تفتحت براعمي على أزيز الرصاص، وأول مشهد ميليشياوي شاهدته في حياتي، كان في ربيع 1975، اي بعد حادثة بوسطة عين الرمانة بأسابيع، حيث كنت أ...
تفتحت براعمي على أزيز الرصاص، وأول مشهد ميليشياوي شاهدته في حياتي، كان في ربيع 1975، اي بعد حادثة بوسطة عين الرمانة بأسابيع، حيث كنت أراقب محيط دار الايتام الاسلامية في بيروت من خلال شباك في أحد الاقسام، الذي كنت أقيم فيه، وقد شاهدت سيارة تقل بضعة مسلحين تجول في المنطقة، وأحدهم كان يعتلي سقف السيارة، واول مأتم من انتاج الحرب شاركت فيه وان كان مصغرا أيضا، كان في هذه المؤسسة، اذ كان يوجد فيها بعض الاطفال من عرسال وفي احدى الزيارات، وصل اقرباء طلاب من بلدتي من عرسال ومن بيروت، وصلوا تباعا الى مكان جلوسنا في الملعب، حيث اجتمعنا مع ثلاث سيدات، وبعد السلام والمصافحة، بات اسئلة الاطمئنان والاستفسار...
- مبسوطين؟
- كيفكم بالمدرسة؟
- اين تنامون؟
- ماذا كان غدائكم اليوم؟
ولم تمض دقائق حتى اكتمل نصابهم، بوصول العم ابو عبدو، فوضع الكيس الذي يحمله جانبا وصافح الجميع كبارا وصغارا، وجلس الى شقيقته فاستذكرت احداهن خبر استشهاد محمود الافندي بلوعة وحسرة، فهاجت العواطف وانهمرت الدموع، ولكن ما معنى كلمة استشهاد لا اعرف، ومن هو محمود الافندي، لا اعرف في ذلك الوقت... كل ما عرفته، أن العم ابو عبدو بكى وبكت معه قريباته لدقائق امامنا، وقد تسمرت الدمعة في عيوننا، نحن أطفال الميتم، ومنا من اضربت اللقمة في حلقه، لا تريد النزول طوال هذه الدقائق، فانتبهت لنا احدى السيدات فمسحت دموعها بغطاء راسها، وقالت: - كلوا يا عيوني يلعن ابو الموت.
واستدعتنا لتقبلنا وتداعب شعرنا وتقدم لنا مما تحمله من حلوى وطعام.
اما المأتم الثاني الذي حضرته بل فرض عليّ حضوره في مؤسسة دار الايتام الاسلامية، وهو من انتاج الحرب فكان للاستاذ عدنان من معلمي المؤسسة وقد قتل على احد الحواجز الكتائبية، وهو ذاهب الى بلاد الجبل لتفقد عائلته، فقد اعلنوا الحداد عليه واخرجونا من صفوفنا ونجلس بصمت في الملعب، نستمع الى آيات قرانية من مكبرات الصوت على روح استاذنا، وفي اليوم التالي دخلت المعلمات الى الصفوف متشحات بالسواد، وخصصت الحصة الاولى للحديث عن مناقبية الاستاذ عدنان واخلاقه وعطائه وقتله الغير مبرر من قبل عصابات الكتائب، لكن نحن اطفال لم نعرف من هم الكتائب؟! ولماذا قتلوا الاستاذ حتى بعد شرح وتفسير المعلمة كوثر مربية الصف...
وكنت في ذلك العام في الصف الرابع ابتدائي، متفوق دراسيا حيث كان فرق شاسع بالعلامات بيني ومن يتبعني في الترتيب داخل الصف، وقد وعدتني معلمتي في حينه ان تسعى في العام القادم لتسجيلي في الصف السادس دون المرور في الخامس، تقديرا لتفوقي وحسن استيعابي لكن رغم تفوقي المدرسي، كانت ثقافتي العامة وخزان معلوماتي شبه فارغ، وقد سألتنا المعلمة سؤال لنفكر فيه دقائق قبل الاجابة وهو " لماذا لا يستطيع العربي الذهاب الى القدس؟" وبدأت بأخذ الإجابة من عندي فكان جوابي لا اعرف... ومن بين عشرين تلميذا جاوب مصطفى إجابة صحيحة وقال: لأنها تحت الاحتلال الاسرائيلي، فاطرت على معلوماته ومدحته وطلبت منا ان نصفق له، ففعلنا، ولكن انا حقدت عليه ضمنا، واعتبرت اجابته الصحيحة تطاول علي.
وانتهى العام الدراسي على وقع طبول الحرب، ووصل احد اخوتي لاصطحابي الى بلدتنا، وخرجنا من المؤسسة ومشينا الى ما بعد جسر البربير، اوقف اخي سيارة اجرة وسمعته يقول للسائق: البلد. حيث كان موقف بوسطة ضيعتنا، فاشار لنا بان نركب وركبنا وانطلقت السيارة بهدوء في الشارع ورحت انظر الى جانبي الشارع نظرة المستكشف، الباحث عن المشهد الغريب والمثير، ولكني لم أجد ما يشد انتباهي ويشبع فضولي ولكن ما لفتني حركة السير الخفيفة وقلة العجقة قياسا بالمرات السابقة التي سلكت فيها هذا الطريق ذهابا وايابا وبعد دقائق كنا في ساحة البرج او البلد مثلما كان يطلق عليها، ولكن اي بلد؟
البلد الذي بهرني بانواره واضوائه منذ اشهر قليلة يوم جلت فيه وشدتني كل واجهة محل بمفردها ووقفت متاملا دون معرفة ماذا يبيع هذا او ذاك، ادهشتني الساعة في الحديقة الصغيرة وعقاربها الخشبية التي تدور وتحتك بنباتات المرج ومن حولها بعض الورود الجميلة، واعتبرتها ضرب من المعجزات وفكرت فيها اياما وليالي لاني لم اكن املك تفسيرا لها، درت حول نصب الشهداء متأملا شموخه بإعجاب ولكني لم اعد اذكر ما شدني إليه هل هي هذه الكتلة المعدنية ام عظمة ما يرمز له... راقبت ناس هذه الساحة بذهول لحركتهم الصامتة بكل الاتجاهات ولاناقتهم وحسن هندامهم وخاصة النساء منهم لاني رأيت مشاهد كثيرة، لم تكن مألوفة لدي ولم ارها في ضيعتنا، ولكني افتقدت في هذه الساحة رواد ساحاتنا وطرقاتنا من تجمعات صغيرة على جوانب الطرقات وابواب المتاجر ولاعبي "المنقلة" وخلافاتهم.
وعندما نزلت من السيارة صعقت ولم اصدق ما شاهدت النفايات منتشرة هنا وهناك وزجاج مكسر يغطي عدد من الارصفة يوحي بان احداث عنيفة حصلت هنا، عدة سواتر من الكياس الرملية يقف خلفها عناصر قوى الامن الداخلي بخوزاتهم المعدنية والتعب والارهاق ظاهر عليهم، عدد من المحلات والمؤسسات مقفل، وحركة الناس في الساحة خفيفة، ومن فيها يحاول الخروج او الهروب منها بسرعة، وعندما اقتربت لألقي نظرة على ساعتي المعجزة، وجدتها مدمرة وعقاربها اشلاء وملامحها توحي بان الزمن توقف، ولم تطل مشاهداتي بسبب مناداة معاون سائق البوسطة للاسراع في الصعود، والانطلاق خوفا من طارئ في الحسبان وكان الوقت قبل الموعد المتعارف عليه للانطلاق، انطلقت البوسطة ونظري لا يريد مغادرة ساحة تلبس رداء الموت عنوة، ودعتها بنظرة شاملة وحزينة وبقيت انظر اليها حتى اختفى النصب بشموخه اخر ما شاهدت، ولم اكن اعلم بان هذه المرة الاخيرة التي ارى فيها هذه الساحة المميزة. وخلال عودتنا كان حديث الركاب الاحداث التي تعصف في لبنان وفلان صرح وفلان، قال واكتر الكلام لا أفهم معناه او المقصود منه. اما انا فقد كنت مستمتعا بمراقبة جوانب الطريق الغنية بمشاهدها الرائعة في بداية فصل الصيف خاصة، وقد كانت بلدتنا تفتقد الى بعض الاخضرار بسبب ندرة المياه فيها لعدم وجود الينابيع، ولم يكن اهلها قد تعرفوا على الابار الارتوازية حيث كانوا يعتمدون على مياه الشتاء والجمع في الصهاريج، وعند الضرورة كان يجلبون المياه من نبع اللبوة بواسطة الجرارت الزراعية بكلفة مرتفعة، وقد مررنا على عدة حواجز لقوى الامن الداخلى وكان البعض منها يوقفنا ويفتش ويدقق في الهويات.
ووصلت البوسطة الى ساحة بلدتنا بعد ساعات، نزلت منها منهيا رحلة التغرب عن اهلي، استمرت عاما دراسيا ودخلت البيت لأعود الى موقعي الطبيعي داخل الاسرة انهل حاجتي من عطف الاخوة ورعايتهم وحنان الام...
ليست هناك تعليقات