Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

كاندينسكي... خطاطًا عربيًا

شربل داغر وقعتُ، قبل سنوات، على صورة عمل مفاجِئ للفنان فاسيلي كاندينسكي (1866-1944)، في دليل معرض يعود إلى صالة في "متحف لنباخهاو...

شربل داغر


وقعتُ، قبل سنوات، على صورة عمل مفاجِئ للفنان فاسيلي كاندينسكي (1866-1944)، في دليل معرض يعود إلى صالة في "متحف لنباخهاوس" بمدينة ميونيخ. 
العمل يرجع إلى دفتر رسوم، قام بها الفنان الشهير أثناء رحلة إلى تونس، مع طالبته-صديقته غبريال مونتر، في العام 1905. قياس العمل : 16,5 × 11 cm.؛ وهو منفَّذ بالقلم الرصاص فوق ورق عادي. أما التعريف بالرسم فلا يخلو من مفاجئة: "خط عربي"، ما يدعو إلى التساؤل: كاندينسي خطاط عربي؟
ولقد نجحتُ في قراءة جزء من النص العربي الوارد في الرسم، وهو التالي: 
"(...) ثمن (...) فإنّني 
غريقٌ ببحر المغمضات غمَصا". 
مع العلم أن : المغمضات تعني : الذنوب العظام؛ و: غمص : غمصَ نعمةَ الله، أي كفرَ بها. ووجب ذكر التالي، وهو أنني لم أنجح في التعرف إلى أصل البيت الشعري، ولا إلى مكانه، على الرغم من إشارة إلى إمكان وجود ذلك في منطقة "البلفيدير" في مدينة تونس. إلا أن الأكيد هو أن البيت يشير إلى معنى ديني بين، ما يعني أن للموقع وظيفة دينيةة أكيدة.
هذا العمل يندرج وينضاف إلى أعمال جرى الكشف عنها قبل سنوات، بعد أن حافظتْ عليها زوجته الثانية، نينا، طوال العمر، قبل أن "تهبها" إلى ـ"المتحف الوطني للفن الحديث" في باريس. ولقد جرى التحقق من أن كاندينسكي أنجز في رحلة الشهور المعدودة إلى تونس: ما يزيد على 130 رسمًا تخطيطيًا في دفاتره المختلفة، وثلاثين عملًا ملونًا، وعشرة من الأعمال التمهيدية للوحات بالزيت، فضلًا عن 90 صورة فوتوغرافية... هذا ما أنجزه كاندينسكي على طريقة سابقيه من الفنانين الأوروبيين والمستشرقين، أي في تجواله في المدن والشوارع، منتقيًا زوايا للنظر والرسم، و"موضوعات" للتخطيطات التمهيدية، مثل سابقه الشهير أوجين ديلاكروا وغيرهم بالمئات. هذا ما قام به في مدينة تونس، وضواحيها المختلفة، وفي سوسة والقيروان وغيرها... إلا أن السؤال يبقى: هل رسمَ كاندينسكي ام خطَّ؟ بل نسأل بالحري: هل خطَّ؟َ ام نقلَ وحسب؟ 
لا أحتاج إلى أدلة كثيرة لكي أؤكد أنه... نقل، بدليل قسمة لفظ 'المغمضات" إلى جزئين. الا أن ما نقلَه، طلبَ منه أغراضًا فنية في قادم الأيام والتجارب الفنية. 
في هذه المسودات الفنية المتبقية من رحلته التونسية، نجد شبهًا بما يقوم به المصور الكلاسيكي من رسوم تمهيدية وإعدادية للوحات قادمة ومأمولة. وفي هذا أساسُ التصوير الكلاسيكي، أي الانتقال من المعروض للعين إلى المبني المعروض في لوحة.
نقل كاندينسكي خطوطًا عربية، وتفاصيل من زخارف إسلامية أو من أعمال فسيفسائية، وزوايا منتقاة لأشكال هندسية في أبنية تونسية قديمة. نتأكد، بالعودة إلى بعض هذه الرسوم، من أنها أفادت الفنان في تصوير غير لوحة من أعماله التونسية هذه. إلا أننا نتأكد أيضًا، بالعودة إلى ما ستنتهي إليه أعماله الزيتية بعد سنوات معدودة، من أمر مختلف، وهو أن كاندينسكي كان يفترق عن تصويره الكلاسيكي، ويُنهي تاريخه وتاريخ غيره معه. كما نتأكد، ضمن العملية ذاتها، من أن هذه التفاصيل الصغيرة، مثل رسم الخط أو الزخرفة، أو انحناءة في قبة مبنى تونسي، ستعلو لتصبح العمل الفني. أي أنه كان يفترق عن التصوير الكلاسيكي، فيما كان يحفظ أساسياته الإعدادية إذ يسجلهأ... ذلك أن إيلاء عناصر الشكل - في تفرقها، في قيامها كعناصر مكتفية بذاتها - مثل هذه الأهمية، سيعني بعد سنوات ثلاث افتراق كاندينسكي التام عن الفن التشبيهي صوب الفن التجريدي.
قيل، في رواية، أن الفنان دخل إلى محترفه، ذات يوم، فوجدَ لوحة موفقة، "منتهية"، من دون أن يتعرف إليها... إذ كانت لوحة سابقة له، لكنها كانت مقلوبة فوق الحامل المسندي.
تقول الرواية إن كاندينسكي بدأ منذ هذا اليوم من العام 1908 تجربته الرائدة قي التجريدية. هذه الروابة... مضحكة، وضعَها وروَّجَها - على ما أعتقد - من كان يسخرَ من التجريد، وأراد التعامل معه مثل "مقلوبِ" الفن التشبيهي، أو ضعيفِه (مثلما قيل في هذه البلاد عن أن من يكتب القصيدة بالنثر هو من يعجز عن كتابة الشعر العمودي).
كاندينسكي لم يقلب اللوحة، وانما قلبَ الفن نفسه، بعد أن وجد أن عناصر بناء اللوحة، في تفرقها، تقوم في كونِ كلٍّ واحد منها "قيمة" تشكيلية، مكتفية بنفسها. وهو ما وجدَه في تونس وغيرها من عناصر تستقيم بنفسها، مثل الخط الذي يعول على مقومات الشكل وحده، حيث الخط العربي يتحاور مع خط الرسم: انتهى "موضوع" اللوحة، وبدأت فنيتُها ترتسم فوق حاملها المادي؛ بدأت اللوحة تحتفي بعناصرها، على أنها قوام التشكيل وبهجة العين والعقل في اجتماعهما.
(مجلة "الإمارات الثقافية"، أبو ظبي، العدد 72، 2018).

ليست هناك تعليقات