عواد ناصر في روايته الوحيدة "العنقاء" أو "تاريخ حسن مفتاح" يدخل لويس عوض (1915-1990) المنطقة شبه المحرمة التي ...
عواد ناصر
في روايته الوحيدة "العنقاء" أو "تاريخ حسن مفتاح" يدخل لويس عوض (1915-1990) المنطقة شبه المحرمة التي يشتغل فيها الشيوعيون العرب، منطلقاً من التجربة المصرية حيث كتب روايته تلك منتصف الستينات عما جرى عقب الحرب العالمية الثانية وتداعياتها على مصر وعموم المنطقة العربية.
.. مرت الرواية على الكثير من أصدقائه وزملائه مستأنساً بآرائهم قبل نشرها، فانقسموا إلى أكثر من فريق بين مؤيد لنشرها ومعترض، بمن فيهم طه حسين الذي بقيت في أدراجه سنوات ثم متعللاً بأنه لم يجد الوقت لقراءتها!
الدرس الأول: تلخصه الثيمة الأرأس في فكر عوض وهو ضد العنف: عنف السلطة ضد خصومها من الأحزاب والشخصيات المعارضة، من جهة، وعنف هذه الأحزاب والشخصيات ضد بعضها بعضاً، من جهة ثانية.
الدرس الثالث: شجاعة الشخصية الديمقراطية التي تماست مع الحركة اليسارية، بطبعتها المصرية الملتبسة، وتشظيها وانقساماتها، فرصدها عوض بعقلية الديمقراطي المحب والمحترِم للتجربة على صعيدها العملي والنظري، ونقدها بشعور المخلص والحريص.
الدرس الرابع: شدد المؤلف على موضوعة تمصير الفكرة اليسارية وجعلها في خدمة الواقع وليس لي عنق الواقع، بل جسمه كله، ليوافق الفكرة، كالأحذية الصينية.
يبدو لي أن السوڤييت، الذين ضمّنوا جملة غوته: "النظرية رمادية، يا صديقي، بينما شجرة الحياة خضراء" في كراريسهم الماركسية التي ترجموها لرفاقهم العرب، ندموا كثيراً بعد ذلك، لأنهم، لا غيرهم، من ورطوا رفاقهم العرب بمعضلة الخيانة والتحريفية التي وسموا بها كل من انتقد واختلف واجتهد وناقش، بغض النظر عن مدى إخلاصه للفكرة المقدسة.
لم تأت الشوارع العامة لأقدام الناس بل إن إقدام الناس، عبر التاريخ والجغرافيا، هي التي تذهب إلى الشوارع العامة.
يجادل عوض في أمرين، بين أمور أخرى، الجبر (=الحتمية) ودكتاتورية البروليتاريا ليخلص أن الجبرية نوع من الجمهوريات الفاضلة من الإغريقي أرسطو حتى البريطاني توماس مور، وما دكتاتورية البروليتاريا سوى دكتاتورية تسلب بقية الطبقات حقها في التعبير وحرية الفكر حتى لو شكلت 90% من فئات المجتمع، فثمة 10% مسلوبة الحقوق.
اختلفنا أو اتفقنا، فالرجل جريء حتى في ارتكاب الأخطاء، إن كان ثمة أخطاء.
الدرس الرابع: لم يكن "حسن مفتاح" وهو بطل الرواية سوى بطل من ذلك الزمان، وهذا الزمان أيضاً، فهو المناضل الذي نجح في توحيد المنظمات والحركات اليسارية المصرية، لكنه أخفق في حياته الخاصة: كان في غرفته الوحيدة، الفقيرة، يتحسس أعضاء جسده ليتأكد من أنه حي!
كان يهلوس ويحاور صديقه المنتحر "فؤاد منقريوس" وهو يراه على شكل نور ينبجس في مرآة الجدار.
ضاق عوض، كثيراً، بمن توقفوا عند الجانب الفكري، النقدي، لروايته الوحيدة هذه، بينما كان ينتظر من يكشف قيمتها الفنية.
الدرس الخامس: كتب عوض هذه الرواية بشجن إنساني ساحر وهو ينقل شخصياته، المتنقلة أصلاً، بين مختلف التجارب والأحوال والمرارات والخيبات، كاشفاً عن بيئة شديدة المحلية، لكنها تنفتح على تجارب في أبعد قرية على الكرة الأرضية.
عناية شديدة بربط الأحداث والتفاصيل وهندسة تقنية وإدارة ديمقراطية للشخصيات من البواب حتى سكرتير اللجنة المركزية "حسن مفتاح".
لغة سردية حارة لم تثقلها الفصحى إلا بمزيد من الطرافة والأريحية، حتى لكأنها عامية مصرية لفرط غناها وخفة دمها.
رواية يمكن أن تقارن، عدا جرأتها الفكرية، جمالياً بأفضل الأعمال الروائية العالمية التي قرأناها.
ثمة دروس أخرى من هذا المعلم والمربي، الباحث التاريخي والناقد الأدبي والفني، لا يمكن اختزالها بهذا العمود المسكين، ومنها إنه رائد من رواد النقد الماركسي سبق أقرانه بحوالي نصف قرن من الزمان، وإن كانت أفكاره، راودت البعض منا، شباناً أو شيوخاً، لكننا لم نجرؤ على التعبير عنها حتى في مجالسنا الخاصة، حتى اليوم.
عن مجلة "بين نهرين " العراقية.
ليست هناك تعليقات