عبد العظيم فنجان
في 8 شباط 1963 كان عمري ثمان سنوات، لكنني كنت عاشقا لبنت الجيران " نجمة" ، وكانت هي تبادلني نفس الشعور الطفولي البريء، الذي لم يكن حبا قط ، بل ولها غامضا، بين صبيين عاشا في بيئة واحدة ، حيث مقهى أبي، السوق، ومدرستي الابتدائية، وحيث العالم البريء، الخالي من الطوائف والأحزاب الدينية، وحيث السينما التي تمثل، لنا نحن الصبيان، عالما سحريا لا تنقصه الفتنة .
كانت مراسم ذلك الحب بسيطة لكنها أثرتني شعريا ، خاصة في تلك الرسائل التي تنتهي بقلب تخترقه نبلة، أو في المجلات التي كنا نتبادلها: بساط الريح وسوبرمان، وغيرها من مجلات الأطفال والصبيان، التي كان والدها يبعثها لها من مختلف البلدان التي يمر بها، حيث يعمل بحارا.
لقد وسّعت تلك المجلات من مخيلتي وخيالي، إضافة إلى كتاب ألف ليلة وليلة، وكان والدي ينظر بريبة، إلى تلك المجلات والكتب، إلى شغفي بها ، لكنه تقبل الأمر لأنني كنت شاطرا في المدرسة ، ومتعاونا معه في العمل داخل المقهى الذي يرتاده أصناف متعددة من البشر، خاصة السياسيين والمثقفين ، من مختلف المشارب ، وهم يتناقشون حول الحكومة ، وحول أمور أكبر مني ، لكنني هناك ، في تلك السنوات المبكرة من عمري، سمعت كلمة " الدكتاتورية " و"الوجودية " و"الليبرالية "، وغيرها من الاصطلاحات التي صارت تمثل هاجسا معرفيا في وعيي ، عندما كبرت .
كانت " نجمة " جزءا مهما من فضاء المقهى: نجمة مضيئة دائما بشعرها الأشقر ، وبمرحها الطفولي ، فهي تذاكر معي دروسها في أحد الزوايا ، وسط محبة ومودة الرواد، ولم يكن الأمر مستنكرا في تلك الأيام، مع " ثورة " السفور، وخلع الحجاب، وتحرر المرأة ، وهي أهداف حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث أصبحت نزيهة الدليمي أول وزيرة عراقية في البلاد العربية قاطبة .
كان الجو باردا في الليلة التي سبقت انقلاب 8 شباط الدموي ، وقد صادف أن يكون شهر رمضان هو الطقس السحري الذي أحاط تلك الأيام ، حيث نلعب ، نحن الصغار ، لعبة " المحيبس " الذي كنت أودعه ، دائما ، في يد " نجمة " ، وعلى ما أذكر فقد ارتكبت مخالفة جعلتني أسهو عن عملي في مقهى أبي ، فقرر أن يعاقبني ، وكانت عقوبة قاسية جدا ، إذ أمر شقيقي الأكبر أن يصحبني إلى الحلاق صباحا ، وأن يحلق شعري تماما ، أي بالتعبير العراقي :" نمرة صفر " ، بحيث لا تبقى شعرة في رأسي .
في اليوم التالي ، أي صبيحة 8 شباط ، أخذني شقيقي كرها إلى الحلاق ، الذي تبيّن أنه كان بعثيا ، بعد دقائق من دخولنا دكانه . أجلسني على كرسيه ، وحرّك ماكنة الحلاقة من بداية النصف الأيمن من رأسي إلى آخره ، وفي هذه اللحظة بالذات دخل شخص آخر إلى الدكان ، فقال للحلاق " لقد قتلوا الزعيم ـ يقصد رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم ـ " فتركني الحلاق وفتح الراديو لنسمع البيان الصادر من الانقلابيين ، ثم ضربني على كتفي وقال :" تعال غدا لنكمل الحلاقة " تاركا شكلي مضحكا حد الفضيحة ، فهو لم يحلق سوى نصف شعري ، لكنه أخرج بندقية كلاشنكوف من أحد زوايا الدكان ، مما أشعرني بالخوف ، وبعدم الاعتراض .
كنت مفجوعا من شكلي غير اللائق بعاشق فتي، فلم أعرف ماذا أفعل ، لكن أحدهم عطف على حالي، فغطى شعري بيشماغ أحمر ، وأمرني بالذهاب إلى البيت بسرعة .
كان شقيقي قد اختفى من الدكان وذهب إلى التظاهرات التي تشكلت فورا ، فيما بقيت وحيدا ، أركض خائفا في شوارع بدت تقفر من المارة ، وقد علت أصوات إطلاق العيارات النارية ، مع أصوات النسوة والأولاد " مات الزعيم، مات الزعيم .. "
لم أفكر في تلك اللحظة إلا في " نجمة ": لقد خفتُ أن تكون في الشارع ، وهذا مما يعرضها لخطر الإصابة بتلك الاطلاقات .
عندما وصلتُ إلى مقهى أبي وجدتُ أن "نجمة " واقفة، قلقة، بانتظاري، على الرصيف ، قريبا منه ، فأخذتها من يدها وركضنا إلى البيت ، بيتهم ، حيث لبثنا هناك حتى العصر ، دون أن نشعر أن ذلك الانقلاب العسكري سوف يلعب بمصيرينا ، فنفترق بعد سنوات ، بحيث لا نلتقي أبدا، لكن تلك قصة أخرى ..
في 8 شباط 1963 كان عمري ثمان سنوات، لكنني كنت عاشقا لبنت الجيران " نجمة" ، وكانت هي تبادلني نفس الشعور الطفولي البريء، الذي لم يكن حبا قط ، بل ولها غامضا، بين صبيين عاشا في بيئة واحدة ، حيث مقهى أبي، السوق، ومدرستي الابتدائية، وحيث العالم البريء، الخالي من الطوائف والأحزاب الدينية، وحيث السينما التي تمثل، لنا نحن الصبيان، عالما سحريا لا تنقصه الفتنة .
كانت مراسم ذلك الحب بسيطة لكنها أثرتني شعريا ، خاصة في تلك الرسائل التي تنتهي بقلب تخترقه نبلة، أو في المجلات التي كنا نتبادلها: بساط الريح وسوبرمان، وغيرها من مجلات الأطفال والصبيان، التي كان والدها يبعثها لها من مختلف البلدان التي يمر بها، حيث يعمل بحارا.
لقد وسّعت تلك المجلات من مخيلتي وخيالي، إضافة إلى كتاب ألف ليلة وليلة، وكان والدي ينظر بريبة، إلى تلك المجلات والكتب، إلى شغفي بها ، لكنه تقبل الأمر لأنني كنت شاطرا في المدرسة ، ومتعاونا معه في العمل داخل المقهى الذي يرتاده أصناف متعددة من البشر، خاصة السياسيين والمثقفين ، من مختلف المشارب ، وهم يتناقشون حول الحكومة ، وحول أمور أكبر مني ، لكنني هناك ، في تلك السنوات المبكرة من عمري، سمعت كلمة " الدكتاتورية " و"الوجودية " و"الليبرالية "، وغيرها من الاصطلاحات التي صارت تمثل هاجسا معرفيا في وعيي ، عندما كبرت .
كانت " نجمة " جزءا مهما من فضاء المقهى: نجمة مضيئة دائما بشعرها الأشقر ، وبمرحها الطفولي ، فهي تذاكر معي دروسها في أحد الزوايا ، وسط محبة ومودة الرواد، ولم يكن الأمر مستنكرا في تلك الأيام، مع " ثورة " السفور، وخلع الحجاب، وتحرر المرأة ، وهي أهداف حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث أصبحت نزيهة الدليمي أول وزيرة عراقية في البلاد العربية قاطبة .
كان الجو باردا في الليلة التي سبقت انقلاب 8 شباط الدموي ، وقد صادف أن يكون شهر رمضان هو الطقس السحري الذي أحاط تلك الأيام ، حيث نلعب ، نحن الصغار ، لعبة " المحيبس " الذي كنت أودعه ، دائما ، في يد " نجمة " ، وعلى ما أذكر فقد ارتكبت مخالفة جعلتني أسهو عن عملي في مقهى أبي ، فقرر أن يعاقبني ، وكانت عقوبة قاسية جدا ، إذ أمر شقيقي الأكبر أن يصحبني إلى الحلاق صباحا ، وأن يحلق شعري تماما ، أي بالتعبير العراقي :" نمرة صفر " ، بحيث لا تبقى شعرة في رأسي .
في اليوم التالي ، أي صبيحة 8 شباط ، أخذني شقيقي كرها إلى الحلاق ، الذي تبيّن أنه كان بعثيا ، بعد دقائق من دخولنا دكانه . أجلسني على كرسيه ، وحرّك ماكنة الحلاقة من بداية النصف الأيمن من رأسي إلى آخره ، وفي هذه اللحظة بالذات دخل شخص آخر إلى الدكان ، فقال للحلاق " لقد قتلوا الزعيم ـ يقصد رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم ـ " فتركني الحلاق وفتح الراديو لنسمع البيان الصادر من الانقلابيين ، ثم ضربني على كتفي وقال :" تعال غدا لنكمل الحلاقة " تاركا شكلي مضحكا حد الفضيحة ، فهو لم يحلق سوى نصف شعري ، لكنه أخرج بندقية كلاشنكوف من أحد زوايا الدكان ، مما أشعرني بالخوف ، وبعدم الاعتراض .
كنت مفجوعا من شكلي غير اللائق بعاشق فتي، فلم أعرف ماذا أفعل ، لكن أحدهم عطف على حالي، فغطى شعري بيشماغ أحمر ، وأمرني بالذهاب إلى البيت بسرعة .
كان شقيقي قد اختفى من الدكان وذهب إلى التظاهرات التي تشكلت فورا ، فيما بقيت وحيدا ، أركض خائفا في شوارع بدت تقفر من المارة ، وقد علت أصوات إطلاق العيارات النارية ، مع أصوات النسوة والأولاد " مات الزعيم، مات الزعيم .. "
لم أفكر في تلك اللحظة إلا في " نجمة ": لقد خفتُ أن تكون في الشارع ، وهذا مما يعرضها لخطر الإصابة بتلك الاطلاقات .
عندما وصلتُ إلى مقهى أبي وجدتُ أن "نجمة " واقفة، قلقة، بانتظاري، على الرصيف ، قريبا منه ، فأخذتها من يدها وركضنا إلى البيت ، بيتهم ، حيث لبثنا هناك حتى العصر ، دون أن نشعر أن ذلك الانقلاب العسكري سوف يلعب بمصيرينا ، فنفترق بعد سنوات ، بحيث لا نلتقي أبدا، لكن تلك قصة أخرى ..