1
"وهل يروقُ دفينا جودةَ الكَفَن!"
هو الشطر الثاني من البيت الخامس عشر من قصيدة المتنبي التي حاولنا ترجمتها.
كتابتي هي في نعي مديري السابق وصديقي المستعرب ستي غاسموسن (1944-2019)، الذي توفي يوم الجمعة المصادف 11يناير، وقد ودعناه اليوم في كنيسة ماوله كورد، المكان الجميل الذي ارتبط بجزء من طفولته، شبابه وشيخوخته، ليس لإيمانه، بل للحياة المستقرة التي جعلت المكان هنا يرافق الإنسان بكل تحولاته!
ما أعرفه أن غاسموسن كان يقرأ شعر المتنبي على الدوام، ولقد قرأت قصيدة طويلة قام بترجمتها في كتابه الذي أظن انه لم يصدر لولا التفاتةٍ راضية من الآلهة وبحراسة الملائكة، وذلك قبل بضعة أسابيع من تاريخ اليوم. حمَلَ الكتاب العنوان "الأدب العربي الكلاسيكي مترجما إلى الدنماركية" لفترة امتدت ما بين القرن الخامس والسادس إلى النصف الأول من القرن العشرين، وقد تسنى له أن يتلمّس بيديه خلاصة جهد كبير مضمومة بين دفتي كتاب غاية في الدقة والأناقة.
عملنا لسنوات معا وفي أكثر من مشروع في قسم الدراسات الشرقية والعبرية للمكتبة الملكية. من النادر أن يكون عملك الوظيفي المفروض عليك هو ما تمارسه بنفس الوقت كهواية لا تحبّ سواها، ذلك قبل أن يتم تغيير المؤسسة وتوجهاتها بشكل كامل في السنوات الأخيرة، بعد أن كانت تُعد أحد أهم مصادر البحث في الشأن العربي والإسلامي في أوروبا. استمر عملنا المشترك حتى بعد انتهاء عقد عملي هناك، والشطر الذي استهللتُ كلامي به أراه يعكس نهجه في جانب من الحياة، هو ما أميل إلى إدراكه الآن، أن يكون دافع الانسان في الحياة شيئا آخر يبتعد تماما عما يُرى على السطح، أو الشكل أو ما تفترضه الاملاءات الدينية والمجتمعية، إنسانا يملك دوافعه الجادة بداخله في محاولته تقديم الأفضل، أن يكون مخلصا لنفسه أولا قبل الآخر، متورطا في الحياة، ومنفتحا كما اقتبس القسّ اليوم في كلمته جلال الدين الرومي بقوله؛ " للقلوب نوافذٌ تطلّ على بعضها"
قلبه كان نافذة مشرّعة للعالم باختلافه وتنوّعه. لابد وأن تشعر بانجذابكَ إليها، أن تحسّ بالغنى والرُقيّ والأناقة باقترابكَ منها.
ستي غاسموسن، نودعُكَ بحزنٍ للفراغ الذي سيخلّفه غيابكَ، ولكن لتواصلْ رحلتكَ صديقي العزيز بالشغف والأمل والاطمئنان ذاته.
لروحكَ السلام!
2
كان أبو ريا (محمد سعيد الصكار)جالسا على كرسيه متسرسحا تماما كعادته حين يكون مسترخيا، واضعا الساق على الساق، يوشك أن يورث سيجارته التي استلّها بجمرةِ التي سبقتها. لم يتنبه لوصولي قبل أن ألقي تحيتي عليه. كان ذلك مساءا، والمكان مطلّ على منفذ نهري مثل خُلَيْجٍ مصغّر تصطدم فيه موجات متباعدة هادئة بالحجارة المتراكمة فوق بعضها في الجهة التي يشرف البيت عليها. ما أن رفع رأسه حتى انبسطت أساريره- اعتدتُ لَمْسَ حرارةِ ترحيبه بذلك الهدوء في المُحيا. أخبرتُه أن صديقه في كوبنهاجن – هنا انقطع الحلم- توفي هذا الصباح.
انقطعَ الحلم وتيقظتُ لواقع أن الاثنين قد رحلا!
بهدوء، ومن دون جلبة وصور وشهادات.
الاثنان بالأناقة ذاتها، الصوت الخفيض، الكلمة المنتقاة، ولون القميص أيضا!
رافقتكما السلامة، أو عليكما السلام أينما كنتما.
• لم أرَ بمثل بهجة اللوحة التي تأملتها اليوم أثناء حفل الوداع في بيت ستي غاسموسن مهداة من الصكار، في مجمل أعماله التشكيلية.
• اكتشفتُ أني لا أملك صورةً لأستاذٍ بمكانته العلمية الرفيعة وأهميته، ولم أعثر كذلك على صورةٍ له في النت!
• لاأذكر من انتاج أي عام لم يكن نبيذ Chateau Margau مقنعا قياسا بسعره بالنسبة له، ولكن لا يهم، نفتح قنينةً من النوع المفضل لديه مساء اليوم، نرفع نخبه اعتزازا به ولذكراه ( بسعر مقدور عليه).
التصنيÙ:
ثقافة