الأشجار كمنجات النسيم

alrumi.com
By -
0

محسن أ. يمّين
تجتهد الأشجار طالما هي حيّة، ونسغ الحياة يجري في عروقها، كي تمنحنا أثمارها والظلال، وكي تقدّم قاماتها كمنجات للنسيم، وأغصانها ملاعب للطيور، ومراقص لأشعّة الشمس المخترقة لخضرة ستائرها، وكي توفّر في جوف جذوعها المعمّرة مزاراً دينيّاً، في كنف دير متخاوٍ والدهر.
الدائمة الإخضرار منها رفيقة الأبد ما نأى الحريق، وبعدت الفأس، وغاب المنشار الكهربائي. والمتحّولة الأوراق منها تمشي، وهي في أمكنتها، مشية الفصول، ولا تتعب. من أوّل زهرة تُنادي سنونوّات الربيع، إلى آخر ورقة ملوّنة تنشد نشيد الخريف. ومن أجمل ما يُورثه الربيع للصيف من إخضرار مُورق، إلى أبشع ما يسلّمه الخريف للشتاء من عري منقبض، ومتجهّم.
وهي إذا مدّت أعناقها منفردةً أمام مدخل بيت، أو في قلب شارع، أو متباعدة في حقل، أو على جانب طريق ، فكمظلات عافية، ويافطات ترحيب. وإذا نمت متجاورة، ومتشابكة، فكخيمة رحمة، تلي الخيمة. وهي اذا تعالت بقاماتها فكأنّما لتطاول الغيم، وإذا إكتفت من الطول بمقدار يسير، تعزّت بمطابقة حالها لأحوال بنات جنسها.
وإذ تموت وهي على أقدامها الشجر تبدو أغصانها وفروعها العارية، من يباس، وكأنها أيْد ضارعة مرفوعة نحو السماء.
ولَكَم تبدي بعد موتها من الطواعيّة للإستخدام البشري. فقد طالما كان هذا شأنها منذ فجر الزمان. منذ مواقد العصور الحجريّة، وهيكل سليمان، والمراكب الفينيقيّة، وقيثارة داود. ومنذ أوّل مهد، وأوّل لوح إستعمل كنعش، وأوّل قوس، وأوّل باب، وأوّل شبّاك، وأوّل عصا حملها راعٍ، وأوّل صندوق لجهاز عروس... ولا يضير جذوعها المقطّعة أن تتحّول إلى مقاعد في الحدائق الخلفيّة، أو أدوات زينة في الفناءات بَرَعَت الطبيعة، أيّما براعة، في نحتها. كما لا يضيرها أن تمسي جذوعها المجّوفة برك ماء عطوفة يتدفّق ماؤها من مهجة عين نزّازة في الأحراج البعيدة، كياء في آخر الأبجدّية .
كم كانت الأرض لتبدو حزينةً بدون أشجار.









(الصور بعدسة الكاتب )

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)