سُررتُ كثيراً عندما دعاني الصّديق الدكتور محمّد ناصر
الدين، باسمِ مُنتدى شهرياد، إلى قولِ كلمة في الشّاعر شوقي أبي شقرا. وبصراحة، من
حين أبلغني ذلك، منذ أسبوع تقريباً وفي هذا المكان بالذات، وأنا أفتح كتُبَ شوقي
في غرفتي وأفلفشُها، صفحة صفحة، ويكدُّني العرق. وكنتُ، كلّما أفتح كتاباً، أدفنُ
وجهي بين دفّتيه وأتمتمُ بشفتيْنِ متلعثمتيْنِ: ماذا أقول؟ ماذا أكتب؟ ماذا أقول؟
ماذا أكتب؟ خطرَ لي أنّ أفضلَ ما أفعلُه هو أن أسكت. أسكت، وأتسلّل. دخلتُ أوّلاً
من "أكياس الفقراء" المفخوتة، مُتتبّعاً آثار "خطوات الملك"
المُبتعثرة، ومن دون أيّ تفكير رميْتُ نفسي ... تزحلقْتُ على منعرجات الصّفحات،
و"كالسّنجاب" "وقعْتُ" من شاهِق "أبراجها"، وكرَجتُ
"كالماء إلى حصان عائلتها"، طرطشتُ الصّفحةَ وجِلدة الكتاب والطاولة
أمامي حيث "تجلس حَيرتي تفّاحة" عليها، والكلمات، عربات تلو عربات،
"كالسّائق" الأخوت صعَدْتُ إليها و"نزِلْتُ منها"، ثمّ قذفتُ
روحي في الهواء وتركتُها تسقط وتتهدّل كشرشف يصلّي على "سرير الوحدة"،
ثمّ توغّلتُ أكثر، "تابِعاً السّاحر رَكْضاً" على طول السّطر
"كاسِراً السّنابل"، وتجرّأتُ أكثر فنزعتُ عن "سهرة الواحة والعشبة
ثيابها"، و"كنوتيّ مُزدهِر القَوام" اقتحمتُ "الهيكل"
وسرقتُ "تاجَ الفتى"، ثمّ عدتُ أدراجي، في يدي "أبجديّة الكلمة
والصّورة"، ورائي "الثمار والطيور تتساقط وليس الورقة"، آخذاً معي
كلّ شيء، تاركاً فقط "الكلمة وحدها، راعية، أقحوانة في السّهول، ولا تخجل أن
تتعرّى".
وكنتُ كلّما أتعب في رحلتي الطويلة والشاقّة هذه، أطلع من
الكتاب لاهثاً لآخُذَ نفَساً، ولو للحظة، ثمّ أعود لأدفنَ وجهي من جديد، مُتمتِماً
في سرّي: ما هذا الكوكبُ العجيبُ الذي حطَطْتُ على سطحه؟ ما هذه الغرابة التي تبدو
أليفة كحواضر البيت، هذه الطفولة تركض ولا تتعب، الإنسياب الشّاسع الهائل،
التلاعُب الحرّ بالصّوَر والكلمات، الدَّفق الشعوريّ، الشَّحن اللغويّ، الكَرّ
اللفظيّ، الجُملة كيف تُبرَم كيف تُفتَل وهي مربوطةٌ برِجل أختها بخيط حرير كخلخال
إيقاعيّ شفّاف، وكيف هذه اللغة المُغايِرة الطازجة الخلنج، من أيّة شجرة فتّاكة
قُطفتْ، وعلى أيِّ تنّور خُبزتْ، وفوق نار أيّ حطب تقلّبتْ، بغريزة مُلتَقَطة من
زاوية حادّة، وسَليقة مُطعَّمة بثقافة عالية كارجة كشمس على دولاب، ربّي، وما كلُّ
هذا العشقُ المحمومُ لِلُغة طالعة منها النّيرانُ، ضاربة سقف حَلق السّماء؟
ثمّ، شيئاً فشيئاً، أعود وأنهض لألتقط أنفاسي من جديد،
أتمشّى قليلاً في الغرفة، باتّجاه الشبّاك هذه المرّة، أفتحُه، وأسهو، متذكّراً:
أوّلَ ما التقيتُه في بيروت، في شارع الحمرا، في مبنى النهار على بُعد تقاطُعيْن
من هنا. دخلتُ. كان غارقاً بين كدسات الأوراق والكتب، ما كان لِيظهر منها لو لم
يكن فارع الطول، حاجباه عاليان مشرقِطان، وأصابعه طويلة رشيقة يعربش بهما- وهو
يحكي- على سُلَّم الهواء الخفيّ، مُمسِكاً بقلم بيك أحمر ينقرُ به، من وقت لآخر،
رأسَ الكلمات أمامه فترنّ وتلتمع. وفجأة ابتسم لي، لم أعرف لماذا، ضيّفَني كلمات
فيها شمسٌ وماء، وعزَمَني إلى حبر الجريدة. ما كنتُ أعلمُ يومَها أنّه، من وراء
دفّة مكتبه الحديد القديم ذاك، كان يغيّر مسار الكتابة العربيّة.
ثمّ، كخيط في كنزة، كرّتِ الأيّام... وأنا أفكرّ بهذا
الإنسان، كيف استطاع، على مدى نصف قرن وأكثر، من الشّغل الشعريّ والصِحافيّ المُضني
في حُمّى المدينة، وأحداثها الفوّارة، وتوابلها الحارّة، أن يزمطَ بين عجلات
السّنوات، وندوب الحروب، وقَسوة الأعراض والأمراض، وصخَب التغيّرات والتحوّلات،
ويبقى شاعراً ساحراً، أنيقاً لمّاعاً، نظيفاً شريفاً، خَلوقاً سَموحاً، صامداً
عنيداً، لا يساوم ولا يهادن في كلمة، على قامة صلبة كالسّنديان، مُستقيمة كالرّمح،
وفيه من شفافيّة النّور وعمق الظّلال والتماع الجوهر ما لا غبارَ عليه...؟!
أخيراً، حين لم أستطع أن أقول شيئاً ولا أن أكتب شيئاً عنه،
قرّرتُ أن أخرجَ من غرفتي وآتي إليه الليلة بلا أيّ شيء، مع صديقيْن يُحِبَّانَه
مثلي، نهيد وسميح. أُقسم بالله، ونحن في السيّارة وعيني على المرآة، أبصرتُ الكثير
من الأشياء تهرول وراءنا على طول الطريق من زغرتا إلى بيروت، وتتقافز بفرح عظيم.
صحيح عتمة، لكن استطعتُ تمييزَها: القنطرة، والكنيسة العتيقة، والطّلميّة، والخبز،
والدّهن، والكشك، ورأس البقرة، واللوزة، والقنديل، والدّرج، والعتبة، والعلّية،
والعقرب، والتّينة، والعريشة، والهندباء، والكستناء، والفرن، والملح، والعدس،
والبصل المفروم، والدّيك، والدّجاجة، والعوسج، والبنفسج، والمسطرة، والبطّيخة،
والملفوفة، والبطاطا، واللِفت، والشمندر المُرّ، والشّورباء، والتفّاحة،
والسجّادة، والعنكبوت، وقرن اللوبياء، والرّيح وأوراق الصّفصاف...
كلُّها، كلُّها، جاءتْ معنا إلى هنا، وهي واقفة الآن تحت
على مدخل الأوتيل تسلّم عليه وتبوس خدّيه، وسلّمتني هذه الرسالة:
الشّاعر الحبيب الحبيب شوقي أبي شقرا،
أطال الله عمرك، وألف مبروك لك.
أمّا بعد، فشكراً من القلب لكلّ مَن يكرّمُك. لكنْ حَريّ أن
تكرّمكَ اللغةُ العربيّةُ نفسها، لغتُنا، بكامل عصورها المجيدة الغابرة، لِما
استطعتَ أن تفعل بها ولها، شاقّاً أرضاً بِكراً فيها، مُمَجِّداً سماءها،
مُجدِّداً ماءَها، ناكِشاً ترابَها، ناقِفاً عصبَها، ضاخّاً في عروقها دماءً
جديدة، مُشتقّاً منها الأعاجيب، حارقاً سلّافها، مُخربِطاً سياقها، مُقشِّراً
حَرامها عن حَلالها، مُخلّصاً إيّاها من بلاغتها القديمة العفِنة، رافعاً إيّاها
إلى ذروة الفرح واللعب والخفّة والطفولة والطرافة والسّحر والحلم، وكلُّ ذلك بذوق
رفيع وحِرَفيّة عالية وجماليّة أخّاذة. نعم. ينبغي أن تُكرّمك اللغةُ العربيّةُ
نفسها، لغتُنا، من محيطها إلى خليجها، ومن خليجها إلى محيطها، مروراً طبعاً
وأكيداً بهلالها الخصيب، المُخصَّب اليوم بالأورانيوم، الهلال الخَصيب، الهلال
الغَصيب، الهلال العَصيب، الهلال الصَّليب.
(الصّور بعدسة الصّديق Samih Zaatar)