Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

علوان حسين... قصيدة البياض

طالما القصيدة في رأسي يمكنني كتابتها هناك في أحد مكاتب الجريدة . قلت ُ لنفسي وأنا أحث الخطى والأفكار تعبث ُ في رأسي . الطريق إلى م...




طالما القصيدة في رأسي يمكنني كتابتها هناك في أحد مكاتب الجريدة . قلت ُ لنفسي وأنا أحث الخطى والأفكار تعبث ُ في رأسي . الطريق إلى مبنى الجريدة طويل وأنا أذهب ماشيا ً على قدمي َ , حذائي ممزق وبطني خاوية وجيوبي فارغة تماما ً حتى من أجرة الباص . كان الطقس حارا ً وأنا ألوذ في ظل البنايات محتميا ً من قيظ الشمس وكأني أحمل على كتفي موقد فحم ٍ مشتعل ٍ لا رأس لماذا شمس العراق تتبعني حتى وأنا في عمان اللطيفة الطقس غالبا ً ؟ بين مسافة ٍ وأخرى أجلس على مصطبة مواقف الباصات تلاحقني أصوات الباعة المتجولين وزمور السيارات وقرقرة بطن ٍ جائعة . القصيدة تدوي في رأسي كموسيقى وحشية لكني أشعر بتعب ٍ شديد وقليل من الدوار وأخشى لو أغمي علي َ أن تتلقفني تلك السيارة البيضاء التي تطارد الوافدين وبدلا ً من المشفى أجد نفسي مقيدا ً جاهزا ً للترحيل حيث الجحيم بإنتظاري .

سرت بضع خطوات ٍ كأنني ثمل ألم ٌ في الرأس داهمني وفي معدتي في ذات الوقت وشعرت بجفاف فمي وشعور بالعطش ورغبة عجيبة في أن أموت على الرصيف . لو فقط أصل إلى مبنى الجريدة أحدهم سوف يطلب لي شاي ربما أحصل على ساندويجة جبنة لو تجرأت وطلبتها , لا أحد يبخل على زميل حرف ٍ يتضور جوعا ً لا تزال الدنيا بخير وأنا أعيش وسط أشقاء لي . في الطريق كلما أبصرت ُ سيارة شرطة تمر ُ أمامي أشعر بالرهبة والخوف الغريزي وكأن شرطة العالم كلها تلاحقني ضجرت من هذا السجن الصغير الذي أحمله في رأسي وشبح الشرطي يلاحقني آنى ذهبت . أسير وأنا أتفقد جسمي وأحمد الله بأني لا زلت حيا ً وحرا ً وفي رأسي قصيدة مختبأة في مكان ما من تلافيف دماغي .

وصلت ُ مرهقا ً والعرق يتصبب بغزارة من كل مسامة ٍ في جسمي مع شعور بالدوار وألم في المعدة وشيء من الصداع فجأتني نسمة باردة تنعش ُ القلب وبصعودي درجات مبنى الجريدة إنتقلت ُ طبقيا ً من متشرد ٍ على الرصيف إلى زميل في مهنة الحرف .

كان مزاج مسؤول الصحفة الثقافية رائقا ً حدست ُ من إستقباله لي بإبتسامة مشرقة وترحيب ٍ لطيف أنساني الجوع والعطش وتعب المسير . سألني ها ماذا لديك ؟ قلت له قصيدة جديدة هي أفضل ما كتبت ُ . هاتها بسرعة مواد الصفحة لم تكتمل بعد . فتشت ُ في جيوبي ثم تذكرت ُ بأني لم أكتبها بعد . القصيدة في رأسي لم أكتبها بعد أخبرته وأنا في حالة إرتباك . قلت لي القصيدة في رأسك ؟ نعم هي في مكان ٍ ما في رأسي . ولكن كيف لي نشرها ولم تتحول بعد إلى كلمات ؟ قلت لا أدري ربما مع كوب شاي وكسرة خبز أستطيع إستدراجها من رأسي إلى الورقة . إليك هذه الأوراق وتلك الطاولة وسأوصي لك على كوب شاي قلت ُ وسندويجة من فضلك إني أموت ُ جوعا ً . تكرم عينك شاي وأحلى سندويجة وأرني قصيدتك الرائعة . أنهيت ُ السندويجة مع الشاي شعرت بأنها لم تسد رمقي والقصيدة تأبى على المجيء . الوقت ُ يمر والرجل ينتظر ُ وليس في رأسي سوى وليمة طعام ٍ شهية . تخيلت ُ أمامي وجبة أضلاع مشوية من لحم الظأن الشهي وأطباق مختلفة من المقبلات وعلى الطاولة زجاجة نبيذ جالسة كأنثى باهرة الجمال إنتبهت إلى أن هذه التخيلات التافهة تطرد القصيدة ولا تحملها على المجيء . حين إلتقت نظراتنا أنا والمحرر قلت له لدي َ فكرة قد تعجبك . وأنا مصغ لك أجابني . ما رأيك لو تترك مساحة فارغة وتضع عنوانا ً لها ( القصيدة المضمرة ) وتترك لخيال القارىء قرائتها كما يحب ؟ تعني قصيدة بلا كلمات ؟ نعم بعض الشعر تفسده ُ الكلمات . أكيد أنت تمزح معي . قلت لا أبدا ً أنا في منتهى الجدية , ستكون سبق صحفي لك صدقني . أصدقك لو كنا في باريس مثلا ً وقتها أستطيع القول بأنها قصيدة سريالية مثلا ً .

تستطيع القول بأنها قصيدة البياض مثلا ً , قصيدة بلا كلمات . لو فعلت ما تقوله أصبح متشردا ً مثلك , لا وقت لي ولا مزاج لمزحة ٍ من هذا النوع هل لديك القصيدة أم لا ؟ الحقيقة كما قلت لك هي معي في رأسي وليست على الورق . أنسى الموضوع يا صاحبي لا قصيدة بلا كلمات .

ليست هناك تعليقات