Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

جول سوبرفيال.. الشّعر مهموساًً

  ميشال باغلان ترجمة: أحمد حميدة في مجال الشّعر.. كان سوبرفيال هو ذاك الفارس الذي بالكاد نجرؤ على ملامسته خشية أن نراه يتفتّت، فهو الشّ...

  ميشال باغلان
ترجمة: أحمد حميدة

في مجال الشّعر.. كان سوبرفيال هو ذاك الفارس الذي بالكاد نجرؤ على ملامسته خشية أن نراه يتفتّت، فهو الشّاعر الذي كانت كلماته الرخوة، شبيهة بأجنحة الفراشات، ولها الملمس الدّمقسيّ لملاءات نديّة. نحن لا نذكر شيئا كثيرا عنه، واختفاءه الخاطف، الذي أحيانا ما يعود فيذكّرنا به، لا يمنعنا البتّة من التسكّع داخل أروقة كلماته الصّريحة والشفّافة، التي متى أصخنا إلى رنينها، تظلّ هامسة في آذاننا.


ابن صيرفيّ، ولكن ليس في سجلاّته من رصيد غير حياته، ومن مُستحَقٍّ للدّفع، غير الموت. 

مثل «مجرّةٍ بشَعر أبيض»، كان سوبرفيال شاعر البراءة الوافد من الـ (هناك).. يتيماً في سنّ مبكّرة، تقريباً منذ الولادة، مترحّلاً دون توقّف، متسكّعاً عند تخوم قلبه وفي السّهول الرّحيبة، عَبَرَ سوبرفيال هذا الوجود وهو يبتسم للحياة وللشّعر. كمالك الحزين، يكون قد اخترق زمنه دون أيّما حرص على فهمه. كان أكثر قرباً من هولدرلين وريلكه منه إلى أندريه بروتون، وهو يدرك أنّه يعيش خارج الزّمن، وأنّه في طريقه إلى الزّوال من قبل أن يكون. كما كان يدرك أنّ صوته يسمع من بعيد، ولكنّه يظلّ حيث هو مثل «حلم معلّق». إنّه ذلك «الآتي من الخارج».

لقد كان يقول «فيما يرتق اللّيل تمزّقات النّهار...»، وكان شعره توقا إلى رتق تمزّقات الحياة. كان يدرك أنّ شعره لن يغيّر العالم، فانتبذ في زاوية ضيّقة، ولكن منها حظي بإطلالة على الأبديّة، في تلك الزّاوية أوقد ناراً ضئيلة، ولكنّه أحياناً ما كان هو ذاته النّار والسّماء والنجوم والشّجرة والخبز. وإنّنا لنشعر بتضاؤل وطأة البرد حين عرّفنا على «أصدقاء مجهولين مسكوا بأيدينا».


جزء من أعماله غدا بعيداً عنّا، وهو ذلك الشّعر المبهرج والمتصنّع، الشّبيه بأبّهة ذابلة، ولكنّ الجزء الآخر يظلّ مندمغاً عميقاً فينا. ونحن أيضا «بمصفاة الذّاكرة النّسيئة»، سنحتفظ بذلك الجزء المشرق البعيد عن الحذلقة.


المقيم خارج عصره

إنّ هذا الرّجل النّحيف، المتطاول كالطّائر الخوّاض، يمضي بقامته الفارعة، شارد الذّهن، وشعره ينساب منه بتلقائيّة نافورات متنهّدة. كان ينظم الشّعر، وهو يعبر الطّرقات، مستذكراً أنّه شاهد نفسه يوماً ما هناك. في أزمنة سالفة. وكرجل للذّكرى، كان مبلّلاً بالرّذاذ اللاّذع للمحيط الأطلسي، تغشاه النّسمات الدّافئة النّازلة من جبال البيرينيه صيفاً، تخاطبه الرّيح الجامحة التي تعرفه جيّداً، وهو يمضي متّئداً، ضالاًّ، في رحاب بامبا الأورغواي.
حياة لا تتخلّلها أحداث لافتة، رجل الحبّ الأوحد - تزوّج من بيلار، وكان أب لستّة أبناء - مرّ سوبرفيال متزحلقاً دون أن يسند أرجله على صفحة العالم. مترحّل - مقيم، كان أحياناً ما يقول لنفسه، وداعاً، ولكنّه كان يأبى المغادرة.
«هكذا نمضي ما بين البشر الآخرين
وأحيانا ما يتحدّث بعضهم في آذان بعض»

كان يبدو حتّى أواخر أيّامه، غير منخرط في زمنه، مقيماً خارج عصره، بعيداً عن كلّ غوغاء، غير مبال بالحراك الذي كان يهزّ الشّعر المعاصر، كالسرّياليّة وغيرها، ظلّ كلاسيكيّاً وغريباً تماماً عن تيّار الحداثة، ومع ذلك فإنّنا نجد أصداء صوته مبثوثة في شعر فيليب جاكّوتييه وإيف بونفوا.


الكوّة السّماويّة التي كان ينظر من خلالها، كانت تُطلّ على ذاته وعلى أشباحه الدّاخليّة، إذ اختار أن يعيش وفق هذا الشّعار: «ماذا لو تأمّلنا الحياة عبر تجاويف الموت؟».

هكذا عاش على السّطح، منتهباً بمحدوديّة الإنسان وتناهيه، وظلّه المتطاول يقيم بين الموتى.
بلغ سنّ الخامسة والسّبعين حين توفّي بباريس في 17 مايو 1960، وكان قد ولد في 16 يناير 1884 في منتفيديو بالأورغواي، لمّا أراد والداه مغادرة البلاد لتحقيق بعض الثّراء، حظي بالشّهرة، ولكنّه كان من زمن آخر.
توفّي قبله بشهر بيير ريفردي، فيما كان سان جون بيرس على وشك الحصول على جائزة نوبل للآداب، أمّا هو الذي كان تجسيداً للدّماثة واللّطافة، فقد آثر الاختفاء في اللّحظة التي بويع فيها «أميراً للشّعراء» بفرنسا في 30 أبريل 1960.

وحيداً يمضغ عشبة الموت

«ببهائه المضجر» خطّ سوبرفيال على قصاصات كثيرة من ورق، كلمات غدت أسواره في وجه الجنون، ومتاريسه في مواجهة النّسيان وفقدان الذّاكرة. وكان للواقع حضور ضئيل في وعيه طالما «أنّنا منذ الولادة موعودون بالتّيه والموت»، فكان يمضي صامتاً، وهو يمضغ وحيداً عشبة الأموات. لاجئا في أسطورة الوجود وفي الخرافات، كان يكتب نصوصاً وكأنّها التّعاويذ، وهو دائما، وكبهلوان لطيف، يتراقص على خطّ التّوازن بين الهُنا والهُناك، بين عالم الأحياء وعالم الأموات. وحين نقرأ بعضاً من كلماته، تنتابنا حالة من الارتياع، إذ هي ليست فقاعات صابون قزحيّة الألوان ومبهجة، وإنّما غوص في تقلّبات انجذاباته.

«نحن نمضي، يحاذي بعضنا البعض، 

وبالكاد نخفي طالعنا ودوارنا»

نشيد داخليّ عميق

لقد ظلّ سوبرفيال على مسافة «أصبعين ملغزين من النّور»، وذلك الإشراق الغائم والهشّ هو الذي يفعل فعله فينا، وإنّه ليكفي أن نخطو خطوة أخرى فوق حبله الأثيري كي نسقط، ففي ذلك التّوازن فوق قطع من سماء وبؤس، يكمن سحر كلماته. إنّه ذلك الذي يحوّل الواقع اليوميّ إلى أساطير، وبحركة ذهاب وإياب لا تتوقّف، يجعلنا نتأرجح بين الواقعيّ واللاّواقعيّ.
«أن لا نفنى من جديد من فرط التحرّق»، وخاصّة «أن لا نكون وحيدين حين نغدو في رحاب الأبديّة»، تلك هواجس هذا الّذي كان دوما متأهّبا للحراثة في أديم الحياة الأخرى.
كان متأرجحاً، متحرّكاً، وبتموّج هادئ كان يجعل كلماته تطفو على سطح البحر، الذي كان كلّ شيء بالنّسبة له، البحر الذي كان يحمله بداخله، والذي كان لا يني يهدهد مدّه وجزره.
أحياناً ما كان يجد نفسه محاصراً برواسب موروثة عن الرّمزيّة، فيتوفّق في التّعالي على الصّور الشّعريّة النمطيّة للكثير من معاصريه، ليغدو شعره بذلك جوهريّاً. وينبغي ألاّ يلتبس علينا الأمر لنعتبر هذا الشّعر محض شكوى هامسة، لأنّه كان حاملاً لنشيد داخليّ عميق. لم يكن شعره بالسّاذج أو البسيط، فهو «طاقة جاذبة»، تلهُّفٌ دائم، يخترق الأعشاب الطّويلة لكلماته، وفي زبد من صور، ينساب كجدول شجيّ تحت الأرض. إنّه المقيم في الأقاصي، في منفى داخليّ.. في المبهم، يركض في السّهول الرّحيبة للغياب، وكآبته الوثيرة يسري فيها حنين المسافات.

حفنة من دخان«إنّي لأكتشف كالمتطفّل مشهدي البعيد»..

أن نقرأ سوبرفيال، فإنّ ذلك يعني أن نتعلّم أنّ ضباب الحضور لا يفتح إلاّ على الغياب، وأنّ الواقع الغائم هو رؤية لقلب مكسور.. قلب مربكٌ. مصاب بداء في قلبه، كان سوبرفيال يترصّد نبض الحياة وهو ينتظر أن تتوقّف في أيّما لحظة.
شاعر عذب، شاعر الرّخامة، يطلق سوبرفيال موسيقا خافتة كم هي شبيهة برنين الجلاجل وهي في مهبّ الرّيح، موسيقا تجعله طاف فوق الكلمات، والرّجل ذاته، كان أشبه بصورة تمضي ولا تتوقّف أبداً، لقد حمل بداخله حزن الأرض، ويكون قد أمضى حياته محاولاً الظّفر بحفنة من دخان.

«من شدّة الموت وعدم البوح

جعلتم ذات يوم ودونما تفكير
شجرة تفّاح مزهرة تنبثق في عزّ الشّتاء».

وكم أهدانا سوبرفيال من أشجار تفّاح مزهرة.

«أنت بنّاء عظيم لجسور في الفضاء»، بتلك الكلمات خاطبه ريلكه، وفضلاً عن إبحاره الدّائم بين ثقافة الأورغواي والثّقافة الفرنسيّة، كان سوبرفيال يشيد جسوراً بين ظاهر العوالم المنفصلة للحياة والموت التي تحيط بنا، وتشكّل في نظره عالماً أوحد، يقول: 
«نحن نرى موتى الفضاء
يتجمّعون في الأجواء
ليعلّقوا بصوت خفيض
على مجازات العبور بين الأرض والسّماء.
لا شيء يرتضي الموت
ممّن ألف الحياة
و أوهن زفرة
تظلّ تحلم أنّها تنهيدة موعودة بالبقاء».

رجل التحوّلات والشّفافيّة

يبدو كلّ شيء شفّاف في ما يكتبه سوبرفيال. قد نظنّه بسيطاً، ولكنّه فحسب، أكثر جلاء ووضوحاً من المرئيّ. فهو بلُغته الشفّافة، يشكّل أمكنة أخرى للمقول، وعند قدميه تمتدّ مروج البامبا الرّحيبة. إنّه يصل السّماء بالأرض. يعدّه البعض شاعراً ميتافيزيقيّاً، وحسبنا نحن أنّه يعرف كيف يغالب الصّمت، وكيف يدندن في أذن الموت. كان يدرك أنّه لو توقّفنا عن تأمّل الوجود، فلسوف يتوارى وينتهي هذا الوجود... يقول في «البحر السري»:

«حين لا ينظر إليه أحد

لن يكون البحر هو البحر، 
سوف يكون نحن
حين لا ينظر إلينا أحد»

إنّه فقط رجل التحوّلات.. قد كتب إليه ريلكه أيضا قائلاً: «إنّ ذلك لَرَائع، أن تقيم مسالك للتّواصل فوق الهاويات».

مهرّب لللاّمرئيّ، يجعل سوبرفيال مألوفاً، الجانب الآخر من المرآة. ممعنا في طفولته، احتفظ دوما «بروح جامحة للخيال» وجعله يرافق لاهياً الفجر والنّسيم. من كلماته تنساب موسيقا هامسة.. موسيقا عجيبة، هي موسيقا البياض التي تنبئنا «أنّ الوجود هو الحطام البائس لزهريّة تستذكر أنّها كانت ذات يوم.. ترابا» (من آخر رسالة لريلكه إلى سوبرفيال قبل وفاته بقليل سنة 1926).
جداول من ماء المطر، جداول نابضة بالحياة.. هي قصائد سوبرفيال.. هذا الشّاعر الذي كان يقول: «إن لم يعد ثمّة من يفكّر فيّ، فإنّني سوف أتوقّف عن الوجود»، ينبغي أن يظلّ حيّا في ذاكرتنا. «طفل الأبديّة هذا، المخضّل بالرّذاذ المغترف من البحر» ينبغي أن نحضنه بأهداب القلب. 
لا أحد غيره، سعى باحثا عن «قطرة من ماء المطر سقطت في البحر، وقد عثر شاعرنا الرّهيف، على قطرات وقطرات.. مرّات ومرّات..
«كان الفجر يحصي عصافيره
ولم يخطئ الإحصاء ولو مرّة واحدة»، يقول سوبرفيال.

جريدة الاتحاد

ليست هناك تعليقات