آية جلبي//
إنه الفجر، يمكنني تنشق روائح اشجار الصنوبر والمداخن. اُبقي عيني مغمضتين واتحسس اليوم الجديد بأنفي وأصابعي. أمرر أصابعي على جبهتي العريضة ثم على انفي وشفتي ورقبتي وبطني وأتوقف هناك، أنصت لتحرك الأحشاء واتخيلها تشبه جحيم دانتي فتهرب مني مشاعر الليل الحزينة. أعيد اصابعي بحركة سريعة الى رأسي فأستشعره ينبض، لا زلتُ حيّة بيولوجيّاً. ذلك اني في الأونة الأخيرة مُصابة بالكسل والضجر وهو ما يجعل تحريك أصابعي لوحده أمر بالغ الصعوبة، بل وبالغ التعقيد يدفعني لأسئلة لا تأخذ باليد سوى للضياع.
ما أفعلهُ عادة حين تضيقُ الحياة بفعل الضجر، حيث لا يعود بإمكان ثرثرات الأصدقاء إنعاشها، حيث يُصاب القلب بالزكام فلا يتذوق الآخرين وتصير العين زجاجاً وماء. كلّ ما افعله هو أن اتسلّل لأقرب مسرح أو متحف وافتح نوافذ روحي للنور والدهشة.
قبيل دخولي للمتحف صادفني محل قرطاسية رخيص رحت اتبضّع منه أقلاماً ودفتر للملاحظات. سمعت امرأة عجوز تقول للبائعة وهي تمرر لها تقويم السنة القادمة:
-سأشتريه، رغم أني لا أعرف ما الوقت المتبقي لي.
تضحك المرأتان، ضحكة شابة وأخرى عجوز وكلاهما بلا فرح. هل يجب أن يكون الضحك مصحوباً بالفرح؟ ليس بعد انتهاء الطفولة، ليس بغياب من نُحب.
هناك الكثير من النساء المسنّات في حياتي، هنّ يشبهن بالضبط وروداً اصطناعية كثيرة على رفوف بصيرتي. إحداهن مسنّة پيروڤيّة تدعى كيارا، لطيفة ومتدينة، كانت تبعث لي كل أحد قرصاً مضغوطاً لترانيم وصلوات مختلفة مصحوبة بعلبة طعام وأخرى حلوى وزجاجة حليب، والآن صارت تبعثها كل يوم إلى بريدي الإلكتروني. مرة افضت إليّ بسرّ عمرها العظيم:
-عندي حفنة من خيوط الكيپوس.
وشددت على يديّ للحظات طويلة حتى احسست بدفىء اموميّ يملؤني ورعب من فقدانها، فأنا اعرف جيّداً المشهد الدرامي الوداعيّ الذي يسبق النهاية. لكن كيارا انتهت إلى غياب ضبابيّ.
عادة يحكّني انفي حين احاول تذكر تفاصيل كثيرة، لذا احكّه الآن وانفض النملة التي كانت عليه، تختفي النملة لا تسقط، _ذلك اننا البشر لا نتتبع أماكن سقوط النمل_ ويبدأ عقلي بالتفكير في أمور اقرب زمنياً:
مثلاً في ارتياد المتاحف دون صحبة رفاهية لا مثيل لها، اعجبُ ممن يرتادون المتاحف مع الأصدقاء والجموع الغفيرة، اؤمن بوجوب أن يكون للمتحف قدسيّة الزيارة المفردة؛ اللوحات ليست بشيء اقل من الوجود الانسانيّ، خصوصاً البورتريهات الشخصية أو اللوحات التي تحتوي شخوصاً، فأتمعّن في وجوه اللوحة، الاحظ ضربات الفرشاة اللامثالية، اقارن توقيع الرسّام خلال السنوات، ألمس نتوءات الألوان الزيتية. يا للسعادة! كم أن في كل ذلك نوع شهيّ من الحريّة الذي لن تعرفه الروح الإنسانية في مكان آخر خارج الحدود الجمالية.
تخطر لي النملة التي رميتها، افكر فيها كعنصر أخذ حيّزاً مكانياً من هذا العالم، انظر للناس وصخبهم، افكر: كل هذه الثرثرة هي تفريغ غبيّ للذات، في الثرثرة نحن نغطّي ذواتنا.
ثم ادخل للمتحف ورأسي صندوق نمل وكلمات.
حالياً يُقام عرض لرسّام لاتينيّ ويستمر لثلاث أسابيع. يمكن التعرف على أسلوب لوحاته منذ النظرة الأولى: صاخبة بالألوان والورود والطيور، شيء يشبه الجنة لكن بألقٍ أقل.
أتمشى بين اللوحات وأفكر بأمور أخرى، وهو أهم سبب يحضرني دوماً إلى هنا. غير أن المحاولة هذه المرة لم تكن موفقة، لقد جذبتني إحدى اللوحات، مشيت إليها ووقفتُ مذهولاً.
تُظهر اللوحة مشهد امرأة تحتظر في غرفة مستشفى، يحيطها الكثير من الورد والطيور الأسطورية العجائبية ويقف على يسارها الكثير من الأشخاص الذين وقفوا جميعهم على شكل حرف (هاء) بالعربية. نعم، كيارا ودّعتني لتضطجع في هذه اللوحة.
كانت كيارا سيدة طيبة حين عرفتها، أو ربما لأن العجائز طيبات بطبعهم، لكنها الآن تهمس لي أن جميع الواقفين هم نساء حزينات وعشاق منكسرين وأطفال عالقين في طفولتهم وحيوانات من فرط ادراكها وحزنها صارت بشراً، تقول أنها كانت السبب في كل ذلك.
سيدة كيارا، وما الذي يعنيه حرف الهاء العربيّ؟
-أنا امرأة عاطفية، لا أفهم في اللغويّات.
وما الذي تفعله كل هذه الحشائش حولكِ؟
-إنّي أعيش التاريخ الذي حفضتهُ في الخيوط.
وما الذي ستقولينه لكل هؤلاء (الهائيّين)؟
-آسفة.
لماذا آسفة؟
-كي أعيش ترفي الأخير. كي اجرّب آخر خيوط السعادة.
(*) شاعرة عراقية تقيم في فلندا، النص قرصنة عن الفايسبوك
(**) اللوحة الجميلة
ل
لرسّام العراقي علي آل تاجر.
Ali Al Tajer
إنه الفجر، يمكنني تنشق روائح اشجار الصنوبر والمداخن. اُبقي عيني مغمضتين واتحسس اليوم الجديد بأنفي وأصابعي. أمرر أصابعي على جبهتي العريضة ثم على انفي وشفتي ورقبتي وبطني وأتوقف هناك، أنصت لتحرك الأحشاء واتخيلها تشبه جحيم دانتي فتهرب مني مشاعر الليل الحزينة. أعيد اصابعي بحركة سريعة الى رأسي فأستشعره ينبض، لا زلتُ حيّة بيولوجيّاً. ذلك اني في الأونة الأخيرة مُصابة بالكسل والضجر وهو ما يجعل تحريك أصابعي لوحده أمر بالغ الصعوبة، بل وبالغ التعقيد يدفعني لأسئلة لا تأخذ باليد سوى للضياع.
ما أفعلهُ عادة حين تضيقُ الحياة بفعل الضجر، حيث لا يعود بإمكان ثرثرات الأصدقاء إنعاشها، حيث يُصاب القلب بالزكام فلا يتذوق الآخرين وتصير العين زجاجاً وماء. كلّ ما افعله هو أن اتسلّل لأقرب مسرح أو متحف وافتح نوافذ روحي للنور والدهشة.
قبيل دخولي للمتحف صادفني محل قرطاسية رخيص رحت اتبضّع منه أقلاماً ودفتر للملاحظات. سمعت امرأة عجوز تقول للبائعة وهي تمرر لها تقويم السنة القادمة:
-سأشتريه، رغم أني لا أعرف ما الوقت المتبقي لي.
تضحك المرأتان، ضحكة شابة وأخرى عجوز وكلاهما بلا فرح. هل يجب أن يكون الضحك مصحوباً بالفرح؟ ليس بعد انتهاء الطفولة، ليس بغياب من نُحب.
هناك الكثير من النساء المسنّات في حياتي، هنّ يشبهن بالضبط وروداً اصطناعية كثيرة على رفوف بصيرتي. إحداهن مسنّة پيروڤيّة تدعى كيارا، لطيفة ومتدينة، كانت تبعث لي كل أحد قرصاً مضغوطاً لترانيم وصلوات مختلفة مصحوبة بعلبة طعام وأخرى حلوى وزجاجة حليب، والآن صارت تبعثها كل يوم إلى بريدي الإلكتروني. مرة افضت إليّ بسرّ عمرها العظيم:
-عندي حفنة من خيوط الكيپوس.
وشددت على يديّ للحظات طويلة حتى احسست بدفىء اموميّ يملؤني ورعب من فقدانها، فأنا اعرف جيّداً المشهد الدرامي الوداعيّ الذي يسبق النهاية. لكن كيارا انتهت إلى غياب ضبابيّ.
عادة يحكّني انفي حين احاول تذكر تفاصيل كثيرة، لذا احكّه الآن وانفض النملة التي كانت عليه، تختفي النملة لا تسقط، _ذلك اننا البشر لا نتتبع أماكن سقوط النمل_ ويبدأ عقلي بالتفكير في أمور اقرب زمنياً:
مثلاً في ارتياد المتاحف دون صحبة رفاهية لا مثيل لها، اعجبُ ممن يرتادون المتاحف مع الأصدقاء والجموع الغفيرة، اؤمن بوجوب أن يكون للمتحف قدسيّة الزيارة المفردة؛ اللوحات ليست بشيء اقل من الوجود الانسانيّ، خصوصاً البورتريهات الشخصية أو اللوحات التي تحتوي شخوصاً، فأتمعّن في وجوه اللوحة، الاحظ ضربات الفرشاة اللامثالية، اقارن توقيع الرسّام خلال السنوات، ألمس نتوءات الألوان الزيتية. يا للسعادة! كم أن في كل ذلك نوع شهيّ من الحريّة الذي لن تعرفه الروح الإنسانية في مكان آخر خارج الحدود الجمالية.
تخطر لي النملة التي رميتها، افكر فيها كعنصر أخذ حيّزاً مكانياً من هذا العالم، انظر للناس وصخبهم، افكر: كل هذه الثرثرة هي تفريغ غبيّ للذات، في الثرثرة نحن نغطّي ذواتنا.
ثم ادخل للمتحف ورأسي صندوق نمل وكلمات.
حالياً يُقام عرض لرسّام لاتينيّ ويستمر لثلاث أسابيع. يمكن التعرف على أسلوب لوحاته منذ النظرة الأولى: صاخبة بالألوان والورود والطيور، شيء يشبه الجنة لكن بألقٍ أقل.
أتمشى بين اللوحات وأفكر بأمور أخرى، وهو أهم سبب يحضرني دوماً إلى هنا. غير أن المحاولة هذه المرة لم تكن موفقة، لقد جذبتني إحدى اللوحات، مشيت إليها ووقفتُ مذهولاً.
تُظهر اللوحة مشهد امرأة تحتظر في غرفة مستشفى، يحيطها الكثير من الورد والطيور الأسطورية العجائبية ويقف على يسارها الكثير من الأشخاص الذين وقفوا جميعهم على شكل حرف (هاء) بالعربية. نعم، كيارا ودّعتني لتضطجع في هذه اللوحة.
كانت كيارا سيدة طيبة حين عرفتها، أو ربما لأن العجائز طيبات بطبعهم، لكنها الآن تهمس لي أن جميع الواقفين هم نساء حزينات وعشاق منكسرين وأطفال عالقين في طفولتهم وحيوانات من فرط ادراكها وحزنها صارت بشراً، تقول أنها كانت السبب في كل ذلك.
سيدة كيارا، وما الذي يعنيه حرف الهاء العربيّ؟
-أنا امرأة عاطفية، لا أفهم في اللغويّات.
وما الذي تفعله كل هذه الحشائش حولكِ؟
-إنّي أعيش التاريخ الذي حفضتهُ في الخيوط.
وما الذي ستقولينه لكل هؤلاء (الهائيّين)؟
-آسفة.
لماذا آسفة؟
-كي أعيش ترفي الأخير. كي اجرّب آخر خيوط السعادة.
(*) شاعرة عراقية تقيم في فلندا، النص قرصنة عن الفايسبوك
(**) اللوحة الجميلة
ل
لرسّام العراقي علي آل تاجر.
Ali Al Tajer
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق