غسام علم الدين * في الحياة الفنية، الموسيقية، الغنائية، الثقافية الّلبنانية، أربعة فنانين، يعملون ضمن رؤى حداثية، ثقافية، ذات أبعاد رؤ...
في الحياة الفنية، الموسيقية، الغنائية، الثقافية الّلبنانية، أربعة فنانين، يعملون ضمن رؤى حداثية، ثقافية، ذات أبعاد رؤيوية، مستقبليّة، هادفة إلى تطوير المناهج الموسيقية الغنائية، وُفق طروحات حديثة، تتلاءم والتحدّيّات والتغييرات العالمية، الهائلة التي اقتضتها ظروف الواقع، وضرورات العصر الحديث.
هؤلاء الفنّانون هم: مارسيل خليفة، زياد الرحباني، شربل روحانا، أندريه الحاج.
وبما أن الكلام هنا وفي هذه الدائرة يطول، يتشظّى وشرحه سيكون أطول والمجال لا يتّسع سأوجِز إشاراتي إلى النّزر القليل من إنجازات هؤلاء ولو كٰرِهٰ الكارهون.
لولا مارسيل خليفة ومنذ عقودٍ أربعة، لما كنّا عرفنا تطوّراً حقيقياً في مجال غناء القصيدة بالعربية الفصحى، والقصيدة الملحمية، التعبيرية، من مثل: "أنا أحمد العربي، وأنا يوسف يا أبي"، فضلاً عن:" أحن إلى خبز أمي، ريتا، جفرا" إضافة إلى ذلك خروجه عن الأنماط والقوالب الغنائية، الموسيقية، التي كانت سائدة كغنائه: قصيدة النثر:"يا علي"، ومن أين أدخل في الوطن" ومؤخّراً قصيدة: "الهجرة"، فضلاً عن المناهج والمقطوعات الموسيقية التي اعتمدها(المعهد الموسيقي، الوطني، العالي، الكونسرفاتوار) التي كانت بالنسبة إلينا نحن طلّاب آلة العود في الكونسرفاتوار إلى القول كلما شعرنا بالضّْيق من تكرار "البشارف واللونغات" والتمارين التركية، على جمالها وروعتها نقول: "بدكم هوا جديد ودم نضيف" ليس لنا إلّا ما ألّفه مارسيل وشربل روحانا".
قارٰبٰ مارسيل ومنذ بداياته عن قصدٍ أو من دون قصد قيام رؤيته الإبداعية على فكرٍ لا يعتمد التقليد ولا الاجترار، ولا اللجوء إلى الهيّين لبلوغ الجماهيرية والشعبوية البسيطة، الخالية من مضمون وعمق وجوهر. بل اعتمد نوعاً غنائياً موسيقياً صعباً، سواءً لجهة الكلمة، أم لجهة اللحن، كذلك لجهة التنفيذ وأسلوبية التعبير الثنائي بين الجمهور والفنان. وهو أمرٌ غالباً لا يُفلِح فيه الكثير من أصحاب المواهب الكبيرة، فتنطوي أحلامهم وتتراجع، بل ويا للأسف تندثر أيضاً.
وقد كان أهم ما اعتمده مارسيل منذ اللحظات الأولى لانطلاقته هي: القصيدة الغنائية، بالعربية الفصحى كما أشرتُ في بداية عذه المقالة. ويعرف الخبراء العارفون، أن في هذا الاعتماد خطورةً كبرى، تتطلّب-فضلاً عن الموهبة والخبرة والثقافة-قبولاً واستساغة من فتىً لم يكن آنذاك قد بلغ العشرين، أو كاد او تعدّاها بشهورٍ ربّما.ليس ذلك فحسب بل ما كانوا يحسبونه "حٰراماً غنائياً" في ذلك الزمن وأعني"الشعر السياسي" شعر محمود درويش تحديداً. هذا الشاعر الإشكالي الكبير، الذي سلك خياراً شخصياً وشعبياً وطنياً، يسير في أغلب الأحيان عكس ما يروق للحكومات والسلطات والقوى السياسية والدينية، بكافة توجهاتها. وهو الأمر الذي كلّفه الكثير من دفع الفواتير الباهظة الأثمان، ودفع وتحمّل مارسيل معه أوزارها، بل طالته سهامها أكثر بكثير مما طالت درويش، الذي كان يتحرك مدعوماً من جهات لها اذرع كثيرة في الحماية، وتهيئة المناخات الإبداعية، أهمها عدم وجود عائلة في حياة الشاعر درويش، وأعني(زوجة وأطفالاً) بينما كان الالتزام المضني، المكلف، وأعني(الزواج والأطفال) والالتزام بهما من فنّانٍ لا يسعه إلا أن يكون قدوة في هذا الإطار. رغم ذلك،
تجرّا مارسيل على تبني مشروع درويش، واحتضانه ونشرِهِ والدفاع عنه، ما اضطرّهُ إلى النّبذ والنفي والاضطهاد من بيئةٍ عارضٰت منبت ورؤية وفضاء مشروع الرجلين.
وإن يكن قد صرّح مراراً ان فكرة غنائه لم يكن قد خطّط لها، وكانت عفويّة، وأن ما سجّله من أعمال غنائية موسيقية، أولى:" أحن إلى خبز أمي، جفرا، ريتّا" وغيرها تسرّبت إلى الجمهور، وكأنها مجرد اختبار لقدرات الفتي العشريني هو وبعض الأصدقاء، لكنّها كانت تشبه نهراً طال احتباس مائه، فانطلق سريانه ماءً هدّارةً، صافيةً، عذبة تفعل فعلها في شروش الأرض اللبنانية، العربية القخط، الجدباء، لتورف أجيالاً من الموسيقيين، والمغنّين الذين صار مارسيل أستاذهم، مُلهِمهم، حافزهم نحو العطاء والبحث عن الجديد الإبداعي المتجاوِز، وأتوقُ إلى أن أكون واحداً منهم.
لا ينتهي الحديث عن مارسيل الكبير بهذه العُجالة، بل يليق به وبتجربته الكبيرة، الجادة، الهادفة التي اتت أكُلها، وطرحت ثمارها-يليق به الكتابة المعمّقة، المسهٰبة، الدّارسة بعيونٍ ناقدةٍ، مسلّطة الأضواء على مفاصل ومنعطفات مسيرته، التي أفضت بنا معه إلى صياغة:" الكونشرتو" وربّما سيفصِح لنا عمّا قريبٍ عن: "السوناتة" الإرهاص والتهيؤ للسيمفونية.
(*) شاعر وفنان لبناني مقيم في استراليا
ليست هناك تعليقات