الموارنة ولبنان ... الميراث والوعي والمشكلات

alrumi.com
By -
0

كمال الصليبي 
ترقى معرفتي بالأباتي بولس نعمان الى اوائل الستينات من القرن الماضي: راهب شاب ممتلئ الجسم، اصغر سناً منّي بقليل، ينبض صحة وعافية وحماسة وثقة بالنفس. قدم ذات يوم لزيارتنا في دائرة التاريخ في الجامعة الاميركية مع رفاق له، وأخبرونا عن مشروع الرهبنة اللبنانية المارونية لتأسيس ما أصبح عام 1965 جامعة الروح القدس في الكسليك، كما حدثونا ايضاً عن مشاريع لهم للتنقيب عن الآثار المارونية في الداخل السوري، ولاعادة كتابة تاريخ الموارنة على أسس علمية صحيحة. وكان صدر لي في ذلك الحين كتابي عن المؤرخين الموارنة وتاريخ جبل لبنان في العصور الوسطى، وكذلك أولى مقالاتي عن تاريخ الموارنة كنيسة وشعباً، فوفّر ذلك المجال لحديث جانبي خاص بيني وبين قدس الأباتي حول الموضوع وأبعاده.


تكررت اللقاءات بيني وبين قدس الأباتي بعد هذا اللقاء الأول، وتوثقت عرى الصداقة والمحبة المتبادلة بيننا مع مرور الزمن، وذلك على رغم اختلافنا منذ البداية، وحتى اليوم، حول أمور كثيرة، سواء في ما يتعلق بالتاريخ أو بغير التاريخ. لعل بعض الاشياء التي كتبتها حول تاريخ الموارنة وتاريخ لبنان لم تعجبه، فصارحني في الأمر، لأنه رجل صريح جريء لا يجامل، على كونه في الوقت ذاته يتمتع بروح رياضية تجعله يقبل الصراحة من الجانب الآخر بكل طيبة خاطر. ومن ذلك أنه عندما طلب منّي أن أقول كلمة في مناسبة صدور كتابه الجديد Les Maronites et le Liban، أصرّ عليّ أن انتقد الكتاب وأن أكون قاسياً في نقدي. وهذا ما قد أفعله لاحقاً، إن وجدت ذلك ضرورياً بعد التمعن في كل ما ورد في هذا الكتاب الممتع والغني والمتنوع في مادته.

أما لهذه المناسبة، وبعد قراءة أولى وسريعة للكتاب، فقد اخترت أن أبدي تقديري للفصل منه الذي شغفت به اكثر ما يكون. وهو الفصل الذي يتناول قضية أسعد الشدياق ضمن اطار الصراع بين الكنيسة المارونية وحركة التبشير البروتستانتي الذي ابتدأ في العقود الاولى من القرن التاسع عشر. علماً أن اسعد الشدياق، خريج مدرسة عين ورقة الشهيرة، كان من اوائل الموارنة المرموقين الذين التحقوا بالمرسلين البروتستانت آنذاك علناً، مما أثار عليه نقمة الكنيسة المارونية. فتم القبض عليه، وسُجن في زنزانة في دير قنوبين حيث عانى العذاب الى أن توفي عام 1829، وهو لم يزل بعد شاباً في الواحدة والثلاثين. وعبثاً حاول المرسلون الاميركيون والانكليز إنقاذه من سجنه أو فرض اجراء التحقيق في ظروف وفاته.

لا يعرف أبناء الجيل الجديد من البروتستانت في بلاد المشرق الكثير عن أسعد الشدياق. ولعل بينهم من لم يسمع حتى باسمه، بعد أن باتت قصته منسية. غير أن هذه القصة لم تكن منسية في الأزمنة التي كان البروتستانت في ديارنا يتناقلونها جيلاً عن جيل كمثال ساطع على ما عاناه الاوائل منهم من اضطهاد. وفي أواسط القرن التاسع عشر قام المعلّم بطرس البستاني، المتحول حديثاً عن المارونية الى البروتستانتية وهو من مؤسسي الكنيسة الانجيلية الوطنية في بيروت عام 1948 بتدوين سيرة أسعد الشدياق في كرّاس نُشر اكثر من مرة في ذلك القرن. وربما كنت أنا من اواخر البروتستانت الذين قرأوا هذا الكرّاس في صغرهم. عثرت عليه بين مجموعة من الكتب القديمة المهملة في بيتنا، فقرأته، واستنتجت أن ما يتحدث عنه هو مسألة حق وباطل. والحق كله الى جانب واحد، وكذلك الباطل. واستشرت أهلي وأساتذتي في الموضوع فوجدتهم جميعاً على الرأي نفسه.

بعد ذلك لم أعر الأمر كثيراً من الاهتمام الى ان وجدت نفسي غارقاً، قبل أيام، في قراءة مقال الأباتي بولس نعمان عن البطريرك الماروني يوسف حبيش 1823 - 1845 وتصديه لأولى موجات التبشير البروتستانتي في بلادنا. وقصة هذا البطريرك مع أسعد الشدياق تتصدر المقال. وكرّاس البستاني، الذي قرأته في صغري، في جملة المراجع المشار اليها في رواية الأباتي لهذه القصة. وتفاصيل هذه الرواية لا تختلف عن تلك المألوفة لديّ، سوى ان الذي يقوم بدور البطل فيها هو البطريرك يوسف حبيش، وليس أسعد الشدياق. ومثل هذا التغيير الاساسي في تقويم الأدوار في القصة يتطلب قدراً من التمارين الذهنية الخاصة لفهمه والقبول به. ومن هذه التمارين ما يسميه محيي الدين ابن عربي"تصريف الممكنات". و"الممكنات"في هذا الصدد كثيرة، وربما أهمها ما يأتي:

الامكانية الاولى: كان أسعد الشدياق شاباً مارونياً متميزاً، منفتح العقل، وعلى جانب غير عادي من المثالية. التحق بالمرسلين البروتستانت الاوائل لتعليمهم اللغتين العربية والسريانية، فتأثر بتبشيرهم وجاهر في ذلك، مما أثار غضب أبناء طائفته عليه، وعلى رأسهم البطريرك يوسف حبيش. وقد عزوا تعلقه بالمرسلين وتبشيرهم الى أنه يرتزق منهم. لكن أحداً لم يفلح في اقناعه بالرجوع عن موقفه، بحيث قضى شهيداً لمبدأ حرية الضمير ولمثاليته البريئة.

الامكانية الثانية: كان أسعد الشدياق شاباً غبياً، ساذجاً، مغترّاًَ بنفسه، يميل الى الهوس. فاستغل المرسلون البروتستانت نقاط الضعف هذه فيه، فدفعوه للقيام بما قام به ليخلقوا مواجهة بينهم وبين الكنيسة المارونية التي كانوا يعتبرونها أكبر عثرة في طريقهم. أو إن الشدياق كان صاحب المبادرة في ما فعل، حبّاً بالظهور، فشجعه اصدقاؤه المرسلون على المضي فيها حتى النهاية. وحال غروره، أو هوسه، أو غباؤه، أو الصفات الثلاث مجتمعة، دون تراجعه عن موقفه، حتى بعد أن تبين له المصير المحتوم، فانتهى أمره الى ما انتهى اليه. فيما اتخذ المرسلون البروتستانت من قضيته ذريعة للتشهير بالبطريرك يوسف حبيش والكنيسة المارونية، جاعلين من القضية الى حين ما يشبه القضية الدولية.

الامكانية الثالثة: وفد اوائل المرسلين البروتستانت الى ديارنا بعد نهاية الحروب النابوليونية في اوروبا عام 1815 بفترة وجيزة. وكانت فرنسا خرجت من هذه الحروب منهوكة القوى وضعيفة الشأن الى ان تعافت لاحقاً. فبقيت الى حين غير قادرة على الاستمرار في دورها التقليدي في حماية الكنيسة المارونية ونصرتها في الملمات. وهذا ما يشدد عليه الأباتي نعمان في مقاله، وعن حق. والامبراطورية النمسوية من ناحيتها، كدولة كاثوليكية كبرى، لم تكن قادرة على الحلول مكان فرنسا في حماية الموارنة الا ضمن حدود تمليها عليها علاقاتها الدولية، وبخاصة علاقاتها مع بريطانيا البروتستانتية. ولا بد من أن المسؤولين الموارنة سادهم القلق الشديد من وصول اوائل المبشرين البروتستانت الى ظهرانيهم في تلك الظروف، فأجمعوا على الاسراع في التصدي لنشاطهم قبل ان يستفحل أمرهم ولا يعود من الممكن احتواؤهم. وجاء اسعد الشدياق بمثاليته أو بغبائه، ومن دون تقدير للعواقب، يوفر للكنيسة المارونية الفرصة المناسبة للتحرك عند ذلك المنعطف الحرج من تاريخها، فحل به ما حل.

هذه ثلاثة من"الممكنات"بحسب تعبير ابن عربي في ما يتعلق بقضية أسعد الشدياق التي شغلت الاطراف المحلية والدولية المعنية بها ردحاً من الزمن منذ قرنين تقريباً. وقد تنجلي الحقيقة التاريخية في شأن هذه القضية اكثر فأكثر من طريق"تصريف"هذه الممكنات وغيرها بالنظر ملياً في كل منها على حدة ثم بالمقابلة بينها ضمن اطارها التاريخي الاوسع فالأوسع.

يبقى، أخيراً، ان هذه الامكانات"الممكنات"في قضية أسعد الشدياق لا تتنافى الواحدة منها مع الاخرى الى الحد الذي نتصور. فالانسان المثالي ليس بالضرورة، مثلاً، أن يكون حكيماً، بل غالباً ما يكون ساذجاً أو غبياً أو مهووساً. وفي مثل هذه الحال، قد يقصد المثالي أن يأتي بني قومه بالخير، فيأتيهم بدلاً من ذلك، مثلاً، ببذور فتنة، مما قد يستوجب استخدام القساوة في ردعه عما يفعل اذا لم ينفع معه اللين. على كون القساوة بحد ذاتها شيء غير جيد او مستحسن. وهذه النقطة بالنسبة اليّ هي بيت القصيد.

تربيت ونشأت على مفهوم معين لقصة اسعد الشدياق. وهو مفهوم لم أتعمق في درسه في أي وقت. اما اليوم فأنا استفيد وأغتني من مفهوم آخر لهذه القصة، مقرون بمعلومات لم يسبق لي ان عرفتها من قبل. وقد بدا لي هذا المفهوم الآخر مقنعاً من الناحية التاريخية الاشمل اكثر بكثير من المفهوم الذي كنت عليه. ومن ذلك تقديري الكبير للمقال الذي وضعه الأباتي نعمان في هذا الموضوع. أستثني منه فقط بضع نقاط ثانوية لي آراء فيها تختلف بعض الشيء عن آراء قدس الأباتي. ولكن الامر الأهم الذي سيظل يجمعني دائماً مع صديقي الأباتي هو امكان الاختلاف والصداقة في آن. والى مثل هذا الامكان ترتكز الحضارة ويرتكز التمدن.

مؤرخ لبناني
| منذ 12 مايو 2006 / 00:00 الحياة
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)