من الموروث النهضوي لعلم السياسة الكلاسيكي، يأتي التداول التسلسلي للسلطة_ العائلي والوراثي _ في مقدمة القواعد والتحولات، قبل ان تكسر ثورا...
من الموروث النهضوي لعلم السياسة الكلاسيكي، يأتي التداول التسلسلي للسلطة_ العائلي والوراثي _ في مقدمة القواعد والتحولات، قبل ان تكسر ثورات الشعب العنيفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أشهرها الثورة الفرنسية، هذه القاعدة. كانت التمردات العائلية الكلاسيكية، داخل العائلات المالكة البروسية والقيصرية والفكتورية والإسبانية، قد ساهمت في نشوء القطع الفرنسي العنيف في الإرث السياسي الأوربي المتسلسل؛ إلا أن المانفستو الثوري للفئات المتسلقة متاريس الشوارع فتح أبواب القصور الارستقراطية لإرادات شعبية غمست كسرة الخبز ببارود السلاح، وأطاحت بنظام التسلسل الكلاسيكي لأنظمة الحكم. كان هذا ايضا نهاية عهد الكلاسيك السعيد لفن الباروك، وموسيقى البلاط الكنسي وشهقات الرومانس ورقصات الفالس الاحتفالية. مثلت موسيقى فاغنر النغمة النيو كلاسيكيةالفاصلة بين عهدين، مع أفكار كانت وفخته وتطلعات النخبة القومية الألمانية؛ بعد أن اكتسح أوربا نشيدُ المارسيليز، على وقع الأحذية الزاحفة على الباستيل، وأشكال الحرية المنتفضة في لوحات ديلاكروا.
هنا، في الشرق النائم على وسائد الانتداب الاستعماري، الاستشراقي في مزاجه الفكري والفني، كان الكلاسيك السياسي متمثلاً باستبداد حاكم مطلق، محروس باتفاق عرفي، سرّي بين الحاكم المنتدِب وهذا الحاكم الوطني المنتدَب؛ حتى إذا طلع القرن العشرون واندلعت الحرب العالمية الأولى، أسفر النظامُ السياسي المتراخي، ككرش حكامه التابعين، عن تحول حاسم انهت خلاله سلطةُ الراعي الدولي سلطةَ نظام الخلافة الكلاسيكي، العائلي شبه الوراثي، والحزبيّ شبه الارستقراطي، وأحلّت بدله نظاماً نيو_ كلاسيكياً أباحت فيه حكمَ الشخصية العسكرية. ولا تزال هذه الشراكة قائمة مثل نغم شرقي ساحر، راقص تارة، حزين وكئيب تارة، الى حين انتباه "شارع الهرم" على انتفاضة عبد الناصر ضد فاروق، الخليفة الأخير على ساحل التعهدات الكلاسيكية. كانت ثورة يوليو ١٩٥٢ فاصلاً لاحقاً لمارسيليز شرقي بلحن من موسيقار النيو كلاسيك، محمد عبد الوهاب. فلما التحق "أحرار العراق" ثم "وحدويو سوريا" بلحن "الوطن الأكبر" كان العصر الثوري النيو- كلاسيكي قد بلغ أقصى الآمال القومية، المعقودة بأذيال عصر أوربي آفل، أراد مرة اخرى إعادة عزف اللحن الثوري العالمي بأوركسترا محمولة على بواخر محيطية عملاقة. صار المحيطان العربي والهندي وخلجانهما يموران بعواصف ربيعية متتالية كلحن البوليرو القادم من وطن المارسيليز.
يجتاز اللحن النيو_ كلاسيكي مضيق الألف الثالثة بدورة غير متراخية، تقترب من نهايتها. دورات لحنية انطلقت من ساحات التحرير في تونس ومصر، واجتاحت قطري الشمال الافريقي ليبيا والجزائر، وهي تلتف رويدا رويدا لتضيق حول مجرى النيل الأدنى، السودان؛ استكمالا لبوليرو السنوات العشرية الثانية من قرن حاملات الأوركسترا السمفونية، بصواريخها الذكية، وعازفيها الاستراتيجيين. كل هذا واللحن النيو_ الكلاسيكي المتباطئ يثير حوله نغمة مزدوجةَ الحنين لحكم العسكر ومتاريس الشارع بلا استقرار، متقدماً خطوة ومتأخراً خطوتين حسب قاعدة سياسية كلاسيكية غاربة.
لا أعرف لمَ اخترتُ لهذا المنشور لوحة "الأمل" الأيقونية، التي رسمها البريطاني جورج واتس في ١٨٨٦، وهي تصور فتاة معصوبة العينين تتربع على قمة الكرة الأرضية وتعزف على قيثار مكسور؛ ربما لأني أفكر بوطني _العراق، الذي اجتاحه اللحن الشمولي، فلم يترك في ذيله سوى نغمة خافتة، تتدحرج كورقة خريف ضالة على رصيف التحول السياسي النيو_ الكلاسيكي. أو ربما يتناسب هذا الاختيار مع اكتشاف علماء الجانب العاصف الآخر من عالمنا ثقب السماء الأسود الافتراضي.
ليست هناك تعليقات