من يكون ك؟ وماذا يربط بورخيس ورولفو بكالفينو وموراكامي؟ ... هؤلاء أبناء كافكا... يجمعهم أسلوب متين ونظرة خيالية الى العالم الواقعي عاش...
من يكون ك؟ وماذا يربط بورخيس ورولفو بكالفينو وموراكامي؟ ... هؤلاء أبناء كافكا... يجمعهم أسلوب متين ونظرة خيالية الى العالم الواقعي
عاش كافكا حياة قصيرة. لم يُعطَ إلا 41 عاماً على هذه الأرض. لو لم يأكل السلّ رئته وزلعومه هل كان يكتب أكثر؟ قطع فرانز كافكا الحرب العالمية الأولى حياً. مات سنة 1924 في مصحٍ خارج فيينا. لم يتزوج. لم يترك سلالة. هل ترك سلالة؟
لم يبلغ كافكا الحرب العالمية الثانية. لو بلغها هل كان يقطعها حياً؟ أخواته انتهين في معتقلات إبادة. معظم الأصدقاء أيضاً. حافظ إرثه ماكس برود فرّ من الموت. برود محظوظ. غيره لم يكن محظوظاً. خنق السلّ كافكا. لم يخنقه الغاز. لو بلغ نهاية الحرب العالمية الثانية سليم البدن هل كان يكتب أكثر؟ انتهت الحرب العالمية الثانية بكابوس نووي. بعد ان تلاشت سحابة الفطر العملاق بان العالم فقيراً، أسود، مهدماً. توالت الأيام فبانت الشمس وسطع الهواء ورجع الربيع الأخضر. هذه حياتنا. الكارثة لا تدوم. كافكا فكر في هذه الأشياء وهو يطلب جرعة ماء ويعجز عن شربها. مات ولم يبلغ الشيخوخة. مات ولم يترك سلالة. هل ترك سلالة؟ ماذا أعطى كافكا هذا العالم؟
قراء كافكا ماذا يأخذون من كافكا؟ هل يعطيهم شيئاً؟ إذا أردت أن تعرف كافكا لا تذهب الى «المحكمة» ولا تذهب الى «القصر» ولا تذهب الى «أميركا». صحيح أنك تسمع عن هذه الروايات كلما سمعت عن كافكا، لكن هذه الروايات ليست كافكا. انها جزء منه، بلى، لكنها ليست كافكا. إذا أردت أن تقرأ كافكا عليك أن تبدأ من مكان آخر: اذهبْ الى يومياته، اذهبْ الى قصصه ونصوصه غير الطويلة. هذه بداية مباركة. بينما تقرأ كافكا تكتشف انك تعرفه من قبل. تعرفه ولا تعرفه. هل تعرفه؟ كافكا ترك سلالة تمتد وتمتد وتجاوز أيامنا. «مكتبة بابل» (قصة خورخيه لويس بورخيس) هل كانت توجد في هذا العالم لو لم يكتب كافكا؟ «نهاية العالم وبلاد العجائب» (رواية هاروكي موراكامي) هل كانت توجد في هذا العالم لو لم يكتب كافكا؟ «بيدرو بارامو»(رواية خوان رولفو) هل كانت توجد في هذا العالم لو لم يكتب كافكا؟ «حمامة» (رواية باتريك ساسكند) هل كانت توجد في هذا العالم لو لم يكتب كافكا؟ «جرذ» (رواية أندريه زانيوسكي) هل كانت توجد في هذا العالم لو لم يكتب كافكا؟ «حياة مايكل ك. وأزمنته» (رواية ج. م. كويتزي) هل كانت توجد في عالمنا بلا كافكا؟ ماركيز قال انه بدأ يكتب عندما قرأ كافكا. قرأ كافكا فاكتشف ان هذه هي الكتابة إذاً. وبدأ يكتب. ماركيز يصدُق ولا يصدق. في مرة أخرى يبدأ من قراءة رولفو. لا مانع أن يبدأ من «يوميات سنة الطاعون» لدانيال ديفو. هؤلاء الثلاثة من أصدقائه. هل يكون ابناً لهم؟ هل يولد كويتزي من ضلع روبنسون كروزو؟ كيف يكون بورخيس ابناً لكافكا؟ الارجنتيني الأعمى شارب المتّة مات عن 87 عاماً. مات عجوزاً. خلال حياته ذاع صيت روايات أميركا اللاتينية. كان يسمع – بعد أن كفّت عيناه عن القراءة – كان يسمع دائماً ان رواية أميركا اللاتينية خرجت من معطفه. لم يبقَ في أميركا اللاتينية كاتب إلا واعترف بدين بورخيس. مات بورخيس سنة 1986. قبل موته بسنوات قليلة كتب «ذاكرة شكسبير». ليس سهلاً أن تكتب «ذاكرة شكسبير» وقد جاوزت الثمانين. ليس سهلاً. التركيز يضعف بمرور الأعوام. والمخيلة تضعف. لكن «ذاكرة شكسبير» لا ترضخ لقوانين الشيخوخة.
قراءة بورخيس تكشف الترابط بين نصوص الشرق والغرب. تكشف علاقات عميقة بين ما كُتب وما يُكتب وما سيُكتب. عالم الأدب لا يقبل حدوداً. هل يقبل حديث الآباء والأبناء؟ رولفو ليس ابناً لكافكا. كافكا ليس ابناً لتولستوي. ماركيز ليس ابناً لبورخيس. أفضل ان نتكلم عن صداقة. بدلاً من القول «هؤلاء أبناء كافكا» أفضل ان نقول «هؤلاء أصدقاء الرجل»، أصدقاء الشاب المسلول الذي كان كافكا. كان؟ ما زال كافكا بيننا. نقرأه ونراه. اسحاق سنجر قال لفيليب روث ان القدرة الربانية التي أعطتنا كافكا قد تكون أعطتنا عند مطلع القرن العشرين 16 كافكا ولم نسمع إلا بواحد منهم. من دون ماكس برود هل كان يضيع أدب كافكا؟
كيف يحضر كافكا في الأدب المعاصر؟ رواية موراكامي المترجمة أخيراً الى الفرنسية وقبل ذلك الى الانكليزية «كافكا على الشاطئ» تستعيد كافكا ولا تستعيده. على عكس ما تكتبه الصحافة الغربية هذه الأيام فإن موراكامي لا يتألق كعادته في «كافكا على الشاطئ». بات موراكامي اسماً مكرساً. التكريس يمنع الدقة، يأخذنا الى الخطأ. كتب موراكامي في الثمانينات بعض أفضل رواياته واشدها تأثيراً في النفس. «نهاية العالم وبلاد العجائب» (1985) تخطف القارئ. هل تبدأ هذه الرواية من كافكا؟ هل تستعيده؟ وما علاقة كافكا بها؟
كيف نحدد علاقة «مكتبة بابل» – أو «حمامة» أو «جرذ» أو «في انتظار البرابرة» – بأدب كافكا؟ ماذا يجمع هذه الأعمال؟ الأسلوب المتين؟ هذا لا يكفي. القدرة على تحويل الخيالي الى واقعي؟ هذا أيضاً لا يكفي. ما السر الذي يجمع هذه الأعمال؟ ما الذي يجعل هؤلاء أصدقاء: كافكا وبورخيس ورولفو وكالفينو وماركيز وساسكند وكويتزي و...؟ ماذا يجمع هؤلاء؟ يستطيع القارئ ان يضيف اسماء أخرى الى اللائحة. هوميروس مثلاً. شكسبير أيضاً. هذه الاضافة الأخيرة هل تكشف السر؟
انتبه هاملت قبل قرون ان العالم مصنوع من مادة المنامات. اكتشف ان الحد الفاصل بين الواقع والخيال هو حد خيالي. ألم يملأ هذا الاحساس صدر تولستوي وهو يكتب «آنا كارِننا»؟ كيف يكتب روائي إذا لم يملأ قلبه هذا الإحساس؟
هوميروس أنشد «الإلياذة» كحرب واقعية. ألّف النشيد زاعماً أنه ينشد تاريخاً. الإغريقي الأعمى داهية. يكتب الخيالي ويقول هذا هو التاريخ. أليس حصار طروادة تاريخاً؟ وحصان طروادة؟ هذا الأخير – حصان طروادة – غير مذكور في «الإلياذة». تعج الإلياذة بالأحصنة. لكن «حصان طروادة» لا يُذكر فيها. في «الأوذيسة» يُذكر. في «الإلياذة» لا. هل «الإلياذة» تاريخ واقعي لحرب واقعية جرت على حافة البر التركي؟ هل آخيل رجل من لحم ودم وعظم؟ تعاقبت الأعوام والقرون، العظام حالت غباراً، والمدن تساقطت. ما الحقيقي وما الخيالي؟ هل هوميروس حقيقي؟
فتح كافكا في مطلع القرن العشرين باباً. هل نستطيع أن نحدد في أي لحظة بالضبط فتح هذا الباب؟ هل فتح هذا الباب وهو يخط السطر الأول في روايته القصيرة «التحول»؟ ماركيز قال ان هذه الرواية غيّرت حياته الى الأبد. يتكلم ماركيز أحياناً مثل شخصية روائية. هذا أُعطي له. هل فتح كافكا باباً وهو يكتب «التحول»؟ من قبل «التحول» نراه يفتح الأبواب ويوصدها، يفتح الأبواب ويوصدها، يفتحها ويوصدها، هذا دأبه كافكا، فتح الأبواب. حتى وهو نائم يرى باباً يُفتح ويرى مسدساً يدخل من الباب. ما هذه المنامات؟ لم يرَ ابريق ماء مملوءاً أسناناً مكسرة. الإبريق نصفه مملوء بالماء. الماء أغبر اللون، معتكر. وفي الماء ترقد أسنان بشرية. عدد ضخم من الأسنان. ليست أسنان شخص واحد. أسنان على أسنان على أسنان. ما هذه الأسنان؟ من جمعها في هذا الإبريق؟ قبل لحظة كانت عجوز تشرب من هذا الإبريق. كيف شربت منه؟ لم يرَ كافكا هذا المنام. رأى آلة تعذيب. رأى جرحاً في خاصرة رجل يتفتح كزهرة. رأى طبيباً يقطع الأرياف على حصان. رأى سوراً يبنى في الصين. ورأى الهمج يسيطرون على بلدة. هؤلاء «برابرة» كويتزي؟ من قصة كافكا القصيرة «مخطوط قديم» تبدأ «في انتظار البرابرة». لا تبدأ من قصيدة كفافي. تبدأ من كافكا. هل يعرف كويتزي هذا؟ لعله يعرف. ولعله لا يعرف.
فتح كافكا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى باباً. فتح باباً ورأى سهولاً تمتد الى ما لا نهاية ورأى سكة الحديد ورأى محطة كلدا. هل توجد هذه المحطة حقاً في سهوب روسيا؟ ماذا يُغير ذلك! انها موجودة في عالم كافكا. لم يكمل كافكا نصه. نعثر على محطة كلدا في يومياته. محطة كلدا حقيقية أكثر من سهوب روسيا التي تغطي الأطلس. تفتح الأطلس وتنظر الى الخرائط. لا تعثر على كلدا. تغمض عينيك. ها هي كلدا.
فتح كافكا باباً ونظر. عيناه كبيرتان كافكا. وجهه طفولي وعيناه كبيرتان. نظر الى العالم فرآه كما لم يره إلا قلة. رآه شبيهاً بالمنامات. ستيفنسون فعل ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الجامعة بن داود فعل ذلك في عصور توراتية سحيقة.
جاء كافكا في مطلع القرن العشرين وكتب سرداً غريباً. كتب عوالم خيالية بأسلوب متين. كتب عوالم خيالية توازي هذا العالم. كتب هذا العالم كما يراه. كتب الخيالي كأنه يكتب خبراً في جريدة. بعبارة صلبة يصف عملية إعدام غريبة. كأنه يخبرك ماذا أكل هذا الصباح. الوجه لا يضحك ولا يبكي. العينان تنظران الى البعيد. والرؤى تتوالى. «بيدرو بارامو» قد تكون بدأت من قصة «الصياد غراتشوس».
رأى كافكا العالم على طريقته. هذا لم يُعط لكثرٍ. كتب في يومياته أنه لا يكتب إلا عن الموت. بورخيس قال انه لا يكتب إلا عن الوقت. أفضل ألا يتكلم الأدباء عن أدبهم. إذا تكلموا أساؤوا الى الأدب. كلامهم لا يهم. المهم الأدب. أفضل ما عندك تكتبه، تكتبه ولا تقوله. اليوميات كلام أيضاً. على حافة الأدب هي، وليست أدباً. هل يُحولها الوقت أدباً؟ كيمياء الأدب غريبة. تتحول الأشياء وأنت تكتبها. تولستوي قال الإلهام لا يأتي إلا بينما تكتب. هذا يشبه «سفر أيوب» والشعر الخارج من الحمى. النار تحرق العظم، الجرثومة تقضم لحم الرئة، والرجل يكتب. يرى نملاً يخرج من لحم فخذه. ينظر الى النمل على فخذه ويحصي النملات. من أين تخرج هذه النمال كلها؟ من نقطة فوق الركبة، من بطن عضلة الفخذ تخرج. البشرة بيضاء تميل الى البنّي، لا، البشرة هنا بيضاء تماماً. هذه مساحة لا تتعرض لنور الشمس إلا فترة الصيف. الآن لونها أبيض. النمل أسود، أسود وأشقر، يسعى على صفحة الفخذ، يتراكض النمل، يتراصف، أسرع فأسرع فأسرع، يخرج النمل متدفقاً من فخذ الرجل، من وكرٍ في اللحم ذاته. الرجل ينظر الى النمل. فقط ينظر. في ما بعد سيكتب عن هذا.
ربيع جابر / الحياة - 07/03/06//
ليست هناك تعليقات