدمج الروح بالجسد. وهكذا، في ومضة من الضياء لم تدم سوى لحظة، سقط عني درع السخرية الذي كنت أقاوم به معبودة الجنس هذه المحببة جداً إلى الجماهير، سقط عني ولم أعد إليه بعدها قط.
هذا ما حدث لي أنا، لكن بقية الناس لم يكونوا مثلي بل كانوا قد وقفوا منذ وقت طويل على ما لماريلين مونرو من موهبة فريدة في كيانها الجسماني واستجابوا لها حسبما تتطلبه موهبة الحياة هذه. فمنذ بداية حياتها الفنية كان الجمهور قد اعترف بعبقرية البيولوجيا، أو الكيمياء، أو ذلك الشيء كائناً ما كان، الذي ميّز هذه المرأة الشابة عن سائر البشر. وإذ أقرّ بسحرها لم يكن اطلاعه على مرضيتها ليؤثر قط على اعتقاده بأنها حية بشكل لا يتسنى لنا نحن أن نعرفه، أو على الأدق انه كانت فيها شحنة من الحيوية توصلها لنا فتبدل الحياة كما هي في خيالنا - وهذه بالطبع هي مهمة الفن ومعجزته.
خطر لي في الآونة الأخيرة بعد وفاة ماريلين مونرو انه ربما كان السبب الذي جعل بإمكاننا أن نحتفظ بهذين المظهرين لمعرفتنا لها - أي إيجابيتها في الحياة واندفاعها نحو الموت - في توازن، هو انهما لم يعرضا ذاتيهما علينا قط بشكل يوحي إن أحدهما يحول دون وجود الآخر، بل على العكس بأنهما مظهران مرتبطان وثيق الارتباط بل انهما متوقعان في حياة خارقة كحياتها. فكأن العالم الذي أحب ماريلين مونرو أدرك ان فيضها البيولوجي يستثير بحكم الضرورة قيوداً على ذاته، وان هذه هي الشريعة القاسية التي تقاصص بها الطبيعة (أو على الأقل الطبيعة ضمن حدود المدنية) من يتطلبون من الحياة الشيء الكثير أو يغدقون على الحياة الشيء الكثير. لقد قيل لنا انه عندما تكون إحدى الحواس معطوبة فان الطبيعة تعوض على ذلك في الغالب بإحدى الحواس الأخرى: فالأعمى كثيراً ما يكون سمعه أرهف من سمع البصير أو تكون حاسة اللمس فيه أدقّ. أما ما لم يُقل لنا ولكننا مع هذا نفهمه فهو طريقة الطبيعة في التعويض السلبي - الثمن الذي ندفعه لقاء المواهب، والانتقام الذي يبدو إن الحياة تنفذه على الدوام ضد التفوق. ولاشك إن إدراكنا لما في ماريلين مونرو من نواحٍ (زائدة) حضّرنا لان نتوقع أن تكون فيها نواحٍ (ناقصة) ما. وبدا أن كون هذه المرأة الشابة التي تميزت بمواهب بيولوجية فائقة للعادة تعاني آلاماً عقلية، بدا انه نوع من التعويض والمعادلة. واعتقد أننا لو لم نكن نعرف عن أسقامها العاطفية فإننا كنا لنهيئ أنفسنا لمصير مرعب آخر لها - ككارثة طيران ربما أو كمرض مشوه. وهكذا نرى إن الإيمان بالخرافات قد يكون فهماً دقيقاً لنظم الحياة القاسية.
ومع هذا فمن الصعب أن نفترض إن الآلهة يمكن أن تبلغ بهم الغيرة هذا المبلغ. ألم تقاصص ماريلين مونرو في طفولتها بما فيه الكفاية بحيث لا تحتاج أن تلقى في المستقبل مآسي أخرى؟ وإذ نجحت هذه الفتاة الفقيرة المهملة في التغلب بقوة سحرية على المشاكل المحيطة بها لم يكن من عجب أن يتوقع المؤمنون منا بالخرافات أن تحظى بالسعادة حتى مماتها. فكان من المستحيل أن نفكر بماريلين مونرو إِلا كسندريلا. وبدا إن خير تفسير وتبرير لما في كيانها الجسماني من قوة غريبة هو في الظروف القصوى التي أحاطت بها في أوائل حياتها - في ولادتها ابنة غير شرعية، وأمها المجنونة، والميتم، وبيوت التبني الشبيهة بمستشفيات المجانين، واغتصابها من قبل أحد الأوصياء عليها في سن مبكرة. وإن كانت حياة ماريلين مونرو خالية من جنية صالحة ومن أمير ساحر (إلا أن قامت هوليوود بهذا الدور) فان هذا لم يجرد قصتها من الإعجاز الذي نراه في كتب الخرافات، انه دمج بالأقصوصة القديمة الخرافة الجديدة التي عندنا عن البطل (أو البطلة) الذي يكوّن ذاته بذاته. إن غريس كيلي كانت لها أسرتها الطيبة فمهدت لها طريقها وجعلت حقها
بالتاج حقاً شرعياً، أما ماريلين مونرو فإنها ملكت بفضل جمالها ليس إِلا، وبفضل إصرارها على أن تتفلت من الظلمة والقذارة وان تشع بنور بهي كامل. وليس بمدعاة للدهشة انه كلما ازداد إشراقها لمعاناً ازداد توقعنا دقة منتصف الليل التي من شأنها أن تضع حداً لمثل هذا السموّ.
لكن ابتعاد ماريلين مونرو هذا الابتعاد الطويل عن طفولتها التعيسة لم يكن وحده الذي رأينا فيه تحدياً للواقع لم يكن بد من أن ينتقم له الواقع. فإذا اعتبرنا موهبتها ليست موهبة مسرحية أو سينمائية (واعتقد إنها لم تكن هذه بصورة رئيسية) بل موهبة بيولوجية، فإنها كانت واحدة من أولئك المفعمين بالقوة، كانت واحدة من زمرة الفنانين الحقيقيين. كانت مواهبها بعيدة عن نطاق العادي والمألوف، فلم يكن لنا مناص من أن نشعر بأن المجتمع كما نعرفه لن يستوعبنا - ولهذا فإنها كانت تحمل فناءها بين طياتها. وكانت قوة ماريلين مونرو البيولوجية، ككل موهبة فنية عظيمة، قوة متفجرة وبدائية ومتوحشة. من أجل هذا كانت خطراً عليها هي وعلى العالم أيضاً الذي فعلت فعلها فيه. إن الفن كله شرس، بمقدار أهميته؛ وهو في شراسته يختار إما التمرد على المجتمع أو على القيود التي تحد منه أو على الفنان نفسه. ولاشك إن عجز معظم أفراد البشر عن تحمل هذا الضغط الشديد وقتاً طويلاً هو الذي يفسر كون الفنان أمراً شاذاً في أية مجموعة متحضرة من البشر. فالوصول إلى حل وسط بين الثورة على الذات والثورة على المجتمع، وخوض المعركة والخروج منها سالماً، لهو مهمة جبارة ليست الموهبة فيها إِلا عاملاً صغيراً.
من بين الأسلحة البالغة القلة المتوفرة للفنان في هذا الجهاد المرعب، ليس سلاح أكثر نفعاً من السذاجة. لكن الانطباع الذي لي عن ماريلين مونرو لم يكن أبداً إنها امرأة ساذجة. أني اعتقد إنها كانت ذات براءة، والبراءة غير السذاجة. فأن يكون المرء ساذجاً يعني أن يكون بسيطاً أو غبياً في أمور الاختبارات والتجارب، وماريلين مونرو كانت بعيدة عن الغباوة: فليس بمقدور من تكون غبية أن توجه لفتاتها البارعة ضد ذاتها أو أن تتمكن من الإجابة على الأسئلة المحرجة التي كانت تُسألها بالشكل الذي كانت تجيب عليها به. أما أن يكون المرء بريئاً فيعني أن يعاني التجربة بدون أن يقدر أن يتعلم منها حماية ذاته، كما لو كانت البراءة تحت رحمة التجربة وغير قادرة على تعبئة قوى مضادة للقدر.
واشعر نحو ايرنست همنغوي كما اشعر نحو ماريلين مونرو، أنه كان عاجزاً عن إقامة حصون دفاع كافية ضد أحداث طفولته المؤلمة، على الرغم مما اشتهر به من خشونة وعلى الرغم من بسالته في الحرب والصيد والمغامرات الخطرة التي كانت تستهويه. كان رجلاً بريئاً لا رجلاً ساذجاً، ولو انه لم يكن دائماً ذكياً. وفي ماريلين مونرو تعترضنا مفارقة مماثلة: فإنها حتى عندما كانت رمزاً للتجارب القصوى، للمعرفة الجنسية، كانت تجيء كلّ ظرف من ظروف حياتها (سواء انشدها هذا الظرف أم أنشدته هي) كما يجيئه طفل وليد. ومع ذلك فقد كان هذا مبعث الإشراق فيها - براءتها. وإشراقها لم تغيبه اختباراتها لبشاعة الحياة وقبحها، لأنه في الحكم الأخير وفي عمق أعماقها لم تؤثر بها هذه الاختبارات من قريب أو بعيد.
يرى الأطباء النفسيون إن البراءة المفرطة، إن الفجوة الكبيرة بين ما حدث لشخص وما استوعبه من تجربته، لهي عارض ينذر بالخطر - فقد تدل على انقطاع في علاقته بنفسه. ولا شك أن البراءة المفرطة في حقول الخلق تستهوينا إلى حد كبير، فهي تبعث نقاوة في التعبير تحملنا على أن نقول عن صنيع فني ما انه (من خارج هذا العالم). إلا إن ما يشكل فن شخص ما قد يؤدي بالتالي إلى هلاكه العاطفي.
ويخيل لي إن الأطباء والمحللين النفسيين كانوا يجدون صعوبة في معالجة ماريلين مونرو، وإنها كانت من وجهة عاطفية أشبه بالنسبة لهم بصفحة بيضاء لم يخطّ عليها شيء، وإنها كانت لا تقدر أن تقيم صلة بين ذاتها وبينهم رغم إنها كانت تتمنى إقامة تلك الصلة. لكن انعدام الصلة هذا كان في صلب موهبتها، وكان يحدد سحرها في أعين البشر، كما كان انعدام الصلة بين همنغوي وتجاربه ذا اثر فعال في موهبته. لقد حاول عشرات من المؤلفين مدى سنوات طويلة أن يحاكوا أسلوب همنغوي، أن يحاكوا ما في نثره من مرونة ونقاوة، وان يحاكوا البعد الذي كان بوسعه أن يضعه بين نفسه وبين الشيء الذي يتحدث عنه. لكن أحداً منهم لم ينجح في ذلك. واعتقد إن السبب في هذا هو إن نثره كان لحد ما انعكاساً عن البعد بين الواقع الخارجي وبين عواطفه - هذا البعد الذي لم يكن القضاء عليه ممكناً. وبالشكل ذاته كانت ماريلين مونرو عصية على المحاكاة. إن هوليوود ومسارح برودوي والكباريهات تمدّنا بانتظام واستمرار بعدد من ملكات الجنس، لكن الجمهور يقبلهن ثم ينبذهن، أو انه لا يقبلهن فعلاً؛ إن العالم لم تستعبده أية من هؤلاء كما استعبدته ماريلين مونرو، لان ليس بينهن من تستطيع، كما كانت تستطيع ماريلين مونرو، أن توحي بما توحي هي به من نقاوة في البهجة الجنسية. إن الجرأة التي كان بوسعها أن تعرض ذاتها بها دون أن تؤدي قط إلى الابتذال، والزهو والاستخفاف الجنسيين اللذين كانا مع هذا يبعثان جواً من الغموض والكتمان، وصوتها الذي كان يحمل نبرات ناضجة من الإثارة الجسدية وكان مع ذلك صوت طفلة حيية - كل هذه كانت جزءاً أساسياً من موهبتها.
ما اقصد قوله هنا هو إن مارلين مونرو كرمز للجنس كان فيها بالطبع شيء كثير من الزيف. فالرجال القليلون الذين اعرفهم والذين قابلوها في حياتها الواقعية اجمعوا على انه كان ينقصها الوقع الجنسي المباشر: صحيح إنها كانت حلوة وجميلة وظريفة، لكنها لم تكن أبداً المرأة المثيرة التي توقعوها أن تكون. يصعب جداً أن نحدد طبيعة الجاذبية الجنسية الحقة، فجانب كبير مما نجده مؤثراً جنسياً ينبع من الأوهام التي لا علاقة بينها وبين الغريزة الجنسية الأساسية. وفي حال الممثلة السينمائية، اكثر منه في حال سواها، ندخل أرجاء يختلط فيها الحلم بالبيولوجيا بدون عناء.
كانت ماريلين مونرو تتحدث إلى أحلامنا لذات الحد الذي كانت تتحدث فيه إلى طبيعتنا الحيوانية، لكن بطريقة خارقة للغاية - لأنها كانت تستهوي عزمنا على التحرر من الوهم وعلى التمسك بالواقع. وكانت ترضي رغبتنا بمواجهة شهواتنا الجسدية بدون ما يسربلها من رومانسية ومن ملابسات. وإذ عملت ضمن نطاق حضارة كحضارتنا، الجنس فيها محاط بالقيود والمخاوف والنواهي، فإنها اقتربت إلى الحد الأقصى من إعطائنا الجنس ذاته. لكنها لم تعطنا الجنس ذاته: إنما مثّلت إنها تعطينا إياه. وقد أضفت جواً من الفتنة على الجنس إلى حد جعله يفقد ما كان يلابسه من فزع، وربما كان هذا الحجاب الذي أقامته أمام الواقع الجنسي الذي جعل النساء كالرجال يستجبن لها استجابة كبيرة. واعتقد إن النساء أدركن بحكم الغريزة ان هذه المرأة التي تبدو اشد المخلوقات جنسية لم تكن لتهددهن في شيء.
وهكذا فقد كانت أسطورة ماريلين مونرو أسطورة بالفعل اكثر مما دار بخلدنا، فأن هذه الفتاة التي كان يفترض أن تحررنا من أحلامنا وتؤول بنا إلى الواقع الجنسي كانت لحد كبير غير واقعية بالنسبة حتى لنفسها. ولم يكن ممكناً أن تكون واقعية لنفسها من الناحية الجنسية وفي الوقت ذاته ممثلة علنية مدهشة للجنس وفنانة واعية فيه. ورأيي إن ابتعادها السحيق هذا عن مشاعرها هي، بما فيها مشاعرها الجنسية، هو الذي مكنها من الاحتفاظ بفوضى سنواتها الأولى الوقت الطويل الذي احتفظت به، ومن التحدث عن طفولتها الفظيعة بمثل تلك البساطة والعلن. إننا نخبئ عن الآخرين اصغر (شائنة) في ماضينا، خشية أن تؤدي معرفة الغير لها إلى تبديل نظرتنا لأنفسنا. غير أن ماريلين مونرو لم تكن بحاجة إلى مثل هذا التحفظ. فقد أفشت علناً بأفظع الحقائق عن تاريخها الشخصي، أفشت بها للعالم بأسره كما لو إننا نحن الذين لا علاقة لنا بها جديرون بالاطلاع على أسرارها - لكننا استجبنا استجابة كريمة غريبة لبراءتها، ولم نستغل اطلاعنا على أسرارها كما كان يمكن أن نفعل. وإذا نظرنا إلى الأمر من وجهة ما نتطلبه من الفنان، أي أن تكون له الإرادة والجرأة في أن يرتفع على التقاليد التي تقيدنا نحن الذين ليست لنا ما له هو من مواهب، فإن صراحة ماريلين مونرو بخصوص حياتها المبكرة شيء جدير بالتقدير والتبجيل. إلا أن صراحتها هذه، من وجهة نظر أخرى، كانت إنذاراً بان السدود الطبيعية، سدود وقاية الذات، كانت مهدودة أو معدومة، بحيث تركتها معرضة لأخطار رياح الظروف المختلفة.
والواقع إن كلمة (معرّضة) كلمة أساسية في سياق حياتها. فقد كانت ممثلة، تعرض شخصها وشخصيتها على نظر الجمهور. وكانت كائناً بشرياً معرضاً، تذكر الحقيقة عن نفسها علناً وبكل استعداد. وكانت اكثر من غالبية الممثلات تعرض جسدها، ولم تكن تدرك إدراكاً تاماً ما يحيط بذلك من ملابسات. فنحن نذكر مثلاً الفضيحة الصغيرة المحرجة التي نجمت عن كونها جلست مرة عارية لتلتقط صورتها وتنشر على غلاف روزنامة، والدهشة والبراءة اللتين أبدتهما وعدم فهمها سر استياء الأستوديو الذي كانت تعمل له، كأنها كانت تريد أن تقول: (لكن تلك هي أنا بالأمس عندما كنت بحاجة للمال. لكنها ليست أنا اليوم، فأنا اليوم املك مالاً). وكما كان بالأمس واليوم فاقدي الاتصال واحدهما بالآخر، كانت هي فاقدة الاتصال بذاتها، ولعله لا يربطها معاً إلا نجاحها، ولوقت محدود.
وكان هذا النجاح وثيق الاتصال بإدراكها ووعيها لجاذبيتها الجسدية. ولعل كونها محط أنظار الجماهير إلى ذلك الحد الكبير وهدف إعجابها البالغ كان هو الذي أعطاها الجزء الأوفى من إحساسها بكيان وهوية شخصية لها. ونحن نعرف الآن إنها قبل وفاتها بزمن غير طويل طلبت ان تصور عارية، وعملت بعناية على الانتقاء والحذف في هذه الصور الكثيرة، كما لو إنها كانت تريد التأكد من إنها ستخلف للمستقبل خير سجل ممكن لها. غير إن هذه الصور إنما تترك سجل جمال مبذر، أو على الأقل فيما يتعلق بجسدها الشهير - فبينما يبدو فيها وجهها جميلاً كما كان أبداً، ولم تترك فيه آلامها البالغة أية ندوب، فان جسدها يبدو فيها سقيماً وتالفاً وقد استنزفت منه الحياة. وقد نشرت هذه الصور مؤخراً في إحدى المجلات الغالية الثمن المكرسة لأمور الحب والشبق. وإذا كان سعرها الغالي، الذي يجعل من المتعذر شراؤها على القارئ العادي، يمكن تفسيره على انه احتياط ضد سهولة الحصول عليها من قبل من لا ينشدون سوى الإثارة، فان هذا التحسب لم يكن في الواقع ضرورياً: ذلك لان ماريلين مونرو العارية لم تكن لتثير في أي متفرج طبيعي أي شيء سوى الشفقة وشيء من الرعب.
لكن نجاحها كان مهدداً حتى قبل هذه اللحظة القصوى. فحياتها الفنية العظيمة كانت قد بدأت بالانهيار. ولم تكن قد مثلت فيلماً ما منذ أمد طويل، والفيلم الأخير الذي عملت فيه كان يتأجل مرة بعد مرة لأنها لم تكن تقوى على الحضور للاشتراك فيه. ولم تكن لها حياة خاصة تلجأ إليها، بل لم تكن لها شكليات مثل هذه الحياة: فلا زواج، ولا عائلة، و (كما يبدو) ولا حتى أصدقاء. وقد اعتدنا أن ننظر إليها كأنها اشد الناس وحدة ووحشة، فكان مدعاة لشيء من المرارة أن نكتشف لدى موتها إننا لم تكن تحدونا وحدنا رغبة في مساعدتها بل كان يشاركنا في ذلك غرباء كثيرون آخرون، وبصورة خاصة من النساء اللواتي كان تعرّضها الشديد للعطب يستدر عواطف الوقاية والحماية فيهن. لكننا كنا أصدقاءها الذين لم تعرف عنهم شيئاً، ويبدو انه لم يكن مجال بين الناس الذين عرفتهم لأية صلة حقيقية عبر الفراغ الصحراوي الذي يعزل كل من يفقد الصلة بمشاعره. وتخطر ببالنا في تلك العشية الأخيرة من حياتها، وحيدة ذاهلة، تفتش عن السلوى الإنسانية تفتيشاً، فلا تجد إلا ذلك الصف الذي لا ينتهي من زجاجات الأدوية، وإذا نحن أمام شجن ابلغ من المأساة.
ولا شك انه ليس من العدالة في شيء ويصعب على الخيال تصديقه أن تكون اكثر نساء العالم فتنة قد قضت عشية سبت لوحدها دون رفيق - فقد كانت عشية يوم سبت عندما أودت بحياتها. في أية ليلة عدا ليلة السبت، يسمح لنا بأن نصرف الليلة وحدنا، أما ليلة السبت فهي الليلة التي على جميع الفتيان والفتيات في أمريكا أن (يثبتوا) ذاتهم جنسياً فيها. هي الليلة التي يجب أن نخرج فيها من بيوتنا، ونرتاد الأماكن فيرانا الناس فيها بين المصطفين جنسياً. إلا إن الفتاة الأمريكية التي كانت تمثل النجاح الجنسي وترمز إليه بالنسبة لنا جميعاً صرفت آخر ليلة سبت في حياتها وحيدة بائسة. إن كل رجل في البلاد لكان يتمنى أن يكون رفيق ماريلين مونرو (أو هكذا كان ليدعي)، لكن لم يرافقها من معارفها أحد.
أو يخطر ببالنا مأتمها (ونحن نتأمل في الوحدة التي كانت تعانيها)، مأتمها الذي تُعمّد فيه أن يمنحنا الهدوء والخلوة اللذين كانت تحتاج إليهما طوال حياتها، لكنه لقلة عدد من حضروه ذكرنا بمحدودية علاقتها الواقعية بالعالم. كان جو ديمجيو، زوجها لأشهر قليلة في أوائل عهدها الفني، على رأس المشيعين. وديمجيو هذا هو الذي (كما قالت لنا) كان يستحيل اتخاذه زوجاً لأنه لم يكن يتحدث: فعند وجبات الطعام كان بدلاً من أن يتحدث إليها يقرأ الجرائد أو يتفرج على التلفزيون. أما زوجها الأخير، الذي كان يتحدث، فلم يحضر المأتم - ولا شك إن لديه أسباباً تبرر تغيبه، لكن تغيبه كان محزناً. ولست ادري هل تلوا قراءات ما في خدمة الدفن، أو إن فعلوا فلا اعرف ما هي. لكن يطيب لي أن أفكر إنها كانت قراءات أدبية سامية، كالتي تتلى في مأتم امرئ مبرز فائق التبريز من الناحية الفكرية.
ذلك انه من بين سائر ألوان القسوة التي سامها لهذه المرأة الشابة حتى الجمهور الذي احبها، يبدو لي إن القسوة الأشد والتي لا تجدر بمن يفترض فيهم التمدن، هي السخرية من رغبتها في أن تتثقف أو في أن يظنها الناس مثقفة. صحيح إن لنا الحق في أن يعترينا شيء من الحيرة عندما تدعي معبودتنا الجنسية إنها تحب دستويفسكي، ولكن لا شك في إن باعث انزعاجنا يقبع في شكوكنا بقيمة دستويفسكي لنا اكثر مما يقبع في ماريلين مونرو. فمغزى سخريتنا هو التشكيك بحاجة من يملك مقداراً كافياً من الجنس إلى أن يقرأ دستويفسكي. والفكرة إن امرأة كماريلين مونرو لها ما لها من مواهب جنسية كانت تبتغي أي شيء غير القيام بنشاطات الحب والجنس سلب منا وهماً محبباً إلينا، هو إن الجنس هو كل شيء.
واشك إن الجنس كان يعني كثيراً لماريلين مونرو، عدا كونه وسيلة لإعلاء شأنها في الحياة. وكان أحد الأسرار المؤثرة التي باحت بها عن أوائل حياتها وصفها لكيف اكتشفت إنها بشكل من الأشكال تختلف جنسياً عن سواها من الفتيات في عمرها؛ فقد كان الفتيان يصفرون لها ويتجمهرون حولها كما تتجمهر الدببة على العسل، وهكذا أدركت إن فيها ولا شك شيئاً خاصاً بها لا بسواها، شيئاً تستطيع أن تستثمره كي ترتفع على ظروفها البائسة. أي إن وعيها الجنسي جاءها من خارج ذاتها. ورأيي الشخصي انه ظل خارج ذاتها على الدوام، تاركاً فيها فراغاً كبيراً، في حين إنها لو كانت لها نزعة جنسية حقيقية لكانت أمدتها بإحساس بذاتها كإنسان له صلات وفيه محتوى.
هذا الفراغ حالت أن تملأه بكل ما تيسر لها من سبل، بمتاع الدنيا وبالشهرة وباهتمام الجمهور وبالزواج، وأيضاً بسبل لم تتيسر لها كالأطفال والحياة البيتية. وحاولت كذلك الحال أن تملأ فراغها بالكتب والتثقف. فما أحقرنا إذ حرمناها من أي شيء كان يمكن أن يزيد في ثقتها بأنها إنسان بحق وحقيق وليست مجرد جسد غير مأهول.
أما إنها كانت تتحلى بمقدرة ذهنية على التعلم فمما لا شك فيه مطلقاً، ولم يكن ينقصها غير أن تُقرن بمقدرة عاطفية. فلو لم تكن على قسط كبير من الذكاء الحاد لما استطاعت أن تسخر من ذاتها بكياسة كما كانت تفعل أو أن ترد على أسئلة الصحفيين بما كانت ترد به من دهاء وحسن تخلص. وإذا حكمنا عليها من المقابلات في الصحف وسواها، وجدناها خلواً مما يتسم به الممثلون والممثلات في حياتهم الواقعية من رتابة وبلادة، ومما يتسمون به من تأدب ومجاملة ليسا إلا دليلاً على حبهم لأنفسهم؛ ووجدنا إنها منزهة عن عادات أفراد مهنتها - فلا نذكر إنها أبدت مرة واحدة حداً لزملائها أو نقداً لسواها من مخرجين ومؤلفين وأزواج لتقصيراتها هي. والواقع إن ما كان في روحها من أريحية كان جزءاً من الإشراق الذي لازمها. لكن هذه الأريحية التي وجهتها إلى سواها لم توجهها إلى ذاتها، فقد كانت قاسية على ذاتها، وكانت تسخر من نفسها ومن كل ما عندها مما يمكّنها من المضي في الحياة: مواهبها البيولوجية. ولا شك إن هذا زاد في تحبيبها الينا، لكنه أزاح من تحتها البقعة الصغيرة التي كان بوسعها أن تسميها مُلكاً لها. وعندما كانت تعرض وفرتها الجنسية بذلك الشكل المبالغ المدهش المرح، أو كانت تنظر وعيناها مفتوحتان على وسعهما إلى ما سببته من دمار، كانت كأنما تقول بطريقتها الخاصة: (لا تخافوا، أنا لا احمل نفسي محمل الجد، فلا حاجة لكم بأن تحملوني محمل الجد). أي إن موهبتها الهزلية كانت خيراً على جمهورها لكنها كانت وبالاً عليها هي، إذ إنها كانت تحتاج اكثر من سواها من الناس إلى اليقين بأن لها قيمتها في ميزان الحياة البشرية، وبأن لها كيانها وواقعها، وبأن لها جميع المؤهلات لجعلها إنساناً نستطيع أخذه جدياً. كانت تنشد السلوى، ووهبتنا السلوى. كانت متسولة، وأغدقت علينا العطايا.
نشرت في العدد الثاني من "حوار" 1965
في صباح يوم أحد من آب (أوغسطس) 1962 وجدت ماريلين مونرو والبالغة من العمر ستة وثلاثين عاماً ميتة في فراشها في لوس انجليس ويدها على الهاتف، كما لو إنها كانت قد تلقت مخ ابرة قبل لحظات أو كانت (وهذا هو الأرجح) على وشك أن تخابر أحداً. وكان على الطاولة إلى جانب فراشها صف طويل من الأدوية، من بينها زجاجة كانت فيها 25 حبة نمبوتال وجدت فارغة. وبعد أسبوعين قام فريق من الأطباء الفرنسيين الذين عينتهم الولاية بموجب قوانين كاليفورنيا بوضع تقرير عن ملابسات موتها وظروفه، وقرروا فيه إن كان انتحاراً. ولم يكن قد أشار أحد قط من قريب أو بعيد إلى احتمال كونها قُتلت قتلاً: فكان واضحاً إنها هي أودت بنفسها، وان موتها كان ذروة لآلام عقلية استغرقت وقتاً طويلاً، وسرعان ما تبين إنها اتصلت مساء يوم السبت بمحللها النفسي الذي كان يعالجها لما تشكوه من أرق وقلق وسويداء طالبة منه أن يسرع اليها، وانه قام بزيارتها. لكن تقرير الأطباء النفسيين الرسمي كان يتوجب عليه أن يقرر هل كانت جرعة الحبوب الزائدة مقصودة أو عرضية؟ هل قصدت ماريلين مونرو أن تتخلص من حياتها عندما أخذت حبوب النوم الخمس والعشرين تلك؟ وكان قرار الخبراء إن ذلك كان عن قصد متعمد، وأنها قد أرادت أن تموت.
وأعتقد ان هذا القول يحتاج إلى شيء من التعديل. لست أزعم بالطبع بأن موت ماريلين مونرو كان عارضاً بمعنى إنها جرعت هذه الكمية الكبيرة من الحبوب بدون إدراك لطبيعتها القاتلة. ولكني أعتقد إن الأصح أن اسمي هذه الميتة طارئة لا متعمدة، طارئة على الرغبة في التهرب من آلام العيش. لست بطبيبة نفسية، ولم يحدث لي أن عرفت ماريلين مونرو مطلقاً، ولكن يبدو لي انه يمكن لإنسان أن يبتغي التخلص من الوعي بدون أن ينشد الموت فعلاً، وانه يمكن لإنسان أن يبتغي وضع حد للعيش بدون أن يرغب في الموت. وهذا هو شعوري بخصوص ماريلين مونرو، إنها حتى عندما كانت تتحدث عن (ابتغائها أن تموت) إنما قصدت في الواقع إنها تبتغي وضع حد لآلامها، وليس لحياتها. فهي أرادت أن تقضي على الوعي لا على ذاتها. ومن ثم، بعد أن أخذت الحبوب، أدركت إنها قد لا تعود أبداً من المنام الذي كانت تتشوق إليه بوله، فمدت يدها إلى التلفون طلباً للمساعدة. لكن هذا بالطبع مجرد تخمين، والبحث فيه أجدر بالأطباء منه بغير الاختصاصيين. أما بالنسبة لنا نحن فان الدوافع المحيطة بانتحار ماريلين مونرو أقل أهمية من الحقيقة الطاغية، حقيقة الفعل ذاته: إن ماريلين مونرو قد وضعت حداً لحياتها. فبينما كان الأطباء والاختصاصيون يدققون في الفرق بين العارض والانتحار، أدرك الجمهور إن ما لم يكن بد من حدوثه قد حدث أخيراً: إن ماريلين مونرو قد قتلت نفسها. وأصاب الجميع صدمة ويأس، لكن لم يدهشهم أبداً أنها كانت هي المسؤولة عن موتها، لأن العالم كان لمدة سنوات خلت مهيئاً لمثل هذه النهاية الفاجعة لحياة من ابرز الحيوات في عصرنا.
والواقع إن معظم القصص والأخبار التي راجت خلال السنوات الأخيرة عن ماريلين مونرو كانت تتحدث عن إمكانية انتحارها أو على الأقل عن خطر انهيارها انهياراً عقلياً بالغاً. لا اقصد إن هذه القصص والأخبار كانت تقول صراحة إنها ستقضي على حياتها في يوم من الأيام أو إنها ستتخطى حدود الوعي والإدراك، لكن كان جميع الذين يكتبون عنها يتعمدون أن يؤكدوا لنا إنها رغم عدم استقرارها ورغم خطورة مشاكلها العاطفية فهي ما تزال مليئة بالحياة ومتشوقة لها: فهي ممثلة جدية، طموحة؛ وهي قد عقدت نيتها على تحسين فنها؛ وهي قد فشلت في الزواج مرات عديدة لكنها ما تزال تنشد الكفاية والتحقيق في الحب؛ وهي قد أسقطت عدة مرات ولكنها كانت لا تزال تتشوق إلى إنجاب الأطفال؛ وهي تحت إشراف دقيق من قبل المحللين النفسيين؛ وقوامها افضل منه في أي وقت مضى؛ وهي تدرب نفسها على الدقة وضبط المواعيد؛ وهي تحاول التغلب على كل ما يضع العثرات أمام إنجازها فيلمها الأخير - على هذه الشاكلة كانت تتوالى جميع القصص والأخبار. بل إن الحديث الأخير الذي أدلت به ونشر في إحدى الصحف (عندما نشر فعلاً كانت قد أصبحت في عداد الأموات) كان فيه ذات الوتر هذا، وتر الأمل: فقد بدت ماريلين مونرو فيه تفعمها الثقة بان تمثيلها سيتحسن وستجد الأدوار الصالحة لها، وإنها ما بين علاجيها - علاج التحليل النفسي وعلاج العمل والجهد - ستصل إلى راحة البال التي كانت تفتقر إليها منذ أمل طويل.
وقد أدرك الجمهور انه ما دامت هناك مثل هذه الضرورة البالغة إلى التفاؤل فان الوضع ينذر بالخطر الشديد. لكن الغريب هو انه طوال هذه الفترة التي كانت تتزايد فيها مشاكلها التي كان الجمهور مطلعاً عليها تمام الاطلاع، ظلت الصورة التي يحملها لها هذا الجمهور كما كانت عليه. فمهما كان يقال لنا عن ضعف تمسكها بالحياة ظللنا نفكر بها كتجسيد لطاقات الحياة. وأظن أن رد فعلي لموتها كان كرد فعل الكثيرين: كان كأني منيت شخصياً بفقدان عزيز؛ غير أني شعرت أيضاً كما كنت لأشعر إزاء كارثة في التاريخ، أو في الطبيعة؛ فقد غاب عن الحياة شيء، وقد غاب من الحياة شيء، لأن ماريلين مونرو لم تعد موجودة. فإذ فقدتها الحياة، تأذّت الحياة.
كانت ماريلين مونرو نجمة معترفاً بها قبل ان اعرفها أنا إلا كفتاة تزين صورها غلافات المجلات. فهناك دوماً هذا الدرع، درع السخرية، يضعه بعضنا بين أنفسنا وبين من يكون محطّاً لإعجاب الجماهير، فكنت أتعمد تجاهل أفلامها. لكن حدث ذات مساء أن شاهدت على شاشة التلفزيون جزءاً من فيلمها (موقف الباصات)، وإذا بي أراها. ولست متأكدة أني عرفت من هي هذي التي أراها على الشاشة، لكن نوراً التمع في الغرفة: وحيث كان كل شيء قاتماً أشرق في الحال ضياء وتألق كما لو انبثق عن شيء يتخطى البشري والعادي. كانت لحظة فذة، لا أذكر أني عرفت مثلها في حال أية ممثلة أخرى؛ لحظة تتخذ مكانها مع اختبارات فنية نادرة وعزيزة على القلب، كذكرياتي أيام شبابي عن بافلوفا التي وصلت حداً من الكمال لم يصله أي فنان ممثل، أو الاختبار القريب العهد، اختبار رؤية بعض صور متحركة لنجنسكي. وماريلين مونرو أيضاً كانت تتحرك: وهذه نقطة هامة، إذ إن الصور الساكنة لم تكن لتستطيع أن تقتنص ما فيها من صفة وطبيعة مكهربة؛ ففي صورها المدروسة كان أول ما يفرض ذاته على المتفرج وفرة الناحية الجسدية فيها، لكنه لم يكن يرى فيها حيويتها الفريدة أو الصفاء الذي يدمج الروح بالجسد. وهكذا، في ومضة من الضياء لم تدم سوى لحظة، سقط عني درع السخرية الذي كنت أقاوم به معبودة الجنس هذه المحببة جداً إلى الجماهير، سقط عني ولم أعد إليه بعدها قط.
هذا ما حدث لي أنا، لكن بقية الناس لم يكونوا مثلي بل كانوا قد وقفوا منذ وقت طويل على ما لماريلين مونرو من موهبة فريدة في كيانها الجسماني واستجابوا لها حسبما تتطلبه موهبة الحياة هذه. فمنذ بداية حياتها الفنية كان الجمهور قد اعترف بعبقرية البيولوجيا، أو الكيمياء، أو ذلك الشيء كائناً ما كان، الذي ميّز هذه المرأة الشابة عن سائر البشر. وإذ أقرّ بسحرها لم يكن اطلاعه على مرضيتها ليؤثر قط على اعتقاده بأنها حية بشكل لا يتسنى لنا نحن أن نعرفه، أو على الأدق انه كانت فيها شحنة من الحيوية توصلها لنا فتبدل الحياة كما هي في خيالنا - وهذه بالطبع هي مهمة الفن ومعجزته.
خطر لي في الآونة الأخيرة بعد وفاة ماريلين مونرو انه ربما كان السبب الذي جعل بإمكاننا أن نحتفظ بهذين المظهرين لمعرفتنا لها - أي إيجابيتها في الحياة واندفاعها نحو الموت - في توازن، هو انهما لم يعرضا ذاتيهما علينا قط بشكل يوحي إن أحدهما يحول دون وجود الآخر، بل على العكس بأنهما مظهران مرتبطان وثيق الارتباط بل انهما متوقعان في حياة خارقة كحياتها. فكأن العالم الذي أحب ماريلين مونرو أدرك ان فيضها البيولوجي يستثير بحكم الضرورة قيوداً على ذاته، وان هذه هي الشريعة القاسية التي تقاصص بها الطبيعة (أو على الأقل الطبيعة ضمن حدود المدنية) من يتطلبون من الحياة الشيء الكثير أو يغدقون على الحياة الشيء الكثير. لقد قيل لنا انه عندما تكون إحدى الحواس معطوبة فان الطبيعة تعوض على ذلك في الغالب بإحدى الحواس الأخرى: فالأعمى كثيراً ما يكون سمعه أرهف من سمع البصير أو تكون حاسة اللمس فيه أدقّ. أما ما لم يُقل لنا ولكننا مع هذا نفهمه فهو طريقة الطبيعة في التعويض السلبي - الثمن الذي ندفعه لقاء المواهب، والانتقام الذي يبدو إن الحياة تنفذه على الدوام ضد التفوق. ولاشك إن إدراكنا لما في ماريلين مونرو من نواحٍ (زائدة) حضّرنا لان نتوقع أن تكون فيها نواحٍ (ناقصة) ما. وبدا أن كون هذه المرأة الشابة التي تميزت بمواهب بيولوجية فائقة للعادة تعاني آلاماً عقلية، بدا انه نوع من التعويض والمعادلة. واعتقد أننا لو لم نكن نعرف عن أسقامها العاطفية فإننا كنا لنهيئ أنفسنا لمصير مرعب آخر لها - ككارثة طيران ربما أو كمرض مشوه. وهكذا نرى إن الإيمان بالخرافات قد يكون فهماً دقيقاً لنظم الحياة القاسية.
ومع هذا فمن الصعب أن نفترض إن الآلهة يمكن أن تبلغ بهم الغيرة هذا المبلغ. ألم تقاصص ماريلين مونرو في طفولتها بما فيه الكفاية بحيث لا تحتاج أن تلقى في المستقبل مآسي أخرى؟ وإذ نجحت هذه الفتاة الفقيرة المهملة في التغلب بقوة سحرية على المشاكل المحيطة بها لم يكن من عجب أن يتوقع المؤمنون منا بالخرافات أن تحظى بالسعادة حتى مماتها. فكان من المستحيل أن نفكر بماريلين مونرو إِلا كسندريلا. وبدا إن خير تفسير وتبرير لما في كيانها الجسماني من قوة غريبة هو في الظروف القصوى التي أحاطت بها في أوائل حياتها - في ولادتها ابنة غير شرعية، وأمها المجنونة، والميتم، وبيوت التبني الشبيهة بمستشفيات المجانين، واغتصابها من قبل أحد الأوصياء عليها في سن مبكرة. وإن كانت حياة ماريلين مونرو خالية من جنية صالحة ومن أمير ساحر (إلا أن قامت هوليوود بهذا الدور) فان هذا لم يجرد قصتها من الإعجاز الذي نراه في كتب الخرافات، انه دمج بالأقصوصة القديمة الخرافة الجديدة التي عندنا عن البطل (أو البطلة) الذي يكوّن ذاته بذاته. إن غريس كيلي كانت لها أسرتها الطيبة فمهدت لها طريقها وجعلت حقها
بالتاج حقاً شرعياً، أما ماريلين مونرو فإنها ملكت بفضل جمالها ليس إِلا، وبفضل إصرارها على أن تتفلت من الظلمة والقذارة وان تشع بنور بهي كامل. وليس بمدعاة للدهشة انه كلما ازداد إشراقها لمعاناً ازداد توقعنا دقة منتصف الليل التي من شأنها أن تضع حداً لمثل هذا السموّ.
لكن ابتعاد ماريلين مونرو هذا الابتعاد الطويل عن طفولتها التعيسة لم يكن وحده الذي رأينا فيه تحدياً للواقع لم يكن بد من أن ينتقم له الواقع. فإذا اعتبرنا موهبتها ليست موهبة مسرحية أو سينمائية (واعتقد إنها لم تكن هذه بصورة رئيسية) بل موهبة بيولوجية، فإنها كانت واحدة من أولئك المفعمين بالقوة، كانت واحدة من زمرة الفنانين الحقيقيين. كانت مواهبها بعيدة عن نطاق العادي والمألوف، فلم يكن لنا مناص من أن نشعر بأن المجتمع كما نعرفه لن يستوعبنا - ولهذا فإنها كانت تحمل فناءها بين طياتها. وكانت قوة ماريلين مونرو البيولوجية، ككل موهبة فنية عظيمة، قوة متفجرة وبدائية ومتوحشة. من أجل هذا كانت خطراً عليها هي وعلى العالم أيضاً الذي فعلت فعلها فيه. إن الفن كله شرس، بمقدار أهميته؛ وهو في شراسته يختار إما التمرد على المجتمع أو على القيود التي تحد منه أو على الفنان نفسه. ولاشك إن عجز معظم أفراد البشر عن تحمل هذا الضغط الشديد وقتاً طويلاً هو الذي يفسر كون الفنان أمراً شاذاً في أية مجموعة متحضرة من البشر. فالوصول إلى حل وسط بين الثورة على الذات والثورة على المجتمع، وخوض المعركة والخروج منها سالماً، لهو مهمة جبارة ليست الموهبة فيها إِلا عاملاً صغيراً.
من بين الأسلحة البالغة القلة المتوفرة للفنان في هذا الجهاد المرعب، ليس سلاح أكثر نفعاً من السذاجة. لكن الانطباع الذي لي عن ماريلين مونرو لم يكن أبداً إنها امرأة ساذجة. أني اعتقد إنها كانت ذات براءة، والبراءة غير السذاجة. فأن يكون المرء ساذجاً يعني أن يكون بسيطاً أو غبياً في أمور الاختبارات والتجارب، وماريلين مونرو كانت بعيدة عن الغباوة: فليس بمقدور من تكون غبية أن توجه لفتاتها البارعة ضد ذاتها أو أن تتمكن من الإجابة على الأسئلة المحرجة التي كانت تُسألها بالشكل الذي كانت تجيب عليها به. أما أن يكون المرء بريئاً فيعني أن يعاني التجربة بدون أن يقدر أن يتعلم منها حماية ذاته، كما لو كانت البراءة تحت رحمة التجربة وغير قادرة على تعبئة قوى مضادة للقدر.
واشعر نحو ايرنست همنغوي كما اشعر نحو ماريلين مونرو، أنه كان عاجزاً عن إقامة حصون دفاع كافية ضد أحداث طفولته المؤلمة، على الرغم مما اشتهر به من خشونة وعلى الرغم من بسالته في الحرب والصيد والمغامرات الخطرة التي كانت تستهويه. كان رجلاً بريئاً لا رجلاً ساذجاً، ولو انه لم يكن دائماً ذكياً. وفي ماريلين مونرو تعترضنا مفارقة مماثلة: فإنها حتى عندما كانت رمزاً للتجارب القصوى، للمعرفة الجنسية، كانت تجيء كلّ ظرف من ظروف حياتها (سواء انشدها هذا الظرف أم أنشدته هي) كما يجيئه طفل وليد. ومع ذلك فقد كان هذا مبعث الإشراق فيها - براءتها. وإشراقها لم تغيبه اختباراتها لبشاعة الحياة وقبحها، لأنه في الحكم الأخير وفي عمق أعماقها لم تؤثر بها هذه الاختبارات من قريب أو بعيد.
يرى الأطباء النفسيون إن البراءة المفرطة، إن الفجوة الكبيرة بين ما حدث لشخص وما استوعبه من تجربته، لهي عارض ينذر بالخطر - فقد تدل على انقطاع في علاقته بنفسه. ولا شك أن البراءة المفرطة في حقول الخلق تستهوينا إلى حد كبير، فهي تبعث نقاوة في التعبير تحملنا على أن نقول عن صنيع فني ما انه (من خارج هذا العالم). إلا إن ما يشكل فن شخص ما قد يؤدي بالتالي إلى هلاكه العاطفي.
ويخيل لي إن الأطباء والمحللين النفسيين كانوا يجدون صعوبة في معالجة ماريلين مونرو، وإنها كانت من وجهة عاطفية أشبه بالنسبة لهم بصفحة بيضاء لم يخطّ عليها شيء، وإنها كانت لا تقدر أن تقيم صلة بين ذاتها وبينهم رغم إنها كانت تتمنى إقامة تلك الصلة. لكن انعدام الصلة هذا كان في صلب موهبتها، وكان يحدد سحرها في أعين البشر، كما كان انعدام الصلة بين همنغوي وتجاربه ذا اثر فعال في موهبته. لقد حاول عشرات من المؤلفين مدى سنوات طويلة أن يحاكوا أسلوب همنغوي، أن يحاكوا ما في نثره من مرونة ونقاوة، وان يحاكوا البعد الذي كان بوسعه أن يضعه بين نفسه وبين الشيء الذي يتحدث عنه. لكن أحداً منهم لم ينجح في ذلك. واعتقد إن السبب في هذا هو إن نثره كان لحد ما انعكاساً عن البعد بين الواقع الخارجي وبين عواطفه - هذا البعد الذي لم يكن القضاء عليه ممكناً. وبالشكل ذاته كانت ماريلين مونرو عصية على المحاكاة. إن هوليوود ومسارح برودوي والكباريهات تمدّنا بانتظام واستمرار بعدد من ملكات الجنس، لكن الجمهور يقبلهن ثم ينبذهن، أو انه لا يقبلهن فعلاً؛ إن العالم لم تستعبده أية من هؤلاء كما استعبدته ماريلين مونرو، لان ليس بينهن من تستطيع، كما كانت تستطيع ماريلين مونرو، أن توحي بما توحي هي به من نقاوة في البهجة الجنسية. إن الجرأة التي كان بوسعها أن تعرض ذاتها بها دون أن تؤدي قط إلى الابتذال، والزهو والاستخفاف الجنسيين اللذين كانا مع هذا يبعثان جواً من الغموض والكتمان، وصوتها الذي كان يحمل نبرات ناضجة من الإثارة الجسدية وكان مع ذلك صوت طفلة حيية - كل هذه كانت جزءاً أساسياً من موهبتها.
ما اقصد قوله هنا هو إن مارلين مونرو كرمز للجنس كان فيها بالطبع شيء كثير من الزيف. فالرجال القليلون الذين اعرفهم والذين قابلوها في حياتها الواقعية اجمعوا على انه كان ينقصها الوقع الجنسي المباشر: صحيح إنها كانت حلوة وجميلة وظريفة، لكنها لم تكن أبداً المرأة المثيرة التي توقعوها أن تكون. يصعب جداً أن نحدد طبيعة الجاذبية الجنسية الحقة، فجانب كبير مما نجده مؤثراً جنسياً ينبع من الأوهام التي لا علاقة بينها وبين الغريزة الجنسية الأساسية. وفي حال الممثلة السينمائية، اكثر منه في حال سواها، ندخل أرجاء يختلط فيها الحلم بالبيولوجيا بدون عناء.
كانت ماريلين مونرو تتحدث إلى أحلامنا لذات الحد الذي كانت تتحدث فيه إلى طبيعتنا الحيوانية، لكن بطريقة خارقة للغاية - لأنها كانت تستهوي عزمنا على التحرر من الوهم وعلى التمسك بالواقع. وكانت ترضي رغبتنا بمواجهة شهواتنا الجسدية بدون ما يسربلها من رومانسية ومن ملابسات. وإذ عملت ضمن نطاق حضارة كحضارتنا، الجنس فيها محاط بالقيود والمخاوف والنواهي، فإنها اقتربت إلى الحد الأقصى من إعطائنا الجنس ذاته. لكنها لم تعطنا الجنس ذاته: إنما مثّلت إنها تعطينا إياه. وقد أضفت جواً من الفتنة على الجنس إلى حد جعله يفقد ما كان يلابسه من فزع، وربما كان هذا الحجاب الذي أقامته أمام الواقع الجنسي الذي جعل النساء كالرجال يستجبن لها استجابة كبيرة. واعتقد إن النساء أدركن بحكم الغريزة ان هذه المرأة التي تبدو اشد المخلوقات جنسية لم تكن لتهددهن في شيء.
وهكذا فقد كانت أسطورة ماريلين مونرو أسطورة بالفعل اكثر مما دار بخلدنا، فأن هذه الفتاة التي كان يفترض أن تحررنا من أحلامنا وتؤول بنا إلى الواقع الجنسي كانت لحد كبير غير واقعية بالنسبة حتى لنفسها. ولم يكن ممكناً أن تكون واقعية لنفسها من الناحية الجنسية وفي الوقت ذاته ممثلة علنية مدهشة للجنس وفنانة واعية فيه. ورأيي إن ابتعادها السحيق هذا عن مشاعرها هي، بما فيها مشاعرها الجنسية، هو الذي مكنها من الاحتفاظ بفوضى سنواتها الأولى الوقت الطويل الذي احتفظت به، ومن التحدث عن طفولتها الفظيعة بمثل تلك البساطة والعلن. إننا نخبئ عن الآخرين اصغر (شائنة) في ماضينا، خشية أن تؤدي معرفة الغير لها إلى تبديل نظرتنا لأنفسنا. غير أن ماريلين مونرو لم تكن بحاجة إلى مثل هذا التحفظ. فقد أفشت علناً بأفظع الحقائق عن تاريخها الشخصي، أفشت بها للعالم بأسره كما لو إننا نحن الذين لا علاقة لنا بها جديرون بالاطلاع على أسرارها - لكننا استجبنا استجابة كريمة غريبة لبراءتها، ولم نستغل اطلاعنا على أسرارها كما كان يمكن أن نفعل. وإذا نظرنا إلى الأمر من وجهة ما نتطلبه من الفنان، أي أن تكون له الإرادة والجرأة في أن يرتفع على التقاليد التي تقيدنا نحن الذين ليست لنا ما له هو من مواهب، فإن صراحة ماريلين مونرو بخصوص حياتها المبكرة شيء جدير بالتقدير والتبجيل. إلا أن صراحتها هذه، من وجهة نظر أخرى، كانت إنذاراً بان السدود الطبيعية، سدود وقاية الذات، كانت مهدودة أو معدومة، بحيث تركتها معرضة لأخطار رياح الظروف المختلفة.
والواقع إن كلمة (معرّضة) كلمة أساسية في سياق حياتها. فقد كانت ممثلة، تعرض شخصها وشخصيتها على نظر الجمهور. وكانت كائناً بشرياً معرضاً، تذكر الحقيقة عن نفسها علناً وبكل استعداد. وكانت اكثر من غالبية الممثلات تعرض جسدها، ولم تكن تدرك إدراكاً تاماً ما يحيط بذلك من ملابسات. فنحن نذكر مثلاً الفضيحة الصغيرة المحرجة التي نجمت عن كونها جلست مرة عارية لتلتقط صورتها وتنشر على غلاف روزنامة، والدهشة والبراءة اللتين أبدتهما وعدم فهمها سر استياء الأستوديو الذي كانت تعمل له، كأنها كانت تريد أن تقول: (لكن تلك هي أنا بالأمس عندما كنت بحاجة للمال. لكنها ليست أنا اليوم، فأنا اليوم املك مالاً). وكما كان بالأمس واليوم فاقدي الاتصال واحدهما بالآخر، كانت هي فاقدة الاتصال بذاتها، ولعله لا يربطها معاً إلا نجاحها، ولوقت محدود.
وكان هذا النجاح وثيق الاتصال بإدراكها ووعيها لجاذبيتها الجسدية. ولعل كونها محط أنظار الجماهير إلى ذلك الحد الكبير وهدف إعجابها البالغ كان هو الذي أعطاها الجزء الأوفى من إحساسها بكيان وهوية شخصية لها. ونحن نعرف الآن إنها قبل وفاتها بزمن غير طويل طلبت ان تصور عارية، وعملت بعناية على الانتقاء والحذف في هذه الصور الكثيرة، كما لو إنها كانت تريد التأكد من إنها ستخلف للمستقبل خير سجل ممكن لها. غير إن هذه الصور إنما تترك سجل جمال مبذر، أو على الأقل فيما يتعلق بجسدها الشهير - فبينما يبدو فيها وجهها جميلاً كما كان أبداً، ولم تترك فيه آلامها البالغة أية ندوب، فان جسدها يبدو فيها سقيماً وتالفاً وقد استنزفت منه الحياة. وقد نشرت هذه الصور مؤخراً في إحدى المجلات الغالية الثمن المكرسة لأمور الحب والشبق. وإذا كان سعرها الغالي، الذي يجعل من المتعذر شراؤها على القارئ العادي، يمكن تفسيره على انه احتياط ضد سهولة الحصول عليها من قبل من لا ينشدون سوى الإثارة، فان هذا التحسب لم يكن في الواقع ضرورياً: ذلك لان ماريلين مونرو العارية لم تكن لتثير في أي متفرج طبيعي أي شيء سوى الشفقة وشيء من الرعب.
لكن نجاحها كان مهدداً حتى قبل هذه اللحظة القصوى. فحياتها الفنية العظيمة كانت قد بدأت بالانهيار. ولم تكن قد مثلت فيلماً ما منذ أمد طويل، والفيلم الأخير الذي عملت فيه كان يتأجل مرة بعد مرة لأنها لم تكن تقوى على الحضور للاشتراك فيه. ولم تكن لها حياة خاصة تلجأ إليها، بل لم تكن لها شكليات مثل هذه الحياة: فلا زواج، ولا عائلة، و (كما يبدو) ولا حتى أصدقاء. وقد اعتدنا أن ننظر إليها كأنها اشد الناس وحدة ووحشة، فكان مدعاة لشيء من المرارة أن نكتشف لدى موتها إننا لم تكن تحدونا وحدنا رغبة في مساعدتها بل كان يشاركنا في ذلك غرباء كثيرون آخرون، وبصورة خاصة من النساء اللواتي كان تعرّضها الشديد للعطب يستدر عواطف الوقاية والحماية فيهن. لكننا كنا أصدقاءها الذين لم تعرف عنهم شيئاً، ويبدو انه لم يكن مجال بين الناس الذين عرفتهم لأية صلة حقيقية عبر الفراغ الصحراوي الذي يعزل كل من يفقد الصلة بمشاعره. وتخطر ببالنا في تلك العشية الأخيرة من حياتها، وحيدة ذاهلة، تفتش عن السلوى الإنسانية تفتيشاً، فلا تجد إلا ذلك الصف الذي لا ينتهي من زجاجات الأدوية، وإذا نحن أمام شجن ابلغ من المأساة.
ولا شك انه ليس من العدالة في شيء ويصعب على الخيال تصديقه أن تكون اكثر نساء العالم فتنة قد قضت عشية سبت لوحدها دون رفيق - فقد كانت عشية يوم سبت عندما أودت بحياتها. في أية ليلة عدا ليلة السبت، يسمح لنا بأن نصرف الليلة وحدنا، أما ليلة السبت فهي الليلة التي على جميع الفتيان والفتيات في أمريكا أن (يثبتوا) ذاتهم جنسياً فيها. هي الليلة التي يجب أن نخرج فيها من بيوتنا، ونرتاد الأماكن فيرانا الناس فيها بين المصطفين جنسياً. إلا إن الفتاة الأمريكية التي كانت تمثل النجاح الجنسي وترمز إليه بالنسبة لنا جميعاً صرفت آخر ليلة سبت في حياتها وحيدة بائسة. إن كل رجل في البلاد لكان يتمنى أن يكون رفيق ماريلين مونرو (أو هكذا كان ليدعي)، لكن لم يرافقها من معارفها أحد.
أو يخطر ببالنا مأتمها (ونحن نتأمل في الوحدة التي كانت تعانيها)، مأتمها الذي تُعمّد فيه أن يمنحنا الهدوء والخلوة اللذين كانت تحتاج إليهما طوال حياتها، لكنه لقلة عدد من حضروه ذكرنا بمحدودية علاقتها الواقعية بالعالم. كان جو ديمجيو، زوجها لأشهر قليلة في أوائل عهدها الفني، على رأس المشيعين. وديمجيو هذا هو الذي (كما قالت لنا) كان يستحيل اتخاذه زوجاً لأنه لم يكن يتحدث: فعند وجبات الطعام كان بدلاً من أن يتحدث إليها يقرأ الجرائد أو يتفرج على التلفزيون. أما زوجها الأخير، الذي كان يتحدث، فلم يحضر المأتم - ولا شك إن لديه أسباباً تبرر تغيبه، لكن تغيبه كان محزناً. ولست ادري هل تلوا قراءات ما في خدمة الدفن، أو إن فعلوا فلا اعرف ما هي. لكن يطيب لي أن أفكر إنها كانت قراءات أدبية سامية، كالتي تتلى في مأتم امرئ مبرز فائق التبريز من الناحية الفكرية.
ذلك انه من بين سائر ألوان القسوة التي سامها لهذه المرأة الشابة حتى الجمهور الذي احبها، يبدو لي إن القسوة الأشد والتي لا تجدر بمن يفترض فيهم التمدن، هي السخرية من رغبتها في أن تتثقف أو في أن يظنها الناس مثقفة. صحيح إن لنا الحق في أن يعترينا شيء من الحيرة عندما تدعي معبودتنا الجنسية إنها تحب دستويفسكي، ولكن لا شك في إن باعث انزعاجنا يقبع في شكوكنا بقيمة دستويفسكي لنا اكثر مما يقبع في ماريلين مونرو. فمغزى سخريتنا هو التشكيك بحاجة من يملك مقداراً كافياً من الجنس إلى أن يقرأ دستويفسكي. والفكرة إن امرأة كماريلين مونرو لها ما لها من مواهب جنسية كانت تبتغي أي شيء غير القيام بنشاطات الحب والجنس سلب منا وهماً محبباً إلينا، هو إن الجنس هو كل شيء.
واشك إن الجنس كان يعني كثيراً لماريلين مونرو، عدا كونه وسيلة لإعلاء شأنها في الحياة. وكان أحد الأسرار المؤثرة التي باحت بها عن أوائل حياتها وصفها لكيف اكتشفت إنها بشكل من الأشكال تختلف جنسياً عن سواها من الفتيات في عمرها؛ فقد كان الفتيان يصفرون لها ويتجمهرون حولها كما تتجمهر الدببة على العسل، وهكذا أدركت إن فيها ولا شك شيئاً خاصاً بها لا بسواها، شيئاً تستطيع أن تستثمره كي ترتفع على ظروفها البائسة. أي إن وعيها الجنسي جاءها من خارج ذاتها. ورأيي الشخصي انه ظل خارج ذاتها على الدوام، تاركاً فيها فراغاً كبيراً، في حين إنها لو كانت لها نزعة جنسية حقيقية لكانت أمدتها بإحساس بذاتها كإنسان له صلات وفيه محتوى.
هذا الفراغ حالت أن تملأه بكل ما تيسر لها من سبل، بمتاع الدنيا وبالشهرة وباهتمام الجمهور وبالزواج، وأيضاً بسبل لم تتيسر لها كالأطفال والحياة البيتية. وحاولت كذلك الحال أن تملأ فراغها بالكتب والتثقف. فما أحقرنا إذ حرمناها من أي شيء كان يمكن أن يزيد في ثقتها بأنها إنسان بحق وحقيق وليست مجرد جسد غير مأهول.
أما إنها كانت تتحلى بمقدرة ذهنية على التعلم فمما لا شك فيه مطلقاً، ولم يكن ينقصها غير أن تُقرن بمقدرة عاطفية. فلو لم تكن على قسط كبير من الذكاء الحاد لما استطاعت أن تسخر من ذاتها بكياسة كما كانت تفعل أو أن ترد على أسئلة الصحفيين بما كانت ترد به من دهاء وحسن تخلص. وإذا حكمنا عليها من المقابلات في الصحف وسواها، وجدناها خلواً مما يتسم به الممثلون والممثلات في حياتهم الواقعية من رتابة وبلادة، ومما يتسمون به من تأدب ومجاملة ليسا إلا دليلاً على حبهم لأنفسهم؛ ووجدنا إنها منزهة عن عادات أفراد مهنتها - فلا نذكر إنها أبدت مرة واحدة حداً لزملائها أو نقداً لسواها من مخرجين ومؤلفين وأزواج لتقصيراتها هي. والواقع إن ما كان في روحها من أريحية كان جزءاً من الإشراق الذي لازمها. لكن هذه الأريحية التي وجهتها إلى سواها لم توجهها إلى ذاتها، فقد كانت قاسية على ذاتها، وكانت تسخر من نفسها ومن كل ما عندها مما يمكّنها من المضي في الحياة: مواهبها البيولوجية. ولا شك إن هذا زاد في تحبيبها الينا، لكنه أزاح من تحتها البقعة الصغيرة التي كان بوسعها أن تسميها مُلكاً لها. وعندما كانت تعرض وفرتها الجنسية بذلك الشكل المبالغ المدهش المرح، أو كانت تنظر وعيناها مفتوحتان على وسعهما إلى ما سببته من دمار، كانت كأنما تقول بطريقتها الخاصة: (لا تخافوا، أنا لا احمل نفسي محمل الجد، فلا حاجة لكم بأن تحملوني محمل الجد). أي إن موهبتها الهزلية كانت خيراً على جمهورها لكنها كانت وبالاً عليها هي، إذ إنها كانت تحتاج اكثر من سواها من الناس إلى اليقين بأن لها قيمتها في ميزان الحياة البشرية، وبأن لها كيانها وواقعها، وبأن لها جميع المؤهلات لجعلها إنساناً نستطيع أخذه جدياً. كانت تنشد السلوى، ووهبتنا السلوى. كانت متسولة، وأغدقت علينا العطايا.
نشرت في العدد الثاني من "حوار" 1965
ليست هناك تعليقات