عودة الحياة كانت عنيفة، غزيرة وبشتّى التّعابير. الأمر أشبه بمجابهة ناجحة بين جسدين: من جهة، جسد بوتفليقة، الثّابت والمجسّد لجيل لا يُر...
عودة الحياة كانت عنيفة، غزيرة وبشتّى التّعابير. الأمر أشبه بمجابهة ناجحة بين جسدين: من جهة، جسد بوتفليقة، الثّابت والمجسّد لجيل لا يُريد أن يموت، لجيل رافض للانتقال ولتسليم المشعل لأبنائه؛ في الجهة المقابلة، جسد المتظاهر: سعيد، ضاحك، يُغنّي، مؤنّث، مذكّر. وأنا أمشي في ذلك اليوم برفقة مئات الآلاف من الوهارنة، كانت هذه أول فكرة تراودني: عودة الجسد. لمدة عشرين سنة كان الجسد الجزائري حزينا، يعيشه صاحبه بصعوبة، كان ضيّقا، مُراقَبا ومنسحقا. إمكانية التعبير الوحيدة التي كان يحظى بها كانت أثناء سجوده وهو يصلي أو من خلال كرة القدم. بمجرد أن يستقل الزورق (أو البوطي) متوجها إلى إسبانيا، في تدفق لا نهاية له لهجرة سرية، الحرڤة، يطلق الجزائريون العنان لحناجرهم بالغناء، بالضحك والتنكيت.
الجمعة، الفاتح مارس، راودتني فكرة أخرى: من الآن فصاعدا، البوطي هو الشارع. يترنح، يغني، ينفجر ضاحكا وتصرخ ألوانه. وأخيرًا فعلها مئات الآلاف من الجزائريين ومشوا في شوارع بلدهم لاستعادتها.
تم الإعلان عن التجمع في “بلاص دارم”، غير بعيد عن مقر بلدية وهران الجميل جدا. زرقة السماء فسيحة وضوئها ساطع، جوّ متوسطي سماوي. الجمعة هو يوم راحة. كل هذا كان شيئا إيجابيا لكنه سلبي في آن واحد. قلت بيني وبين نفسي بأن «الناس» لن يأتوا. كنت هناك برفقة صديق، جالسين وننتظر. السّاعة تشير إلى تمام الواحدة زوالا. يملأ المكان صوت أئمة المساجد وأكتشف لاحقا بأن العديد من المصّلين قد غادروا أمكنة العبادة بمجرد أن انخرط الأئمة في خطبتهم – التي أملاها عليهم النظام الحاكم – والتي تتحدث عن وجوب طاعة ولي الأمر. شكّل الأمر رفضا صارخا خاصة إذا ما أدركنا الثقل الذي تمثله صلاة الجمعة ومكانة الإمام في الجزائر.
كنا حوالي عشرة أشخاص. أعلام الجزائر مطوية، جماعات متفرقة في تأهّب. إذا لم يأت الناس اليوم بالآلاف فالنصر سيكون حليف النظام. هذا الأخير يعرف كيف ينتصر ويقينه ذو أمد بعيد: فقد تغلب دمويا على انتفاضة القبائل، تغلب بحرب قذرة على الإسلامويين، وتغلب بالفساد، بالرعب وبكسب الوقت في زمن بوتفليقة. هذه هي فلسفته، هذه هي عقيدته: توقيف الزمن. العودة به إلى نقطة الصّفر المصادفة لحرب التحرير الوطنية والعيش، هكذا، في شلل زمني يتغنى به على أنه انتصار أبدي. كانت هنالك حرب التحرير الوطنية، كانت هنالك الحرب الأهلية، ومن يومها لا يجب لشيء أن يكون.
لسنا حيال “كرونوس” (في الميثولوجيا الإغريقية هو إله رئيسي يجسد الزمن والقدر -المترجم) يأكل أولاده بل نحن أمام “كرونوس” تلتهمه الأبدية. تسيّير الوقت والحركة هما الفيزياء النيوتينية للنظام العاصمي: لا شيء سيحدث باستثناء حرب التحرير. لا شيء يجب أن يتحرّك. في الجزائر، الوصول إلى الأماكن العمومية خاضع إلى قواعد تعسفية. يلزمك ترخيص لكل شيء ويندر الحصول على هذا الترخيص. يكفي أن تبقى جالسا لوقت طويل في مكان ما، لترسم أو لتقرأ أو برفقة أصدقاء حتى يتقدم إليك شرطي ما. وبعد الجلطة الدماغية التي تعرض لها بوتفليقة سنة 2013 ازدادت بشكل رهيب هذه الرغبة في الجمود. من حينها، وجب على البلد أن يتشبه به: غير مرئي، جامد، أخرس.
أماكن خارجية للتحرك؟ نعم: البحر للحراڤة، المسجد للمؤمنين والأنترنت. خاصة الأنترنت. فهي ملجأ الأجيال الشابة. إنها البوطي الآخر. وهنا أيضا (في الأنترنت) تعرضوا إلى متابعات من طرف النظام؛ ففي العشرية الأخيرة كثيرون ذاقوا عذاب السجن والأحكام المغلّظة والسبب صورة كاريكاتورية لبوتفليقة، أو رسم أو لافتة أو بسبب شعار. يتميّز هذا النظام بالمكر، هو لا يهاجم الأشخاص المعروفين عالميا، الكتّاب، رسّامو الكاريكاتور أو المناضلين في الأحزاب. لا، هو يصنع الفراغ حولهم، يعزلهم، ثم ينقض ككلب مسعور على الشباب القيادي الذي هو بصدد الانبثاق. قتلُ الأبناء عملية آلية. من أجل نزع الثقة عن أكثرهم شهرة، لا شيء أفضل من الإرهاب الإعلامي: فقد قام باستعمال قنوات تزعم بأنها خاصة ليعطي صورة الخائن، الفرنكوفيلي، الملحد، الإسلاموفوبي، “الذي يعيش في باريس”. لا يجب أن يكون هنالك تواصل بين الجزائريين، بين ساكنة الحواضر وأهل القرى، بين النخبة والطبقات الاجتماعية. هو نظام يحرص عليه تابعون يقظون.
الجثة (Cadavre) والإطار (Cadre)
بقينا جالسين ننتظر مستظلين تحت الأشجار. شيئا فشيئا تحوّل المارّة إلى فضوليين. الفضوليون أصبحوا جماعات والجماعات غدت حشدا كبيرا. تمام الساعة الثانية زوالا حدث انفجار صامت غريب، ذو نشوة. شيء ما تشكّل، هنا، تحت السماء وبين الأشجار. خاطب شاب الحشد قائلا: “لا تكّسروا شيئا. سيتخذّون من الأمر مطيّة لينهبوا أملنا. لو حدث وأن سقطت قطرة دم واحدة فسيفعلون ما فعلوه سنوات التسعينات.” تذكير بالحرب الأهلية. منذ أيام، يشن النظام حملة حول هذا الموضوع مستعينا بأصوات أباراتشيكييه (هو عضو مهم في الحزب الشيوعي): إما نحن أو سوريا. لا أعرف هذا الشاب. ينتمي إلى جيل الفايسبوك، هذا الجيل الرافض “للجثة” و”للإطار”. بهاذين الوصفين يكنّون بوتفليقة. خطاب المنهجية التي ستُتبع طويل لكنه فعّال: أملى علينا التعليمات. ثم فجأة وقع التمرد والطوفان.
توافدت المجموعات من كل صوب وحدب، أعلام عملاقة، شعارات. وكان بينها أقدم هذه الشعارات، هذا الذي تحوّل اليوم إلى لغز بالنسبة لغير الجزائريين: “وان، تو، ثري، فيفا لالجيري!” ولد في الملاعب في السنوات الأولى من الاستقلال. بحسب الكبار، هذا الشعار هو تحوير إيجابي لمقطع:
«!We want to be free. Viva l’Algérie»
هي أغنية قصيرة. هي أمارة. وقفت الشرطة مغلقة عتبة أدراج دار البلدية، لكن الحشد لا نية له بالدخول إليها. الواقفون في الصّف الأول متلاحمون مع خوذات شرطة مكافحة الشغب. دون غضب. دون ضغينة. يريدون أن يقولوا لقوات النظام بأنهم أيضا أبناء هذا الشعب. يريدون عزل هذه الطبقة عن النظام. “جيش، شعب، خاوة خاوة”، هكذا غنّى الموكب فاستعاد المكان برمته واسترجع الثقة بنفسه. انضمت النسوة وأطلقن الزغاريد، كذلك فعل الشباب. في لحظة غدونا نفرا كبيرا.
وجدتُني في هذا الحشد، شبه تائه، وسط هذه الولادة الجديدة. بعد ساعة، كانوا بعشرات ثم بمئات الآلاف. التحقت العائلات بالمتظاهرين، اندمج الشيّاب، الفتيات والأطفال. لم يسبق لي رؤية هذا المنظر الخلاب. قالوا عنه بأنه أسطورة من احتفالات الاستقلال، قالوا عنه أيضا بأنه استحالة “ثقافية”.
منذ سنوات، فرض جسد بوتفليقة صبغته على أجساد الجزائريين، لقد فرض تقطب جبينه الآيل للزوال واحتضاره الأزلي. لا شيء يتحرّك وأولئك الذين تحركوا كان مآلهم السجن ودمّروا. آلة آل بوتفليقة هي آية في المكر والبؤس: بسط رقابته على عالم الأعمال بواسطة زبائنه هو، وزبائن عائلته. السلب عن طريق التهديد، النِسب الخرافية من الأسواق الكبرى، الفساد الفظيع. زبائنه من الجيش خرّوا سجدا لواحد من رجالاته، قائد الأركان. اختار (بوتفليقة) هذا الأخير يوم كان منبوذا من طرف زملائه فعيّنه على رأسهم وتركه يلتهمهم الواحد تلوى الآخر. أما “المخابرات” الجزائرية المعروفة عالميا بمناوراتها وبقدراتها فقد وجد أصحابها أنفسهم أمام قضايا تتهمهم بارتكاب جرائم حرب قبل أن يتم إضعافهم بخبث وتفكيكهم لاحقا.
سيتم بعدها تعويض هذه المخابرات بغرفة سوداء أخرى تصنع القرار، ستعوّض بقوة خفية اسمها السعيد بوتفليقة، شقيق عبد العزيز. مجلس الشعب والبرلمان؟ يحكمهما بوتفليقة وفق قاعدة بسيطة: يعيّن فيهما الأكثر فسادا. فيصبحون أوفياء ملزمين لا مقتنعين وليس احتراما ليمين أدوها. شملت هذه الموجة الغامرة من التسفيل (Encanaillement) كل شيء ولم ينج أحد من بطش المتلاعب الأكبر ومن رقابة أخيه.
عادة ما يتساءل الأجانب: “لكن من أين لهم كل هذه القوة إن لم تكن مستمدة من الجيش؟” الأمر متعلق بشبكة خبيثة ومُتقَنة جدا: يستمدون قوتهم من هذا الفساد المعمم والذي يحبك عقده زمرة أوليغارشية ذوو سلطان وتهندسه أيضا ميزانية عسكرية تعد من بين الأكبر في إفريقيا. المال. وكان لبوتفليقة الكثير منه طيلة العشرين سنة التي حكمها.
الثورة ولعبة اللغز الرمزي (Rébus)
أنا أمشي إذن أنا موجود. أن تمشي في الجزائر، وسط الحشد، ذلك يعني أنك تنتفض ولست في نزهة. وها أنا أفكر. تحضرني الأشياء كمقتطفات. الصورة الأولى لبوتفليقة التي أُنتزعت. حدث ذلك في شرق البلاد، في خنشلة، منذ ثلاثة أسابيع. تبدو الواقعة اليوم بعيدة، لكن يومها، في هذا اليوم بالتحديد، كانت القشعريرة. لم نصدق أعيننا. انتظرنا حينها قمعا عنيفا إلا أن السلطة ترددت لأن رئيسها/الجثة كان في طائرته متوجها إلى سويسرا. كان شيئا محتوما بالنسبة له. بوتفليقة عبارة عن صورة معلّقة، مجرد صورة منذ سنوات وها هي هذه الصورة تُنتزع. قتلت الصورة (Photocide). من يومها، حدثت كل الأشياء، كل شيء ممكن. بما في ذلك هذه الزغاريد التي تطلقها النسوة من الشرفات وسط المدينة. كنا ننتظر تمرد الجزائر العاصمة لكنها ثكنة. وجاء التمرد من داخل البلد، من القرى، من المدن والمدائن التي كان يظن النظام بأنه قد اصطفها إلى جنب أسطورته.
يصرخ الحشد: “جيش، شعب، خاوة خاوة”. الإبداعية التي تتسم بها الشعارات هي تهكم بلغة الخشب للحزب الواحد. الثورة هي لعبة اللغز الرمزي التي تفرض على اللغة فوضاها ونظامها الجديد. أقوى الأغاني وأكثرها “وطنية” تُعتبر أيضا لغزا بالنسبة للأجانب: “ماكانش الخامسة يا بوتفليقة، جيبوا البياري زيدوا الصاعقة”. وهذه شروحات للعابرين من باقي العالم: BRI، هي فرقة البحث والتدخل. أما الصاعقة فيُقصد بها وحدات النخبة لهذه الشرطة. الغريب في هذا الحشد أنه يتحدى ويصرخ ولكن دون غضب. بل يفعل ذلك فيما يشبه الفخر، هذا الأخير سرعان ما يتحوّل إلى قشعريرة تسري في كامل جسدك كمياه متدفقة، كتيار. وما زلنا نمشي. وجهتنا مقر الولاية. بلغناها في هدوء. في الجزائر العاصمة وفي غيرها من المدن، تتبعت الحشود نفس المسار. تعمد النظام إبطاء سرعة الأنترنت قبل أن يقطعها، لكننا كنا على علم مسبق بذلك. “كنا عميانا ومشتتين إلى أن بعث الله آخر رسله: غوغل، الأنترنت، فايسبوك”، قال الجزائريون في تهكم. يصوّر الناس بعضهم، تُتداول الصور، ليجد الجزائريون لأنفسهم مكانة في سيرورة التاريخ ووثبوا على سرديته. غريبة بحق وخلابة هذه الأيدي التي تحمل، في نفس الوقت، الشعارات والهواتف الذكية، الكاميرا واليافطة. تتملكنا رغبة في الحديث، في الصراخ، في الحكي. لطالما أختُصر تاريخ الجزائر في السيرة الذاتية للنظام، في تلفزيونه الرسمي، في أجندته، في أسمائه. نهبه فاق المعقول. الهواتف الذكية شاهدة على القرن، هي ذاكرة الجميع، هي التّاريخ المحمي من نار الديكتاتوريات ومن سطوة الموجز. نصنع التاريخ بفضل الكِتاب ولكن نصنعه خاصة عن طريق الهاتف النقال. هو أداة لتفادي النسيان وليس فقط للتخاطب. انتقل الهاتف من الصوتي إلى المرئي، متجاوزا المكتوب.
“جمهورية ماشي مملكة”، “الشعب لا يريد، لا بوتفليقة، لا السعيد”. السعيد هو الرّب الآخر للنظام، هو العين التي يبصر بها، ويمكن تشبيهه ببيريا (Beria: 1899-1953، أحد الوجوه البارزة إبان الحكم السوفييتي – المترجم). تُنسب إليه القرارات، الإمضاءات عوضا عن المحتضر الأبدي، الخطابات والتعيينات. كيف أمكن لهذا الرجل، هذا النقابي والأستاذ الجامعي السابق، بأن يتغيّر تماما ويصبح تجسيدا لقوة تضاهي في رهبتها قوة المخابرات؟ إنها، مرة أخرى، أموال السوق. المكر. الضغينة. ما مصدرها؟
تروي الأسطورة الجزائرية الموثوقة تلك اللحظة التي، وبسبب فقدان الأخ الأكبر عبد العزيز لمكانته، وجدت عائلة بوتفليقة نفسها في الشارع ليس لها إلا أفرشتها وأوانيها، بعدما انتزعت منهم فيلتهم ورمي بهم سنوات الثمانينات. إنها الأعراض المحلية لمرض عائلة الأسد السورية. حين استبد بوتفليقة بالحكم، لم ينس تلك الإهانة. أذاق منها غيره وقرّر بأن لا يتخلى أبدا عن سدة الحكم وبأن يعدّ مستقبل ذويه: المال، العقود، الأسواق، الفساد. كلّ شيء ملائم للغل وللأمان. هي الأعراض العلويّة لآل بوتفليقة. يوم مرض الأخ الأكبر، وقف بجنبه أخوه، آلت إليه الوكالة وأنشأ هذه الملكيّة الجزائرية الشرسة. لم يراود بوتفليقة يوما حلم أن يكون بومدين، ولي نعمته سنوات السبعينات. لا، بل إعجابه كان لشخص آخر: الملك الحسن الثاني. لطالما أراد بوتفليقة أن يكون الحسن الثاني. وكان له ذلك.
“سلمية، سلمية”. كلمات تطلقها الحشود في كلّ البلد في كلّ مرّة تتجاوز حاجز شرطة أو تبدو في الأفق علامات مواجهة بين الطرفين. المسيرات سلمية. لعقود طويلة والجزائريون يعرفون مناهج ديكتاتورية الجزائر العاصمة. في كل مرة تكون فيها مظاهرة، تُطلق الدولة ميليشياتها لتقوم بعمليات الكسر والتهديم. يعود الخوف ليصبح سيد الموقف فينكسر حينها الحراك، يتشرد ويُجرّم. فيحل الأمن محل الرغبة في الحرية. تتحكم الدولة في أسلوب المساومة هذا. بمجرد أن يكسر أحدهم زجاجا ما، تسارع الدولة إلى إظهار هذه الصور فتتذرع بالنظام لتشرّع حالة الطوارئ وتمدّد مرة أخرى من حكمها الأزلي. منذ أيام والمتظاهرون يضاعفون نداءات الحيطة والحذر. شنوا حملات مستميتة على النت، تعاليمها: لا يجب الاحتكاك بالشرطة أو السقوط في فخ استفزازاتها أو سبّ عناصرها. كان انتصارا عظيما. ففي الفاتح مارس تعلّم الجزائريون بأنه لا يجب عليهم خاصة الخوف من أنفسهم. لم يعد الجزائري هذا الوحشي غير القادر على أن يكون مسالما كما ترسمه نظرية الوصاية الحاكمة. كانت من أجمل الخواتيم وقد بدا ذلك على سحنات المتظاهرين، كانوا فخورين جدا.
سراويل الجينز الممزقة والسيلفي
“يا أويحي، الجزائر ماشي سوريا”. هكذا أجاب الحشد أبغض وزير أول في تاريخ الجزائر. أحمد أويحي. صرخت الجماهير: “خاين، مبيوع”. “طحّان”، هذه الكلمة في اللغة الجزائرية هي من بين الأكثر سبّا وشتيمة. لماذا هو بالذات أكثر من غيره؟ منذ ثلاثين سنة وهو في أروقة الحكم، بين منصبه كرئيس حكومة أو كوزير أول. دافع عن كل خطابات ديكتاتورية الجزائر العاصمة، قال وجسّد كل شيء: الخضوع، انعدام الإيتيقا، الجسارة، الاحتقار، الخداع. في تدخله الأخير، كان مهددا: “في سوريا بدأت بالورود وخلاصت بالدم”. صرخت الحشود مجيبة إياه: “بدأت بالورد وتخلاص بالورد”، وأهدوا باقات من الورد لأفراد الشّرطة. شكلت الظاهرة السورية الورقة الرابحة التي اعتمد عليها النظام طيلة السنوات الأخيرة. من أجل الوقوف في وجه الانتفاضات التي وقعت في الدول الأخرى المسماة “عربية”، لجأ النظام إلى المال (فصرف مليارات الدولارات دون أدنى رقابة ووزعها على الشباب)، لجأ إلى عزل المعارضين وإلى لعبة الوقت بدل الضائع من خلال وعود “بالحوار الوطني“ وبالإصلاحات. أكمل بعدها المهمة ما حصل من خراب في ليبيا وسوريا: أدنى حركة للجسد يتم تأويلها على أنها زعزعة للاستقرار، سرينة (Syrianisation). والجزء الأخير من المهمة تصدت له نظرية المؤامرة والبروباغندا المناهضة لفرنسا. إلى غاية يوم 22 فيفري.
ثم إن هذا التناذر قد ألقى بثقله على الخوف في الغرب أكثر من تأثيره على الأنفس الجزائرية. وهو السؤال الثاني الذي يُطرح عليّ في كل حوار أجريه مع وسائل الإعلام الأجنبية. بعد “ماذا يحدث في الجزائر؟”، يليه: “هل أنت خائف من أن تؤول الأمور إلى ما آلت عليه في مصر؟”. وبكل أمانة أجيب: نعم. لكنني أقدم شروحات أيضا. لقد سبق وأن عاشت الجزائر في التسعينات ما يحصل في مصر حاليا. انتفاضة، استحواذ الإسلاموية على الثورة وانتهاءً بنيل الغنيمة من طرف العسكر. إننا نعيش خطر تكرار نفس الأمر في الجزائر. لكن هناك أيضا إمكانية الاستفادة من هذه التجربة واستعمال هذا الحرص من أجل رفض سرقة هذه الوثبة الشعبية وتفادي نزع ملكيتها من الشعب بأسلوب بائس. منذ 1990، وقعت انهيارات كارثية في مقدورها أن تتحوّل إلى دروس نتعلم منها. في الأسابيع الأخيرة، لم نسمع للإسلامويين حسيسا – وهم حلفاء مع النظام –. عادة ما يستعملهم النظام كآلة لإعادة الشعوب نحو “الأمن” لكنهم اليوم فقدوا هذا الدور ولا يُستغلون في شيء مهمّ. لكنهم متربصون. في مقدورهم الصّعود على ظهورنا كما يمكن أن يفشلوا في فعل ذلك.
وأنا أمشي، أغني قليلا. ينتابني في نفس الآن شعور بغبطة غامرة، تجتاحني موجات من السّعادة لا تحتمل إلى حدّ ما؛ لكنني أشعر أيضا بأنني متهم، جبان: هذا الجيل الذي أمام ناظري قام بشيء لم يقم به لا أنا ولا الجيل الذي أنتمي إليه. إنه جيل الفايسبوك الذي توفرت له الأنترنت في حين أن جيلي لم يكن يملك ولا أداة تواصل أو تنظيم، ربما. ربما أيضا كانت من بين الأسباب الشك واليأس اللذان تحولا بعدها إلى مرادفين للبصيرة. إلا أن الواقع أمامنا: من فعلها هو هذا الجيل المنتقل من إنستغرام إلى مثبتّ الشعر، من سراويل الجينز الممزقة إلى صور السيلفي.
إنها قوة ديموغرافية ورفض قاطع للتضحية بهم كأطفال وشباب، تضحية خضع لها جيلي. بوتفليقة جثة عنيدة ومطوَّقة يمثل جيلا لا يريد أن يموت. هؤلاء المحيطين بي، هؤلاء الماشين والمغنين وهم يضحكون، هم أولئك الذين يريدون أن يولدوا. يدّعي بوتفليقة وأهله بأنهم هم من حرّر البلد ومن يومها يتمسكون به كملكية خاصة. يرفضون نقله، يرفضون الموت، يأبون النهاية وهاهم يتحللون في المرض وفي السمعة المشوّهة. شاءت غرابة الأقدار أن يعيش احتضاره اليوم هناك في سويسرا – البلد الذي شهد بداية اتفاقيات إيفيان –، يحتضر وهو يصرخ بلا صوت بأنه وأهله لا يريدون أن يموتوا. أسبوع بعد صرخة الملايين من الجزائريين، عاد آل بوتفليقة، حاشيتهم بمعية قائد الأركان، بعض مستضعفيهم كوزير الداخلية، رئيس المجلس الدستوري والوزير الأول، عادوا ليتفاوضوا من أجل سنة أخرى في الحكم. في الرسالة التي وجهها الديوان الرئاسي، يقولون فيها بأن الجثة المطوّقة تطلب أن يتم إعادة انتخابها من أجل أن تُنظم… انتخابات أخرى في فترة وجيزة. الأمر شتيمة، مثار للسّخرية ودليل على هذا الاحتضار النتن لجيل بأكمله. باستثناء مانديلا، فكل المساهمين في القضاء على الاستعمار حلموا بالخلود وخلطوا بين هذا الأخير وبين تحلل الجثة البطيء.
ردّت عليهم الشوارع، هنا في الجزائر، بجسد أشّر، محتفل، يستعرض، يغني. بشعارات ويافطات فيها الكثير من المرح: “بني وي-وي يڤولولكم لا، لا”، إلخ. أما الغرب فلم ير هذه الولادة الجديدة للجسد الجزائري في مقابل جثة بوتفليقة. تُفضّل أحداث الساعة تلك الصور التي تعبّر عن نفسها: تلك التي تُظهر، من جهة، خوذات الشرطة، ومن جهة أخرى، متظاهرين شعثٌ غُبر، وبينهما دخان القنابل المُسيلة للدموع. لكن لم يكن كذلك الحال في الجزائر العاصمة ولا في غيرها. ما حدث كان حفلة بهيجة تمخّضت عنها صوّر يعجز اللسان التعبير عنها بسبب ما أسميته في إحدى مقالاتي “العودة المرعبة للجمال”. ستون عاما ونحن نعيش في أمس مستمر. اليوم، آنت إمكانية الغد.
ليست هناك تعليقات