Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

نصري حجاج... عن القاع

من ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية    في الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الرحلة بالسيارة من بيروت إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان ، أ...

من ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية

  

في الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الرحلة بالسيارة من بيروت إلى مخيم نهر البارد في شمال لبنان ، أو العكس، تستهلك سبع ساعات، بدلاً من ساعة على الطريق الساحلية التي سيطرت عليها مليشيا الكتائب. كانت رحلتنا تبدأ من مخيم نهر البارد نحو عكّار وجبال الهرمل، ونزولاً نحو الجنوب باتجاه بعلبك، ثم شرقاً نحو رياق، وغرباً باتجاه ظهر البيدر وعاليه وسوق الغرب وبشامون وعرمون، نزولاً إلى خلدة جنوبي بيروت، ثم إلى الفاكهاني، حيث مراكز منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد أربعة أشهر من المجزرة التي ارتكبتها القوات الخاصة السورية في قرية القاع في يونيو/حزيران 1978، كنت في رحلةٍ من نهر البارد إلى بيروت بسيارة فولكسفاغن، يرافقني شاب فلسطيني مسلح من نهر البارد. أوقفنا على حاجز التينة أو عين التينة القريب من مدخل القاع عناصر من الجيش اللبناني. كان الظلام قد ساد. طلب العريف هويتي، فناولته بطاقة عسكرية فلسطينية برتبة ملازم أول، فطلب أوراق السيارة فقدمتها له، وكانت السيارة تحمل رقماً يبدأ بـ 499، وهو رقم السيارات الرسمية لمنظمة التحرير بحسب إتفاقية القاهرة بين المنظمة والدولة اللبنانية عام 1969. تأكد الجندي من الأوراق ثم طلب مني النزول من السيارة فنزلت. وهنا قال لي: أريد أن أطلب منك طلباً. قلت له حاضر. فقال: لدي جنديان أتمنى أن تنقلهما معك إلى ثكنة الجيش في بعلبك سالمين، وهما أمانة في رقبتك. قلت: أعدك، سيصلان مهما كان الثمن.
جاء جنديان صغيران لم يبلغا العشرين من العمر ويبدو إنهما مجندان حديثاً وصعدا إلى المقاعد الخلفية في السيارة. وانطلقنا باتجاه بعلبك. وفي قرية اسمها النبي عثمان، فوجئنا بحاجز طيّار لمسلحين بملابس مدنية، يطلب منا التوقف، فتوقفنا. تقدّم أحد المسلحين من السيارة، وسأل عن هويتنا، فقلت له: مقاومة فلسطينية! سأل الجنديين عن اسميهما. فذكرا اسميهما: جوزيف عبدالله وسليمان عوض. هنا، طلب المسلح منهما بفظاظة النزول، فسألت بلهجة حازمة: إلى أين؟ فقال سنأخذهما! فقلت له لن تأخذ أحداً. ونزلت من السيارة، وسألت: من المسؤول عنكم هنا؟ فأتاني صوت من العتمة: أنا. فتقدّمت نحو الصوت لأجد مجموعة من المسلحين، فسألت: ما حكايتكم؟ فقال أحدهم: خطفت الكتائب أخي في زحلة واليوم وجدنا جثته في منطقة الحرش. ونريد أن نعتقل أي مسيحي ونقتله.
لم أجد، مع كثرة المسلحين وعدم معرفتي السابقة بطائفتي الجنديين ولا المسلحين في العتمة غير اللجوء إلى الحيلة. قلت لهم: نحن قادمون من نهر البارد مع الجنديين، لأن لدينا تنظيماً سرياً في الجيش، نجند عناصره وندربهم، وخصوصاً من المسيحيين، فإذا أخذتهما ستفتح معركةً مع المقاومة الفلسطينية. هل ترغب في ذلك ؟هنا، استسلم المسلح للأمر، وقال لنا: روحوا الله معكم. رجعت إلى السيارة لأجد الجنديين وقد قاربا الموت رعباً. انطلقنا إلى بعلبك، وأنزلتهما عند الثكنة، غير مصدقين أنهما نجيا من الموت، ومضيت ورفيقي إلى بيروت.
بعد عشرين عاماً، قرّرت، وأصدقائي محمد شمس الدين ومجدي العمري وسهام ناصر، بعد أن كنت قصصت عليهم الحكاية، الذهاب إلى القاع لنسأل عن مصير الجنديين. وصلنا إلى القاع، وقلنا نسأل خوري الكنيسة عنهما. استقبلنا الأب أليان راعي الكنيسة بترحاب. كنت أرتجف خشيةً من أين يكون الجنديان قتلا بعد تلك السنوات الطويلة التي مرت على الحادثة في معركةٍ ما بأيدٍ فلسطينية. وبصوتٍ متهدج وجدتني أسرد الحكاية للخوري، فقال أعرف سليمان عوض، وهو يعيش في بيروت مع زوجته وأولاده الخمسة، كبيرهم جندي في الجيش الآن، لكن أمه في القاع، فاتصل بها، وأخذ رقم هاتف سليمان، واتصل به، فذكّره بالحكاية، فقال: نعم يا أبونا. فقال الأب إن الرجل الفلسطيني هنا يسأل عنك. وهنا بدأ سليمان بالبكاء، وطلب مني أن أحضر فوراً إلى بيروت، وسألته عن رفيقه، فقال إنه قتل في حرب الجبل .
رجعنا إلى بيروت، والتقيت سليمان الذي كان ينتظرنا. وحين وقع بصره عليّ، هجم عليّ يقبلني ويبكي. ثم فجأة قال لي: كنت في خيالي عملاقاً، لكنك تبدو أقل حجماً من الصورة التي رأيتك فيها، يوم واجهت المسلحين وأنقذتنا من الموت. قلت له: ربما هو الخوف من الموت في تلك اللحظة ما جعلك تراني عملاقاً.

ليست هناك تعليقات