----------------------------------------- قليلة ٌ جداً هي المشاهدُ التي احتفظَتْ بها ذاكرتي، من طفولتي الأولى. بدت كما لو كانت ومضاتٍ خ...
-----------------------------------------
قليلة ٌ جداً هي المشاهدُ التي احتفظَتْ بها ذاكرتي، من طفولتي الأولى. بدت كما لو كانت ومضاتٍ خافتة، وإن تكن واضحة، في آنٍ، شبيهة ً بما رأى فيه أبو حامد الغزالي نوراً قذفه الله في الصدر، علماً بأني لم أتفق يوماً مع فيلسوفنا الكبير على مصدر ذلك النور.
هذه الرؤية، لا شكَّ في أن ما حدث في الخامس من آذار/مارس 1953، إنما يندرج فيها. كنتُ طفلاً، آنذاك، بالتأكيد، ولكنني استقبلتُ ما رنَّ بشدة، على ما يبدو، في ذلك اليوم البعيد، في أذني، بصورةٍ لا مجال لمَحْوِها، على أنه حدثٌ لا يمكن نسيانه، على الرغم من أني لم أكن لأدرك، من حيث معارفي المتكونة، واهتماماتي الفعلية، في تلك الفترة، ما ينطوي عليه من أهمية. كان ما سمعته، آنئذ، أقوى من مجرد خبر بكثير، في الواقع، وأشد تأثيراً من الأساطير.
كان قد أرسلني الأهل، على الأرجح، لأجلب حاجة ً ما من دكانة طربيه طربيه، في أول بلدة ت.ت.، لجهة الغرب، حين انتبهتُ، فجأة ً، وقد أوشكتُ أن أصل، إلى أن بوسطة جورج بديعة، وكان يسكن، بالمناسبة، مع زوجته، في المبنى نفسه الموجود فيه الدكان، مزودة بمذياع. مذياع لم أكن قد عرفت به، من قبل، ولا خطر ببالي أن العقل البشري قد ينتج مثله. وأهم من الآلة كان ما نقَلَتْه إلى سمعي وأسماع الآخرين.
بدا صوتُ المذياع عالياً نسبياً، كما لو لأجل الارتفاع إلى مدى جسامة الخبر، الذي كان ينقله إلى البشرية جمعاء، ألا وهو خبر وفاة ستالين! وهو الخبر الذي شكَّل مدخلاً لما سيصبح بين اهتماماتي الأساسية ، باستمرار، منذ ذلك التاريخ، على الرغم من بعد تنورين التحتا، آنذاك، عن العالم الخارجي، ت.ت.، التي كان يشرف والدي، كمتعهدٍ للأشغال العامة، على شق الطريق إليها، ومنها إلى وادي تنورين. وهو السبب الحقيقي لواقع إقامتنا فيها، في تلك الأيام المغرقة في القدم، على مدى سنواتٍ أربع، قبل انتقالنا، إثرئذٍ، إلى بلدة دوما المجاورة.
فبعد سماعي ذاك الخبر، بثلاث سنوات، تقريباً، وكنت لا أزال طفلاً أيضاً، تلقيت أخبار الثورة المجرية، فبدت لي كما لو كانت تؤرخ لطورٍ جديدٍ، بالكامل، ولا سيما أن جريدة النهار نشرت آنئذٍ ملفاً مصوراً، مكثفاً، عما جرى خلالها من أحداث خطيرة. جريدة النهار، بالضبط، التي كان والدي مشتركاً فيها، بحيث تصله، مراراً، في الأسبوع الواحد.
ذلك الملف، المصاحب لأحد أعداد الجريدة المنوه بها، قرأتُه بكامله، بنهَمٍ لا مزيد عليه، واحتفظ به والدي، لاحقاً، في حقيبته الحديدية الثقيلة، التي كانت تضمّ أشياء بدا كما لو كانت، بالنسبة إليه، أثمن ما لديه. وهو ما تأكدتُ منه، حين فتحتُها، بعد وفاته، ذات يومٍ من أوائل تموز/ يوليو، 1963. وبين أهم ما أذكره بصدد محتوياتها، الأمور الآتية:
- ثلاثة مجلدات سنوية ضخمة، أو أكثر، من مجلة "الهلال" المصرية، يعود صدورها إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، وتسعينياته؛ ورواية هنري بوردو، بأصلها الفرنسي، بعنوان Yamilé sous les cèdres ، أو "جميلة في ظلال الأرز"، بطبعتها الاولى، العائدة إلى أوائل عشرينيات القرن العشرين.
- هذا فضلاً عن أكثر من دفترٍ خطَّ عليه أبي قصائد له، إما ناجزة، أو ناقصة، بحيث لا تظهر منها غير أبياتها الاولى؛ وذلك بخط جميل جداً كان يتميز به.
- وفضلاً أيضاً عن كتابين متناقضين لأبعد الحدود، أحدهما يصدر عن جهة لم أعد أذكرها، ويورد مزاعم عن جرائم ينسبها إلى الشيوعيين، قبل ثورة أكتوبر الروسية، وبعدها، مع رسوم وصور كاريكاتورية يحاول أن يعزز بها المزاعم الواردة فيه. أما الكتاب النقيض فَ"البيان الشيوعي"، في طبعة قديمة جداً، ربما تعود إلى ثلاثينيات القرن السابق. وكان، بالضبط، الكتاب الذي جعلتني قراءته أعتبر نفسي بتُّ أفهم أهم ما كان يثير حيرتي، وحتى اضطرابي، بخصوص حقائق هذا العالم، مذ تفتحت عيناي على مظالم الحياة.
- ثم أخيراً، وليس آخراً، كانت هناك مجموعة من الرسائل، لعل الأهم بينها تلك الواردة، إلى والدي، من كلٍّ من ميشال حجار وبطرس سابا.
وبخصوص الأولى، لا بد من نبذة ولو مقتضبة عن الصورة الخاطفة للأستاذ الزحلاوي، الذي أبعدته وزارة التربية الوطنية، عن مسقط رأسه، حيث كان يعلّم، إلى تلك القرية في آخر العالم، آنئذ، تنورين التحتا، لأسبابٍ عائدة إلى أفكاره ونشاطاته النقابية والسياسية، الأقرب إلى اليسار. وكان ذلك في السنة الأولى لمجيئنا إلى هناك.
ثمة تولدت صداقة عميقة، بين الأستاذ المغضوب عليه، ووالدي، فكانا يلتقيان كثيراً، ولا سيما في أيام العطل. ولا تزال لدينا إلى الآن صورٌ مشتركة للرجلين، بينها واحدة وضع فيها أبي يده اليمنى على كتف صديقه. لم يجد ميشال الحجار، في ت.ت.، من يقترب لتطلعاته وأفكاره، آنذاك، غيره.
أما بطرس سابا فكان زوج خالتي، مارشي بومرعب حرب، وقد غادرا تنورين الفوقا، الغارقة في الجبال والثلج والشمس، والفاقة، في أواخر عشرينيات القرن الماضي، إلى غوادالاخارا، في المكسيك.
في غوادالاخارا، تأسْبَنَ اسمُ زوج خالتي، فصار بدرو. وكانت رسائله إلى أبي، المكتوبة في معظمها، بالعامية، تحمل اسمه بالعربية، وفي الوقت عينه بالإسبانية: Pedro Saba. وكانت إحدى هذه الرسائل تحمل تاريخاً عائداً إلى صيف العام 1940. وأنا أذكرها، تحديداً، لأنها كانت تختلف بعمق عن سابقاتها، سواء من حيث الشكل، إذ وردت كلها بلغةٍ فصحى جزلة، ومتينة، أو من حيث المضمون، الذي شدَّني يوم قرأتها، في صيف 1963، بصورةٍ لافتة. فلقد تجاوزتِ المجاملات الصداقية المعروفة، والأسئلة والأجوبة عن الصحة، والأصدقاء، والأقارب، إلى مقطعٍ طويل، نسبياً، وصف فيه بدرو سابا موكباً جنائزياً مشى فيه، في شوارع مكسيكو، بالذات، ذات يوم من شهر آب/أغسطس، من ذلك العام. وأذكر من ذلك المقطع شذرةً نقلتُها على الفور إلى مفكرتي (اعتمدتُ التدوين اليومي لأشياء من حياتي الخاصة، جرياً على عادة والدي، الذي ما زلت أحتفظ له بمفكرات عديدة، دوَّن فيها منوعاتٍ تتعلق بعمله، كما بحياة عائلته، يعود بعضها إلى أواخر الثلاثينيات - أوائل الأربعينيات، والأخيرة بينها إلى سنة وفاته). والشذرة تلك هي التالية:
"كان هناك حشدٌ عظيمٌ من الناس، في جنازة زعيمٍ شيوعيٍّ روسيٍّ كبير نفاه، قبل سنوات عدة، حاكمُ روسيا المطلق، يوسف ستالين، إلى تركيا المجاورة، فوصل به التجوال، هرباً من غدر رفيقه السابق، إلى المكسيك. وهو ما لم يحُلْ، في الأخير، دون أن يتمكن واحدٌ من دواسيس(يقصد جواسيس) ستالين، من قتله شرَّ قتلة، في عقر داره.
وأنا إن كنت أنسى فلن أنسى، يا قيصر، أن عديدين في تلك الجنازة الحزينة، في شوارع مكسيكو، كانوا ينتحبون، وبينهم رجالٌ ونساء من السكان الأصليين راحوا يعبرون عن ألمهم، بطريقتهم الخاصة. وأظنك ستصدقني، إذا قلت لك إني، أنا أيضاً، لم أتمالك نفسي، في تلك اللحظات، عن البكاء".
ولكن تلك الحقيبة الحديدية، التي ترك فيها أبي جزءاً بالغ الأهمية من خصوصياته، سوف تختفي، مثلها مثل غيرها من موجودات بيتنا، في فرن الشباك، الذي اضطررنا لتركه، مع ما فيه، في بداية الحرب الأهلية، في سبعينيات القرن الماضي. وذلك مع الكثير من المرارة، لأن تاريخاً بكامله من حياتي وحياة أهلي، مضى مع تلك الأشياء، الملأى بالروح. وكل ما بقي منه مرتهنٌ بذاكرةٍ لن تعتِّمَ أن تشرع بالاضمحلال، في القادم من الأيام.
في شتى الأحوال، سوف أتذكر تلك الرسالة، مرة واحدة، تقريباً، في العقود الأخيرة، حين عرَّبْتُ ثلاثية اسحق دويتشر عن تروتسكي، في أوائل ثمانينيات القرن الآفل، ومن ضمنها ذلك المقطع، في "النبي المنبوذ"، عن اغتيال تروتسكي، والموكب المهيب الذي مشى فيه بدرو سابا، في بلد بانشو فيلا، وإميليانو زاباتا، والرئيس التقدمي، لازارو كارديناس. كارديناس، الذي منح قائد ثورة أكتوبر الميداني، ملجأ، في بلده البعيد، بعد أن أصبح هذا الأخير طريداً لكامل العالم القديم!
وأنا سأنقل، أدناه، أسطراً، ولو قليلة، من وصف دويتشر للمشهد نفسه الذي سبق أن وصفه بدرو:
" في 22 آب/أغسطس، ووفقاً للعادة في المكسيك، سار موكبٌ جنائزيٌّ مهيب، من عشرات الألوف، على امتداد 12 كلم، وصولاً إلى البانتيون، وذلك وراء النعش الذي كان يحمل جثمان تروتسكي، عبر شوارع العاصمة الرئيسية، كما في الضواحي العمالية، حيث كانت جماهير صامتة، حافية ورثة الثياب، متجمعة على الأرصفة."
وكتب الرفيق جوزف هانسن، أحد القياديين الأساسيين، في حزب العمال الاشتراكي الأميركي، آنذاك، عن الأيام التي سبقت يوم الدفن: " كان حراسُ شرَفٍ، من عمالٍ مكسيكيين، ومعاونين لتروتسكي، يبقون 24 ساعة في اليوم، قرب النعش. وقد قُدِّر عدد الأشخاص الذين مروا أمامه بثلاثمئة ألف كان معظمهم من البائسين، الذين يسحقهم العمل. والكثير منهم كانوا ممزقي الثياب وحفاة، وكانوا يمرون بصمت، مطأطئي الرؤوس".
لقد غابت عن بالي رسالة بدرو سابا، منذ العام 1983، حين أنجزتُ تعريب "النبي المنبوذ"، ودفَعَتْ به المؤسسةُ العربيةُ للدراسات والنشر إلى المطبعة، بعد أن صَحَّحْتُه، مراراً. حتى أني عندما تعرفت إلى الرفيق المكسيكي، خلبرتو كوندي، والتقيته، تكراراً، في لبنان، كما في أمستردام، حيث اضطلع، مع صديق كندي من أصل لبناني، بالترجمة الفورية – خلال سمنارٍ ضغَطْنا، في الفرع اللبناني للأممية الرابعة آنذاك، لانعقاده، حول القضية الفلسطينية، بهدف استصدار نصٍّ حاسم، ملزمٍ لكل فروعها، حول استعادة شعار تفكيك الدولة الصهيونية، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية ثورية مكانها – حين تعرفت إليه، أقول، لم أحدثه عن رسالة بدرو سابا، على الإطلاق. اكتفيتُ فقط بالقول له، مازحاً، إن خالتي مارشي، وعائلتها، مكسيكيتان مثله، ومنذ ما قبل ولادته بعشرات السنين. وأضفتُ أنها جددَتْ، في الخامسة والسبعين من العمر، زواجَها من شريكها، بدرو، وبعثت لأمي بصورةٍ لهما، متعانقين، بثيابٍ ناصعة البياض.
غير أن تلك الرسالة عادت لتطلقَ أضواء ساطعة، في خيالي، الذي توهج، فجأة، حين لحق بي، في أوائل آذار/مارس الحالي، رفيقٌ آخر له ملامح الشعوب الأصلية الجنوبية، إلى الغرفة التي تسلمتُ مفتاحاً لها، في مركز الأممية في أمستردام، في اليوم الأول للقاء اللجنة العالمية السنوي، هناك. جاء لينقل حقيبته إلى غرفة ثانية، لسببٍ أو لآخر. وقد بادرني بالسؤال عن البلد الذي جئت منه، فأجبْتُه، ثم ألحقتُ جوابي بسؤالي له، هو أيضاً، عن بلده.
ذلك التوهُج حدث، بغتة ً، حين أجاب بأنه قادمٌ من نيو مكسيكو. رأيتُ تلك الجموع المقهورة، التي سارت في جنازة تروتسكي، قبل تسعةٍ وسبعين من الأعوام، والموكب يتقدم ببطءٍ، في شوارع العاصمة، مكسيكو. وعدتُ بذاكرتي إلى ذلك الوصف الحزين الذي دبَّجه قلمُ بدرو سابا، في الشهر عينه الذي اغتال فيه رامون ميركادير الرفيق ليون دافيدوفيتش، بأوامر من يوسف فيساريونوفيتش ستالين. وإن تكن تلك الرسالة لم تصل ليد والدي إلا حين عاد، صدفة ً، إلى أعالي تنورين، واحدٌ من مهاجريها، على إحدى بواخر ذلك الزمان البطيئة، التي لم تصل إلى مرفأ بيروت إلا فجر عيد الميلاد. ولقد أخفق ذلك المهاجر الخائب في بلوغ بلدته، قبل اليوم الأخير من تلك السنة.
وهو ما أوضحه والدي، في ملاحظةٍ سريعةٍ كتبها على الغلاف يقول فيها إن الرسالة بلغته، بعد قداس رأس السنة من العام 1941!، وسلَّمَه إياها راغب بو مرعب، العائد للتو من المهجر، بعد أن "قتله" (والتعبير لوالدي) الشعورُ بالغربة، وغدر الزمان.
لم أقلْ شيئاً عن كل ذلك للرفيق هكتور، الذي سارع للاختفاء، مع حقيبته، وإن أكن رأيته، بعد ذلك يتكلم، مراراً، من على منبر اللجنة العالمية، إبان نقاش الهجمة اليمينية الراهنة، في أميركا اللاتينية، ولا سيما في فنزويلا، ونيكاراغوا، والبرازيل!
ولكنني عدتُ للتفكير، كثيراً، في بدرو سابا، الذي كان يمكن أن أعثر بين سطور رسالته الكاملة – فيما لو سلِمَتْ حقيبة والدي الحديدية من سطو قوى الأمر الواقع، الذي استهدف منزلنا، في فرن الشباك، ذات يوم من شتاء العام 1976 – على ما ربما كان ساعد في اكتشاف ما إذا هو يتكلم، كمراقبٍ من الخارج، أو على العكس، كواحدٍ من أفراد المعارضة اليسارية، الذين شكلوا الفرع المحلي للأممية - وكان انعقد مؤتمرها التأسيسي، قبل أقل من عامين -، وهم بالضبط من اضطلعوا بالدور الأهم في تنظيم ذلك الموكب المهيب، عبر شوارع العاصمة المكسيكية.
ليست هناك تعليقات