شاكر الأنباري* محاكمة الديكتاتور، وحزبه، وأتباعهما من المثقفين الرخيصين، وعبر حوار طويل، متشعب، حاد، بين موقفين مشتبكين في صراع أزلي، ه...
شاكر الأنباري*
محاكمة الديكتاتور، وحزبه، وأتباعهما من المثقفين الرخيصين، وعبر حوار طويل، متشعب، حاد، بين موقفين مشتبكين في صراع أزلي، هو مضمون رواية ابراهيم أحمد متاهة الأذكياء. وتستغرق حواراتها، وأحداثها، ومشاهدها، ليلة واحدة فقط. تجري في شقة صغيرة وسط مدينة بودابست عاصمة هنغاريا في زمن الاشتراكية.
وكان الحضور في تلك الليلة الكئيبة شاعرين يقفان على ضفتين مغايرتين، هما ماجد الرضواني وبديع، وفتاة هنغارية تنطق بلسان محايد، حكيم، عقلاني، اسمها كلاري، تتقن العربية وتعمل مترجمة في السفارة. ماجد الرضواني شاعر متهم بلعق حذاء الحاكم وتمجيده بفجاجة، وتشهد عليه قصائده، وجاء يحمل رسالة مضللة تروج لعودة المعارضين إلى حضن النظام، أمضى عمره في خدمة السلطة، ودبج قصائده في مديح القاتل ولقب بشاعر الرئيس. رفع التقارير، ووشى بأصدقائه المثقفين، وسوغ دماء الحروب ومآسي الشعب، غائبا في ملذاته، وحياته الرخية، وشهرته المصطنعة من قبل صحف النظام ومؤسساته. مثقف باع نفسه للشيطان.
وشاعر آخر هو بديع، أمضى حياته معارضا لسلطة بلده، يمتلك فكرا يساريا، وعاش الكفاف والفاقة والتشرد، وكان محكوما بالإعدام ثم نجا بأعجوبة، حيث خرج من سور الوطن ليقضي عشرين سنة في الغربة معارضا للنظام السياسي وزعيمه الديكتاتور المريض بالعظمة. لا يملك من تجربته الحياتية المرة سوى ضميره الحي، وقصائده الممجدة للإنسان، الباحثة عن نور الخير والجمال والحنين إلى بلد حوله الحاكم إلى زنزانة مظلمة، واستدعى لاحقا جيوش الغزاة الذين قلبوا البلد بعدها إلى مقبرة.
كانت الرواية مسرحا لصراع بين ثقافتين، ثقافة تسويغ القتل، والقوة، والمال، وعبادة الفرد، والخنوع للذكر الوحيد في ربوع الوطن، وثقافة التمرد، والحنين، والجمال، والحلم ببناء مجتمع بقيم انسانية، يتناغم مع قيم الحاضرات والمدن العريقة، وحقوق البشر في عيش كريم مسالم.
مونولوج طويل بين نمطين، معارض ومؤيد، يستدعي تفاصيل قديمة لعلاقة السلطة بالمثقف، وأحداث عقود مريرة، بدهاليزها السياسية، والفكرية، والثقافية، بحروبها ومنزلقاتها وكوارثها.
ويمتلك ابراهيم أحمد، مؤلف رواية متاهة الأذكياء، رؤية عميقة لكل ما سبق، كونه عاصر الأحداث والدهاليز تلك منذ الستينيات وحتى لحظة كتابة الرواية، سواء منها الثقافية أو السياسية، وما كان يدور في أروقة الداخل أو تلافيف المعارضة في الخارج. وهو بهذه الرواية، مزودا بتلك التجربة، يمضي إلى طريق تصفية الحساب مع الماضي، مع إمعات الفكر والثقافة والفن ومهرجيها، بعد اكتسابه رؤية ناضجة توصل إليها نتيجة المعايشة القاسية، والعيانية، متخذا من شاعره المعارض بديع النافذة الحرة للحكم على ذلك التاريخ الثقيل الذي عاشه بلده طوال أكثر من أربعين سنة، وعاشته المنطقة عموما.
كان يصف شاعر الرئيس بالمرحاض، ويصدق القول في ذلك على ثقافة رافقت حقبة الديكتاتورية، فزينت قبحها، وطبلت لها طوال عقود. وصفها ضمن مسرد الحوارات بثقافة المراحيض، أي ثقافة الانحيازات الطائفية المقيتة، والقومية المتعصبة، والولاءات العشائرية الضيقة، والتبعية، وافتقاد الكرامة الشخصية والموهبة، واللهاث وراء المناصب والامتيازات. وقد بدأت تسود، ثم دفعت مناوئيها إلى المنافي والسجون والصمت، بل وانتهت ببلدانها إلى المحرقة الماثلة اليوم تحت أنظارنا.
وقد باءت كل التسويات بين الثقافتين، ثقافة الجمال وثقافة القبح، إلى الفشل، فلا مساومة بين النبل والانحطاط، الابداع والجعجعة الفارغة، الواقع والشعارات. لا مساومة بين العلمانية الطائفية المبتذلة والوطنية المحلقة نحو المستقبل. وكان لا بد لإحداهما من الهزيمة، وهذا ما لمسه القارئ في ثمالة المبارات الدموية بين الشاعرين، حيث مضى شاعر الديكتاتور في آخر الليل مهزوما، مهدما، محبطا، فارغا من أي تأنيب ضمير أو مراجعة لتاريخ انحطاطه ذاك.
تلاشى شاعر الرئيس، مثقف السلطة، وقواد ثقافته، يجر خيبته في الشوارع الكئيبة، والوحدة المتجهة به سريعا نحو مزابل التاريخ، ولعناته. إن حكم الواقع، والتاريخ المنسوج بالحكمة، والتجربة، يجزم بهزيمة ثقافة المراحيض تلك في النهاية. حتى وإن بدت، لأول وهلة، مرتدية ثوب الغلبة والانتصار، والثقة بالنفس.
الجمال هو من سيربح الرهان، كما جاء في مدونات البشر قرنا بعد قرن. لكن لا أحد يتعظ.
محاكمة الديكتاتور، وحزبه، وأتباعهما من المثقفين الرخيصين، وعبر حوار طويل، متشعب، حاد، بين موقفين مشتبكين في صراع أزلي، هو مضمون رواية ابراهيم أحمد متاهة الأذكياء. وتستغرق حواراتها، وأحداثها، ومشاهدها، ليلة واحدة فقط. تجري في شقة صغيرة وسط مدينة بودابست عاصمة هنغاريا في زمن الاشتراكية.
وكان الحضور في تلك الليلة الكئيبة شاعرين يقفان على ضفتين مغايرتين، هما ماجد الرضواني وبديع، وفتاة هنغارية تنطق بلسان محايد، حكيم، عقلاني، اسمها كلاري، تتقن العربية وتعمل مترجمة في السفارة. ماجد الرضواني شاعر متهم بلعق حذاء الحاكم وتمجيده بفجاجة، وتشهد عليه قصائده، وجاء يحمل رسالة مضللة تروج لعودة المعارضين إلى حضن النظام، أمضى عمره في خدمة السلطة، ودبج قصائده في مديح القاتل ولقب بشاعر الرئيس. رفع التقارير، ووشى بأصدقائه المثقفين، وسوغ دماء الحروب ومآسي الشعب، غائبا في ملذاته، وحياته الرخية، وشهرته المصطنعة من قبل صحف النظام ومؤسساته. مثقف باع نفسه للشيطان.
وشاعر آخر هو بديع، أمضى حياته معارضا لسلطة بلده، يمتلك فكرا يساريا، وعاش الكفاف والفاقة والتشرد، وكان محكوما بالإعدام ثم نجا بأعجوبة، حيث خرج من سور الوطن ليقضي عشرين سنة في الغربة معارضا للنظام السياسي وزعيمه الديكتاتور المريض بالعظمة. لا يملك من تجربته الحياتية المرة سوى ضميره الحي، وقصائده الممجدة للإنسان، الباحثة عن نور الخير والجمال والحنين إلى بلد حوله الحاكم إلى زنزانة مظلمة، واستدعى لاحقا جيوش الغزاة الذين قلبوا البلد بعدها إلى مقبرة.
كانت الرواية مسرحا لصراع بين ثقافتين، ثقافة تسويغ القتل، والقوة، والمال، وعبادة الفرد، والخنوع للذكر الوحيد في ربوع الوطن، وثقافة التمرد، والحنين، والجمال، والحلم ببناء مجتمع بقيم انسانية، يتناغم مع قيم الحاضرات والمدن العريقة، وحقوق البشر في عيش كريم مسالم.
مونولوج طويل بين نمطين، معارض ومؤيد، يستدعي تفاصيل قديمة لعلاقة السلطة بالمثقف، وأحداث عقود مريرة، بدهاليزها السياسية، والفكرية، والثقافية، بحروبها ومنزلقاتها وكوارثها.
ويمتلك ابراهيم أحمد، مؤلف رواية متاهة الأذكياء، رؤية عميقة لكل ما سبق، كونه عاصر الأحداث والدهاليز تلك منذ الستينيات وحتى لحظة كتابة الرواية، سواء منها الثقافية أو السياسية، وما كان يدور في أروقة الداخل أو تلافيف المعارضة في الخارج. وهو بهذه الرواية، مزودا بتلك التجربة، يمضي إلى طريق تصفية الحساب مع الماضي، مع إمعات الفكر والثقافة والفن ومهرجيها، بعد اكتسابه رؤية ناضجة توصل إليها نتيجة المعايشة القاسية، والعيانية، متخذا من شاعره المعارض بديع النافذة الحرة للحكم على ذلك التاريخ الثقيل الذي عاشه بلده طوال أكثر من أربعين سنة، وعاشته المنطقة عموما.
كان يصف شاعر الرئيس بالمرحاض، ويصدق القول في ذلك على ثقافة رافقت حقبة الديكتاتورية، فزينت قبحها، وطبلت لها طوال عقود. وصفها ضمن مسرد الحوارات بثقافة المراحيض، أي ثقافة الانحيازات الطائفية المقيتة، والقومية المتعصبة، والولاءات العشائرية الضيقة، والتبعية، وافتقاد الكرامة الشخصية والموهبة، واللهاث وراء المناصب والامتيازات. وقد بدأت تسود، ثم دفعت مناوئيها إلى المنافي والسجون والصمت، بل وانتهت ببلدانها إلى المحرقة الماثلة اليوم تحت أنظارنا.
وقد باءت كل التسويات بين الثقافتين، ثقافة الجمال وثقافة القبح، إلى الفشل، فلا مساومة بين النبل والانحطاط، الابداع والجعجعة الفارغة، الواقع والشعارات. لا مساومة بين العلمانية الطائفية المبتذلة والوطنية المحلقة نحو المستقبل. وكان لا بد لإحداهما من الهزيمة، وهذا ما لمسه القارئ في ثمالة المبارات الدموية بين الشاعرين، حيث مضى شاعر الديكتاتور في آخر الليل مهزوما، مهدما، محبطا، فارغا من أي تأنيب ضمير أو مراجعة لتاريخ انحطاطه ذاك.
تلاشى شاعر الرئيس، مثقف السلطة، وقواد ثقافته، يجر خيبته في الشوارع الكئيبة، والوحدة المتجهة به سريعا نحو مزابل التاريخ، ولعناته. إن حكم الواقع، والتاريخ المنسوج بالحكمة، والتجربة، يجزم بهزيمة ثقافة المراحيض تلك في النهاية. حتى وإن بدت، لأول وهلة، مرتدية ثوب الغلبة والانتصار، والثقة بالنفس.
الجمال هو من سيربح الرهان، كما جاء في مدونات البشر قرنا بعد قرن. لكن لا أحد يتعظ.
ليست هناك تعليقات