Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

شاكر الأنباري... أن تكون الرواية ناجحة

أن تكون الرواية ناجحة ينبغي لها، بدءا، أن تحقق الشروط الفنية العامة التي تؤهلها للانتماء إلى هذا الحقل من السرد، متكئة على منجزات الرواي...


أن تكون الرواية ناجحة ينبغي لها، بدءا، أن تحقق الشروط الفنية العامة التي تؤهلها للانتماء إلى هذا الحقل من السرد، متكئة على منجزات الرواية العالمية ونقدها، وشروطها، وتعدد فنونها وأساليبها، مما راكمته الخبرة البشرية طوال قرون من الممارسة. أي أن لا تأتي صدى لمنجز روائي سابق، إنما تستفيد من الخبرات العامة في هذا المجال، فلا يمكن، ونحن في بداية الألفية الثالثة، النسج على منوال تولستوي، وديكنز، وسيرفانتس، وسواهم من أعمدة الرواية، فتلك تجارب تنتمي إلى نمط آخر من المخيلة. 
لا شك أن اللغة تعتبر الأداة الأولى في كتابة الرواية، وعلى الكاتب أن يتقن اللغة التي يكتب فيها، صرفا ونحوا وإملاء وبلاغة، فاللغة هوية للرواية، وبصمة لها، مما يتطلب من المشتغل في هذا المجال التضلع بظلالها، وايحاءاتها، واستعاراتها، وقوانين بناء الجمل والترابط بينها. وكلنا يعلم أن لغة الرواية ليست لغة الصحافة أو النقد أو الشعر، بل هي لغة تحكي، وتحلل وتستقرئ المادة الأولية المصنوعة منها الرواية. ومادة الرواية هي التجربة، التجربة الحياتية للكاتب بالدرجة الأساس، فعن طريقها يطل على خبايا المجتمع، ودهاليزه، وتفاعلاته، وكيف يفكر البشر وهم بالنهاية من يتحولون إلى شخصيات روائية.
كما ينبغي أن يمتلك الكاتب عينا نافذة، ذكية، تحيط بالمكان وتفاصيله وجمالياته وتحولاته، وهذا لا يتم سوى بانتماء الكاتب إلى لحظة تاريخية تسبح في الزمن الخاص ببقعة جغرافية محددة، كلما اتسعت تجربة الكاتب كلما اتسعت الرؤية الروائية، وجاءت غنية، وموحية، تحتفظ بحرارة المصهر الذي خرجت منه، أي روح الكاتب ذاته. 
والرواية الناجحة وليد شرعي لزمن، ومكان، محددين، وإلا تحولت إلى تهويمات لغوية فقط: أي شعرنة السرد، وهو أسوأ ما عاشته، وتعيشه الرواية العراقية، والعربية عموما. والتجربة هنا لا تكفي لوحدها لإبداع رواية ناجحة، فثمة أشخاص عاديون يمتلكون تجارب حياتية هائلة، لكن ما يعطي التجربة معناها، وطعمها، وغائيتها، هي الثقافة العامة للمبدع، فعن طريق الدراسة، والاطلاع، والتثقف بمختلف الفنون والعلوم، يمكن للفرد امتلاك رؤية خاصة عن الوجود البشري، وحركة مجتمع من المجتمعات، والنوازع والأفكار المتصارعة في أحشائه. ومعلوم أن أداء مهمة مثل تلك يستدعي قراءات في التاريخ، والفلسفة، والعلوم النفسية، والنقد، والنصوص الروائية السابقة، والطب، وعلوم الفلك، والنبات، وتشريح بنية الكائن، أي الانسان الذي هو غاية كل ابداع. في مشهد ما يتوجب على الكاتب وصف نبتة، أو وصف هيئة بشرية، أو رصد ليلة مظلمة مرصعة بالنجوم، أو مناقشة فكرة ذات بعد فلسفي جاءت بها شخصية من شخصيات الرواية. ومن هذا الجانب، وغيره، تكمن أهمية الثقافة العامة.
وفوق كل ذلك يظل العامل الأهم في الوصول إلى كتابة رواية ناجحة هو الموهبة، وقد حار النقاد، والقراء، في تفسير سر الموهبة لدى البشر.

ثمة روايات خالدة عبرت الزمن ونالت إعجابهم جيلا بعد آخر، وثمة روايات نجحت في زمنها لكنها انطفأت بعد حين. فالموهبة تنبع من الفرد ذاته، لا تكتسب ولا تقلد، إنما قد تستقرأ من مواصفات الشخص بعينه. وأن يكتب الروائي جملته بسلاسة، ويعبر عن أفكاره بوضوح، لا بد له أن يصل إلى منزلة التوازن الداخلي، والاسترخاء الروحي، والتأمل العقلي، وتحسس الجمال، وهذا يصدق أيضا على الرؤية الموضوعية للحدث، وتفاعل الأفراد فيما بينهم، أو مع البيئة الاجتماعية المحيطة. والتوازن داخل الكاتب لا يمكن بلوغه بسهولة، هو بحاجة إلى قدرة استثنائية على السيطرة، والارادة، وسعة الأفق، وتفرد الرؤية، والذكاء الفطري، وملكة التحليل والتمييز ما بين المهم والأهم، وما بين العادي والنفيس. وما يجمع تلك المواصفات الشخصية هو ذلك الوعاء الذهبي المسمى بالموهبة. 
ومن كل ما سبق، يمكن القول إن كتابة رواية ناجحة ليست بالأمر السهل. رغم ذلك، فالبشر في النهاية، لا يكفّون عن محاولة الوصول إلى الكمال.
عن الفايسبوك

ليست هناك تعليقات