عيسى مخلوف في السادس من أغسطس 1945، الساعة الثامنة والربع صباحًا، أُلقيَت القنبلة النوويّة الأولى فوق مدينة هيروشيما، وحصدت في ثوان ...
عيسى مخلوف
في السادس من أغسطس 1945، الساعة الثامنة والربع صباحًا، أُلقيَت القنبلة النوويّة الأولى فوق مدينة هيروشيما، وحصدت في ثوان معدودة أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل ومئة ألف جريح. كانت تلك اللحظة محطّة فاصلة في تاريخ العنف البشري، وبداية خوف جديد لا سابق له. المفردات المتداولة غير قادرة على وصف ما جرى. اللغة غير منحوتة أصلًا للتعبير عن هذا الموت الفريد من نوعه والذي لا يُبقي من الأجساد سوى ظلالها. مع هيروشيما، تغيّر معنى الموت الجماعي العنيف، وأصبحت واردة إمكانيّة فناء الجنس البشري.
من وحي هذا الزلزال النووي كتبت مارغريت دوراس أحد أجمل نصوصها: "هيروشيما حُبّي"، وكان في الأصل سيناريو الفيلم الذي أنجزه المخرج السينمائي ألان رونيه ويحمل العنوان نفسه. واليوم، تقدّمه الممثّلة الفرنسية فاني أردان على خشبة المسرح. لا ديكور ولا مؤثّرات ضوئيّة وصوتيّة. ثمّة فقط امرأة واحدة وحيدة ترتدي ثوبًا أسود وتقف وسط الخشبة كأنّها لم تبارح مكانها منذ زمن طويل.
يتحدّث النصّ عن لقاء جرى بين امرأة فرنسية ورجل ياباني، في هيروشيما بعد بضع سنوات من قصفها بالقنبلة الذرّية. يكشف اللقاء عن ذكرى حبّ ملتهب وفاضح عرفته هذه المرأة مع جندي ألماني في مدينة "نوفير" الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية.
بصوت يُنَغِّم الحروف ويتلاعب بإيقاعاتها، تتناهى إلى مسامعنا العبارة التالية: "الوهم الذي يوجد في الحبّ ويتمثّل في الشعور بالقدرة على عدم النسيان أبدًا، هو نفسه الذي تملّكني أمام هيروشيما".
منذ اللحظة الأولى، تلفحنا أنوثة فاني أردان الطافحة. هذا الفيض الأنثوي الحاضر حتى في أكثر لحظات النصّ مأسويّة يرشح من همسها الخافت: "تَفكّكَ الجسد في هيروشيما. انهمرَ المطر المخيف. تفكّكَ الحديد الصّلب، المتفجِّر مثل لحم البشر". تجثو الممثّلة على الأرض. تتمدّد. تتكوّر على نفسها. ثمّ تنهض، تجمع يديها أمامها وتسترسل في تلاوة صلاتها التي لا تشبه أيّ صلاة أخرى: "ألقاكَ. أتذكّرك. مقاسات هذه المدينة هي مقاسات الحبّ نفسه. وأنتَ، مقاساتك مقاسات جسدي. من أنت؟ كنتُ أنتظر بفارغ الصبر. بصمت أنتظر. افترِسْني. امسخْ شكلي واجعله واحدًا مع شكلك حتّى لا يفهم أحد ممّن سيأتي بعدك لماذا هذا الشغف كلّه. سنظلّ وحدنا معًا يا حبّي. الليل لن ينتهي والنهار لن يُشرق. أبدًا. أبدًا لن يشرق. ويمرّ الوقت. الوقت فحسب. وسيأتي وقت آخر لا نعرف فيه كيف نسمّي ما يجمعنا. سيمّحي الاسم شيئًا فشيئًا من ذاكرتنا، ثمّ يختفي تمامًا".
"من أنتَ؟" تسأل مارغريت دوراس بصوت فاني أردان. من أنت أيها الغريب الذي تتمرأى وجوهنا في وجهه، ونفتح له أبواب الجسد والروح؟ فإما يزيدنا غربة عن أنفسنا وعن العالم من حولنا، أو يقرّبنا من ذواتنا، ويملأنا كما مياه البحار تملأ فجوات الصخور عند الشواطئ.
يتعرّى الصوت المرتعش كأنه يرقص على حافة هاوية. يعلو كنَصل ملتمع. لم أكن أعرف أنّ الصوت يمكن أن يعانق، إلى هذا الحدّ، بعض النصوص. يتماهى معها فتصبح الكلمات مكشوفة ومرئيّة. كأنّ صوتها هو صوت النصّ نفسه، تمامًا كما حدث حين قامت، على خشبة مسرح باريسي آخر، في تأدية دور ماريا كالاس، أو حين قرأت نصوصًا لبيار باولو بازوليني أو قصائد لرامبو وراينر ماريا ريلكه.
لا تتجسّد الأنوثة، هنا، بتلميع صورة المظهر الخارجيّ، بل بمضاعفة جمال الداخل. الجمال غير المهدَّد، لأنه ليس أسير الشرط البيولوجي وجبروت الوقت العابر، وهذا ما ينعكس على أدائها ويكسبه مزيدًا من الألق. وإذا كانت قادرة على الغوص في أعماق النصّ فليس لأنها ممثّلة بارعة فقط، وإنما أيضًا لأنّها مشبعة بثقافة أدبية واسعة وحسّ جمالي رفيع. ولأنّ التي تعرف معنى الكلام تعرف، في الوقت نفسه، معنى الصمت، هي التي تقول: "عندما تجري الحياة وتُسرع، يضؤل، أكثر فأكثر، الوقت المخصّص للكلام".
أنا الآتي من الضفّة الأخرى للمتوسّط، تفاجئني الطريقة التي تعبّر من خلالها بعض الممثّلات الفرنسيّات عن أنفسهنّ، وأردان واحدة منهنّ، إلى جانب كلّ من إيزابيل أدجاني وإيزابيل أوبير. ولا غرابة في ذلك، لأنّ هذا الصنف من الفنّانات، حين يُعطَى الكلام، لا يكذب في التعبير عن نفسه، فكرًا ومشاعرَ، ولا يخاف ردود الفعل مهما كانت. ولا يلجأ إلى مُمالأة الأفكار السائدة وتَوَسُّل الرضى العامّ، بل يذهب إلى الجوهريّ من الأشياء من دون المرور بالإنشاء الركيك وطبوله الفارغة. لذلك فهنّ يفصحن عن معاناتهنّ وأوجاعهنّ بلا تردُّد. الأوجاع التي لولاها لما بلغنَ هذا الدرجة من النضج. أمّا المستوى الباهر في التعبير عن أنفسهنّ فلقد وظّفن من أجله، فضلًا عن تجربتهنّ الشخصيّة، قراءاتهنّ وثقافتهنّ بشكل عامّ.
في نهاية الحفل، خلعت فاني أردان حذاءها أمامنا، وتقدّمت إلى أول الخشبة لتكون أكثر قربًا منّا. سارت نحونا خطوات بقدميها الحافيتين اللتين شقّتا طريقهما بين الورد الأبيض المتناثر، واللتين لو كانتا أقرب إليّ لأخذتهما بين يديّ وقبّلتهما.
ليست هناك تعليقات