نصري حجاج تحيرني وتزعزع ثقتي بقوة إدراكي المعنى, تلك النظرة المتوسلة رجاءً، كأنها نظرة متعبد مكلل بأحزان الدنيا، في صلاة أمام باب الس...
نصري حجاج
تحيرني وتزعزع ثقتي بقوة إدراكي المعنى, تلك النظرة المتوسلة رجاءً، كأنها نظرة متعبد مكلل بأحزان الدنيا، في صلاة أمام باب السماء المفتوح لدعائه. نظرة مضيئة بالأسئلة الغامضة التي لا ندرك منها شيئاً، لأن مفرداتها تبدو كأنها لا تنتمي إلى عالمنا، نحن الأحياء. نظرة أشخاص سيموتون بعد وقت، ويريدونك أن تعرف أنهم سيموتون، لكنك لا تفقه شيئاً، لأن نظرتهم تكون قد سبقتهم إلى الموت، ولا تكتشف سرّها، إلا بعد أن يأخذهم الموت، فتصفع ذاكرتك لتقول: كأنه كان يقول لي أنه سيموت!
رأيت هذه النظرة في عينَي أخي نزار، قبل ساعات من مقتله برصاص الجيش السوري في يونيو/حزيران 1976، ورأيتها في عينَي الشاعر معين بسيسو، قبل أسبوع من وفاته وحيداً في فندق في لندن عام 1984، ورأيتها في عينَي صديقي الكاتب والصحافي اللبناني عبد الأمير عبدالله، في اللقاء الأخير بيننا، قبل أيام من موته متأثراً بمرضه في بيروت في ربيع 1995.
تمرّ أربعة وعشرون عاماً هذه الأيام على رحيل عبد الأمير، الجنوبي من بلدة بنت جبيل الحدودية الذي امتلك بيروت لأكثر من ثلاثة عقود بسحره وسخريته. لم يكن عمله في الصحافة المكتوبة في مؤسسة "الكفاح العربي"، ولا قصائده القليلة التي كان ينشرها في مناسبات نادرة، أو يحلو له قراءتها في سهراته مع الأصدقاء، ولا وظيفته الحكومية في التدريس، ما جعله شخصية معروفة صاخبة الحضور في الحيز الثقافي في بيروت الغربية، ولا انتماؤه لأي حزب يساريّ، أو طائفي، فهو لم ينتم، وكان مكانه المفضل الهامشَ، حتى صار الهامش مملكته التي رغب كثيرون في الانتماء إليها في حياته، وإلى اليوم، هامش السخرية من كل شيء، ومن كل الناس، وخصوصاً المثقفين، فخافه كثيرون، وأرعبتهم سخريته اللاذعة الذكية، ولا تكون السخرية لاذعة وذكية إذا افتقدت القدرة على فهم الآخرين موضع السخرية، وعرفت مثالبهم، ونقاط ضعفهم التي يحاولون جاهدين تغليفها، بالثقافة أو بالسياسة أو بالقوة الممنوحة من موقع سلطوي في حزب أو دولة. وكان عبد الأمير عارفاً وقادراً.
حين غادر عبد الأمير عبدالله بلدته الجنوبية إلى بيروت، كانت الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها بالولادة تشكل، في غالبيتها، ما اصطلح على تسميته حزام البؤس حول بيروت، أي مناطق النبعة والدكوانة وتل الزعتر والكرنتينا والضاحية الجنوبية. ولم تكن الطائفة ذات بأس وقوة وجبروت سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كما هي اليوم، وكان الشيعة الطائفة الأقل حظاً، والأكثر مظلومية وقهراً، ولم يكن مثقفو الطائفة جزءاً من المشهد الثقافي العام، حتى إن شعراءها حشروا في تسمية شعراء الجنوب، كما كان شعراء فلسطين محشورين في تسمية شعراء المقاومة.
دخل عبد الأمير عبدالله إلى بيروت، مثل ساحر عبقري، يحمل منديلاً أبيض ناصعاً، مثلته لهجته الجنوبية الساطعة الأصيلة، فرمى منديله حول المدينة، وأخفاها في طياته الساخرة، ثم رماه على العمارات والشوارع والحانات وسحر بيروت حتى صارت ملك يديه وقهقهاته الصاخبة. ولم يكن لسخرية عبد الأمير مشروع، لا سياسي ولا ثقافي. جاء إلى مدينة قاهرة لريفها وفلاحيها وطبقاتها وطوائفها الفقيرة، وأراد أن يعاقبها عقاب المحب لحبيبته. لم يكن في نيته الانتقام الفلاحيّ البدائي من المدينة التي توحي بأنها توصد أبوابها أمام الطارئين الجدد، ولم يشأ أن يحني قامته الفارعة أمام زيف العناصر المكونة لروح المدن الشريرة.
عاش عبد الأمير تحولات التمثيل السياسي للشيعة، من إقطاع قديم تهتّكَ وتلف بتطورات الحرب الأهلية اللبنانية إلى بروز حركة أمل، وحزب الله لاحقاً، لكنه ظل بعيداً عن كل هذه التشكيلات، وسخر منها جميعاً، كما كان يسخر من المقاومة الفلسطينية، بجميع فصائلها، عندما كانت الفصائل الفلسطينية متمركزة في ما سميت جمهورية الفاكهاني.
تحيرني وتزعزع ثقتي بقوة إدراكي المعنى, تلك النظرة المتوسلة رجاءً، كأنها نظرة متعبد مكلل بأحزان الدنيا، في صلاة أمام باب السماء المفتوح لدعائه. نظرة مضيئة بالأسئلة الغامضة التي لا ندرك منها شيئاً، لأن مفرداتها تبدو كأنها لا تنتمي إلى عالمنا، نحن الأحياء. نظرة أشخاص سيموتون بعد وقت، ويريدونك أن تعرف أنهم سيموتون، لكنك لا تفقه شيئاً، لأن نظرتهم تكون قد سبقتهم إلى الموت، ولا تكتشف سرّها، إلا بعد أن يأخذهم الموت، فتصفع ذاكرتك لتقول: كأنه كان يقول لي أنه سيموت!
رأيت هذه النظرة في عينَي أخي نزار، قبل ساعات من مقتله برصاص الجيش السوري في يونيو/حزيران 1976، ورأيتها في عينَي الشاعر معين بسيسو، قبل أسبوع من وفاته وحيداً في فندق في لندن عام 1984، ورأيتها في عينَي صديقي الكاتب والصحافي اللبناني عبد الأمير عبدالله، في اللقاء الأخير بيننا، قبل أيام من موته متأثراً بمرضه في بيروت في ربيع 1995.
تمرّ أربعة وعشرون عاماً هذه الأيام على رحيل عبد الأمير، الجنوبي من بلدة بنت جبيل الحدودية الذي امتلك بيروت لأكثر من ثلاثة عقود بسحره وسخريته. لم يكن عمله في الصحافة المكتوبة في مؤسسة "الكفاح العربي"، ولا قصائده القليلة التي كان ينشرها في مناسبات نادرة، أو يحلو له قراءتها في سهراته مع الأصدقاء، ولا وظيفته الحكومية في التدريس، ما جعله شخصية معروفة صاخبة الحضور في الحيز الثقافي في بيروت الغربية، ولا انتماؤه لأي حزب يساريّ، أو طائفي، فهو لم ينتم، وكان مكانه المفضل الهامشَ، حتى صار الهامش مملكته التي رغب كثيرون في الانتماء إليها في حياته، وإلى اليوم، هامش السخرية من كل شيء، ومن كل الناس، وخصوصاً المثقفين، فخافه كثيرون، وأرعبتهم سخريته اللاذعة الذكية، ولا تكون السخرية لاذعة وذكية إذا افتقدت القدرة على فهم الآخرين موضع السخرية، وعرفت مثالبهم، ونقاط ضعفهم التي يحاولون جاهدين تغليفها، بالثقافة أو بالسياسة أو بالقوة الممنوحة من موقع سلطوي في حزب أو دولة. وكان عبد الأمير عارفاً وقادراً.
حين غادر عبد الأمير عبدالله بلدته الجنوبية إلى بيروت، كانت الطائفة الشيعية التي ينتمي إليها بالولادة تشكل، في غالبيتها، ما اصطلح على تسميته حزام البؤس حول بيروت، أي مناطق النبعة والدكوانة وتل الزعتر والكرنتينا والضاحية الجنوبية. ولم تكن الطائفة ذات بأس وقوة وجبروت سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، كما هي اليوم، وكان الشيعة الطائفة الأقل حظاً، والأكثر مظلومية وقهراً، ولم يكن مثقفو الطائفة جزءاً من المشهد الثقافي العام، حتى إن شعراءها حشروا في تسمية شعراء الجنوب، كما كان شعراء فلسطين محشورين في تسمية شعراء المقاومة.
دخل عبد الأمير عبدالله إلى بيروت، مثل ساحر عبقري، يحمل منديلاً أبيض ناصعاً، مثلته لهجته الجنوبية الساطعة الأصيلة، فرمى منديله حول المدينة، وأخفاها في طياته الساخرة، ثم رماه على العمارات والشوارع والحانات وسحر بيروت حتى صارت ملك يديه وقهقهاته الصاخبة. ولم يكن لسخرية عبد الأمير مشروع، لا سياسي ولا ثقافي. جاء إلى مدينة قاهرة لريفها وفلاحيها وطبقاتها وطوائفها الفقيرة، وأراد أن يعاقبها عقاب المحب لحبيبته. لم يكن في نيته الانتقام الفلاحيّ البدائي من المدينة التي توحي بأنها توصد أبوابها أمام الطارئين الجدد، ولم يشأ أن يحني قامته الفارعة أمام زيف العناصر المكونة لروح المدن الشريرة.
عاش عبد الأمير تحولات التمثيل السياسي للشيعة، من إقطاع قديم تهتّكَ وتلف بتطورات الحرب الأهلية اللبنانية إلى بروز حركة أمل، وحزب الله لاحقاً، لكنه ظل بعيداً عن كل هذه التشكيلات، وسخر منها جميعاً، كما كان يسخر من المقاومة الفلسطينية، بجميع فصائلها، عندما كانت الفصائل الفلسطينية متمركزة في ما سميت جمهورية الفاكهاني.
ليست هناك تعليقات