
أخذتُها، شممتُها برفق، وجعلت أقلّبها بين أناملي بحركات مملّة ذات اليمين وذات اليسار، وأنا شاخصةٌ في طفل يحلّ شريط حذاء رجل يجلس إلى جانبه غير مكترث سوى لدخان نرجيلته الممجوج في منخاريه وفمه...
بدأ تعارفي بالدخيل الجديد في "الشلة" بعبارة افتتاحية من قبل احدهم: " فرح، وسيم.. وسيم، فرح" . كنتُ أحبّ هذه الطريقة الظريفة في التعارف، لطالما كان يقذفني إيقاعها إلى أرجوحة "بحر العيد"، فأشعر بها تروح وتجيء وتجيء وتروح... تأخذني محبورةً، وتعيدني متطايرة مع شعري الطويل وفستاني...
هو أستاذ في مادة الرياضيات، ذو عينين زرقاوين تعمّدت عدم النظر فيهما، لطالما كرهتُ الألوان التي تغترّ على الأسود القاني في عينيّ... وشيئاً فشيئاً راح يحدّثني عن الكتب التي يقرؤها، محاولاً لفْت نظري إلى معجزته: رجل آتٍ من عالم الأرقام، يطالع كتباً أدبية وفلسفية!
اكتفيت بالإنصات.. كان صوته هادئاً.. هادئاً جداً. حدثني عن نيتشه وعن الوجود الذي يسبق الماهية ، والدراسات التي خلُصتْ الى ان البيضة تحوي موادّ في قشرتها لا تتوفر سوى في رحم الدجاجة، لذا في البدء كانت الدجاجة. ثم دار بعقربه إلى أرسطو وسبب الكون الاول الذي لا يفعل شيئاً والاّ سبّب تحركه تغييراً، مستأنفاً ثرثرته عن استيائه من ساقيّ مايا دياب، وإرشادات معلّبة عن الإدارة الصفية وتنظيم الوقت...
كان رجلاً مملاً كلوحة الموناليزا. تعبتُ من ابتلاع ترياق سكينتي، في حين لم يتعب هو من مضغ كلماته.. ظلّ يحدّث الجميع كماكينة ألمانية، في حين كنت أتآمر في خيالي مع ذاك الطفل الذي يربط شريط حذاء الرجل (زوج أمه كما علمت لاحقا) برِجل الطاولة ، فأنظر إليه بعينين كحيلتيْن وأبتسم...
...ها هي موسيقى زيد ديراني على البيانو تصدح في المكان... تنبّهت للسيجارة التي اهترأت في يدي، فأطفأتها رغم أني لم أشعلها... بدأ مزاجي يتغير شيئاً فشيئاً مع معزوفة "نور"، ومقلب الطفل الظريف، ولذّة القهوة، فجعلتُ أتمتم النغمات وكأنني اعزفها على شفاهي وحركات أصابعي على بنطالي...
وما ان انتهت المعزوفة حتى نهض ذاك الرجل المربوط فكراً وحذاءً من مكانه بسرعة مهيبة، فسقط كحيوان بري انقضّ على طاولتنا!
ارتاب الجميع لعظم السقطة،اما انا فصرتُ أضحك مع الطفل..أضحك ..أضحك كطفلة خبيثة، كمراهقة تافهة، كعجوز شمطاء..