Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

عن فيروز التي لا تشيخ

شاكر الأنباري نسمع فيروز دائما، في الصباح والمساء، في الشتاء والصيف، نسمعها ونحن حزانى، ونسمعها ونحن سعداء. نسمعها حين نعشق، ونسمعها ح...

شاكر الأنباري

نسمع فيروز دائما، في الصباح والمساء، في الشتاء والصيف، نسمعها ونحن حزانى، ونسمعها ونحن سعداء. نسمعها حين نعشق، ونسمعها حين نكون وحيدين، أو منقوعين في زمان الغربة والنفي، وهذه ميزة لفيروز وحدها، ربما، من بين المغنين العرب والمغنيات. لقد اجتمع في صوتها عذوبة الطفولة ولعبها، هوى العشاق وحنينهم، فلسفة الحياة ووحشتها، لأن اللوحة التي رسمتها فيروز ممتدة في الزمان والمكان، إذ هيئ لها خزين من الشعر الزجلي الشامي والشعر الفصيح، الغناء الكورالي والغناء الفولكلوري، كل ذلك معجون بمدرسة فنية عالية الثقافة، وسعة الأفق، والتنوع، هي المدرسة الرحبانية، وإذا بها تجول في أفق التاريخ وحضاراته، منذ موشحات الأندلس وحتى عتابا جبال لبنان المطلة على سوريا. 

سمعنا فيروز ونحن في أوج المراهقة في بغداد، وكانت نمطا جديدا قادما إلينا من بعيد، يشتت قليلا رتابة الغناء العراقي وحزنه، تعودنا على سماعها في صباحات هادئة، ونحن نلملم أنفسنا للذهاب إلى الجامعة أو إلى العمل، وكانت تصعد بنا إلى عوالم المثل والصور والخيالات، لكننا سمعناها لاحقا حين كبرنا وبدأ الشيب يغزو عوارضنا، وإذا بها تتجدد على مر الزمن. كلما تأصلت تجربة الفرد في هذه الحياة، وازدادت حكمته، كلما لامست فيروز روحه بعمق أكبر، وهذا يعود، أكيدا، إلى الصدق الفني، والبراعة الموسيقية، ونمط الكلمات المختارة لكل أغنية. أحيانا تفهم الرسالة الفنية بشكل أعمق حين يلم المرء بالفضاء الذى أنتجها، وهذا ما هي عليه أغاني فيروز وصورتها وإيحاءاتها، حين يزور المرء لبنان، ويتعرف على جباله وسهوله وبحره وأصوات ناسه في الضيع، والمدن الصغيرة التي تلامس الغيوم، هنا يستطيع الإنسان أن يشعر بالمدى الذى تبلغه حنجرة فيروز، ويتلمس هموم البشر ورغباتهم وهيامهم وبحثهم عن الحب وتمجيد العمل وقراءة الدموع في عيون الفتيات، ولا ينفصل كل ذلك عن تواشج فيروز مع الهم العام للشعوب العربية. ولعل أغنية عروس المدائن خير مثال على ذلك. 

عبرت الأغنية الفيروزية حاجز اللهجات بين الشعوب العربية، بجدارة، وهذا من النوادر، لم يتمتع بهذا التفرد سوى نسبة قليلة من الفنانين العرب، كما عبرت فيروز حاجز اللغات والأديان، لذلك هي معروفة جيدا في أغلب اللغات، وبين معظم شعوب الأرض. ولو فتشنا فى النتاج الإبداعي من شعر وقصة ورواية لرأينا وجود أغاني فيروز في عدد هائل من تلك النتاجات، وهذا دليل على توغلها الشعبي في عقول الناس ووجدانهم سواء كانوا بشرا عاديين أو مثقفين. ورغم أن براعة فيروز الفنية لها دور في وصولها لهذا الحجم من الشيوع، إلا أن امتداد التجربة الزمنى أسهم هو الآخر في شيوع الأغنية الفيروزية، إذ تواترت لأكثر من ستين سنة، وعاصرت مختلف الظروف والتطورات، سواء في لبنان أو البلدان العربية الأخرى. لكل ذلك يمكن اعتبار التجربة الفيروزية مادة ملائمة لدراسة الواقع العربي بتقلباته، وإحباطاته، ولعبه، ولهوه، وتوقه إلى مجهول سعيد، رائق، سيأتي يوما ما. لم أجلس جلسة صفاء مرة مع الأصدقاء والأحبة، في العراق أو البلدان العربية الأخرى، إلا وكانت فيروز حاضرة، وكثيرا ما تذكرت الأمكنة الحميمة التي تواجدت فيها عبر أغنية لفيروز سمعتها ذات يوم في ذلك المكان. من هنا فأغاني فيروز بتعبيريتها المليئة، والثرة، بكلماتها البسيطة والعميقة والمتنوعة الإيحاءات، تحيلنا دائما إلى الذكريات، إلى الماضي، إلى الأمكنة التي فارقناها، النساء اللواتي أحببناهن، الصداقات التي تلاشت في هدير الزمن وضاعت. لهذا، يصعب تخيل حياتنا، نحن الذين عاصرنا صعود فيروز والرحابنة، دون أغاني فيروز، ومسرحياتها، وأوبريتاتها، ومراثيها الكنسية. دخلت في أرواحنا مثل خمر معتقة، نعود إليها ما إن تزدحم هواجسنا، وتفور شكوكنا، وتلوب أجسادنا من البعد، والحنين، والهجر، والقطيعة. فيروز رقصة إلهية وهبت لنا في غفلة من الموت الذى يحيط بنا من كل حدب، وصوب.

عن الفايسبوك

ليست هناك تعليقات