غييوم أبولينير الحاضر بعد قرنٍ على رحيله

alrumi.com
By -
0
أنطوان جوكي



بصمتٍ مُعيب، حلّت هذا الشهر مئوية وفاة الشاعر الفرنسي الكبير، وأحد روّاد الحداثة الشعرية، غييوم أبولينير (1880 ـ 1918). صمتٌ لم تقطعه في فرنسا سوى بعض الإشارات القليلة هنا وهناك إلى حلول هذه المناسبة، على رغم قيام دار "غاليمار" الباريسية بإعادة نشر كامل أعماله الشعرية وجمعها في مجلّدٍ ضخم، وبإصدار أنطولوجيا مصوَّرة تتضمن خمسين قصيدة له تقابل كلّ منها لوحة أو رسم لأحد أصدقائه الفنانين الذين دعمهم في بداية مسيرتهم الفنية وكان خيرّ معرِّف بمسعى كلّ منهم.
لكن مَن يعرف أبولينر وإنجازاته يدرك أن هذا العملاق لا يحتاج إلى مثل هذه المناسبة كي يبقى فارضاً نفسه كعلامة فارقة ومنيرة في سماء الشعر الحديث. ولو أن لمَن غادر باكراً عالمنا القدرة على مراقبة ما يدور فيه، لما اكترث إطلاقاً لإهمال الوسط الشعري في وطنه حدث مرور قرنٍ على رحيله، وذلك لسبب بسيط: لم يحبّ أبولينير يوماً لا التواريخ ولا الرزنامات ولا المناسبات. فعلى مفكّراته مثلاً، لم يكن يدوّن واجباته الاجتماعية ومواعيده بقدر ما كان يخطّ، دون أي ترتيب، كلمات، نصوصاً، أفكاراً، خربشات قلبت مفهومنا للشعر وثوّرت كتابته. وحين مارس الصحافة والنقد لكسب قوته، تلاعب دائماً بالأحداث الراهنة التي قاربها عبر إسقاطها في زمنيات أخرى، زمنيات مخيّلته وانفعالاته.
وهذا ما يفسّر من دون شكّ افتتانه بالأساطير والميثات أكثر منه بالتاريخ. ومع أن انخراطه في الحرب العالمية الأولى كجندي جاء استجابةً إلى الإيعازات التي أملتها عليه حقبته، لكن على القتال والمآثر الحربية كان يفضّل الوشاح الزهري للغيوم العابرة، خَبَبَ جواده، دروب أحلامه وقوسَ مذنّبٍ في سماءٍ منجّمة. وداخل أتون الحرب، لم يترقّب سوى السلام، منتظراً ذلك الموعد المشوِّق مع نفسه الذي سمّاه صديقه، الفنان السورّيالي أندريه ماسون، "ساعة أبولينير".
صحيحٌ أن كل واحدة من قصائده تشكّل ـ باعترافه ـ احتفاءً بلحظة من لحظات حياته، لكن هذه النصوص الجوهرية لم تأخذ يوماً شكل حَوْليّات أو شهادات. فتلك التي نقرأها في ديوانه الأشهر والأهم، "كحول" (1913)، ألّفها كأصداء وتداعيات وخطوط فرار. وتلك التي يتألّف منها ديوانه الآخر، "كاليغرامات" (1918)، وإن شكّل تسلسُلُ الأحداث الشخصية والجماعية بوصلتها، تبقى تواريخها خاطئة على رزنامة الأيام وصحيحة على رزنامة حياته الشعرية. وحتى في جحيم المعارك أو في غرفة المستشفى، بعد إصابته الخطيرة بشظية في رأسه، فرض الشاعر على الزمن قياس أبياته، إيقاع خطاه وفضائل نشيده، فدعى ماضيه "أسفاً"، "ندماً"، "ذكرى"، ومستقبله "غداً"، "ربيعاً"، "لغزاً من زهور"، وحوّل حاضره إلى "حكاية"، إلى "انتظار"، إلى "نهرٍ وتلّ"، وترك نبضَ شعره يطغى ـ برهبةٍ ـ على كل شيء.
صحيحٌ أيضاً أن ثالوث الحداثة الشعرية (بودلير ومالارميه ورامبو) سعى قبله إلى تجديد القصيدة، شكلاً ومضموناً، لكن التحديث الذي أجراه أبولينير عليها في مطلع القرن العشرين هو الذي مهّد براديكاليته القصوى إلى انبثاق مختلف الحركات الطليعية (التكعيبية، الدادائية، المستقبلية، السورّيالية...)، وأدّى إلى تفجير الحدود التي كانت تفصل الفنون عن بعضها بعضاً. وما ساعده على تأدية هذا الدور المحوري والمرجعي هو كرهه للعادات والمسارات المطروقة، بما في ذلك تلك التي فتحها وطرقها بنفسه، ولم يتوان عن الهزء منها بتلك الضحكة المدوية التي تخرج من أفواه القلِقين العِظام.
لكن هاجس الحداثة الذي تسلّط على أبولينير لا يعني أنه احتقر التقليد ومكتسباته. ومن هذا المنطلق، تناول في بعض قصائده موضوعات ثابتة في تاريخ الشعر، كالعبور السريع للزمن أو حزن الخريف أو كآبة العزلة بين الجموع. لكن في كل واحدة من هذه القصائد، تحضر صورةٌ صاعقة، بشحنتها الساخرة وغرابتها، تزلزل النمطية أو الابتذال، فيصبح القلب مثلاً "قفا امرأة دمشقية"، أو يحضر القمر "مقلياً مثل بيضة في صحن". وحين عبّر عن ألمٍ من حبٍّ ضائع ـ وما أكثر قصص الحب الفاشلة التي اختبرها! ـ ثمّة دائماً كِسْرٌ أو دوّارٌ يزعزع نغم أنشودته ويمنحها نبرةً جديدة وغير مألوفة. بعبارةٍ أخرى، ما أن كان يضبط محرّكات غنائيته، حتى يعمد إلى هدم أساساتها. هكذا نتلقى نصّ "نهار الاثنين في شارع كريستين" الذي كتبه بعد نشوة "ليلة على ضفة نهر الرين" و"أبواق الصيد"، وهو عبارة عن رهان على قصيدة مجرّدة من الشعر والجمال، على عملٍ فنّي "لا يمتّ إلى الفن بصلة"، كما كان يمكن أن يقول صديقه مارسيل دوشان.
باختصار، كان أبولينير دائماً مختلفاً، دائماً متعدداً ودائم الحركة. وهكذا كان شعره. قادرٌ على توسيع أيّ أفق، على عبور أي حدود، وعلى تحويل أي طريق عن وجهتها، فاتحاً فضاءات شاسعة تلمع العتمة داخلها. فضاءاتُ أصواتٍ وصورٍ جريئة مدوّخة وملتبَسة، تأسرنا، وفي الوقت نفسه، تفلت منّا، وتتجسّد في كلمات موزونة موسيقياً، حين لا تتجسّد في قصائد مرسومة أو تصويرية (كاليغرامات)، لدى التحام قريحة الشاعر بقريحة الرسّام.
ولا عجب في ذلك، بما أن عَيْنيّ أبولينير المفتوحتين "مثل زهور تريد دائماً تأمّل الشمس"، اعتادتا استقصاء الهوّة وألوان الزمن النيّرة والقاتمة. فمن جهة، لدينا السحر السامّ لنظرته الملعونة، ومن جهة أخرى، لدينا رؤاه المرعبة التي تقترب من رؤى العرّاف تيريزياس والشاعر هوميروس. وبين هذين الضريرَين البصيرَين، لطالما تخيّل نفسه كما يشاء، فانزلق تارةً تحت جلد أورفيوس، وتارةً تحت جلد جانوس، وتارةً تحت جلد إيكار... محافظاً على حالة تقلّبٍ دائم تحول دون إمكانية الإمساك به في مكانٍ ما أو تحت صفة محدَّدة، وتجعله بالتالي عصيّاً على أي تصنيف.
ولأن الكلام عن أبولينير، مهما طال وجهد، يبقى ما دون عبقريته، نختمه هنا بالإشارة إلى أهمية الأنطولوجيا الصادرة حديثاً له بعنوان "كل شيء، بشدّة"، وهي عبارة مستقاة من قصيدته التصويرية "الجواد"، وتشكّل بذاتها مشروعاً شعرياً كاملاً وبرنامج حياة. أهمية لا تكمن فقط في المختارات التي تتألف هذه الأنطولوجيا منها وتختصر على أفضل وجه تجربة الشاعر الحداثية، أو في الأعمال الفنية التي تجاورها وتستحضر علاقاته الحميمة بالفنون الأخرى وأبرز وجوهها الحداثية، وبالتالي نشاطه كناقد فني ورسّام معاً، بل خصوصاً في الحوار الخصب الذي نستشفّه بين هذه الأعمال ونصوصه. فسواء تعلّق الأمر بمخلوقات أسطورية أو ملتبَسة لبيكاسو، أو بمناظر يصعب تقويمها لهنري روسو، أو بفضاءات ميتافيزيقية صامتة لجورجيو دو كيريكو، أو بهندسات منيرة لروبير دولوناي، أو ببرقشات لمارك شاغال... تتكلّم جميع هذه اللوحات لغة واحدة، لغة أبولينير، لغة الرغبة والقلق التي تُنشَد دائماً بصيغة الحاضر.
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)