Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

المسجد فضاء ثقافيا

منصف الوهايبي Sep 08, 2018 هذا موضوع شائك محفوف لاشكّ بمحاذير شتّى قد تكون دينيّة بالأساس، وقد تكون سياسيّة. ومع ذلك ...




منصف الوهايبي

Sep 08, 2018

هذا موضوع شائك محفوف لاشكّ بمحاذير شتّى قد تكون دينيّة بالأساس، وقد تكون سياسيّة. ومع ذلك لا مناص من الخوض فيه، ونحن جميعا نشهد ونعيش من التغيّرات والانقلابات في حقول العلم والمعرفة وفي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، ما يجعل الفجوة بين فضاءاتنا مقدّسة أو غير مقدّسة؛ وهي كلّها فضاءات للعيش معا، تتّسع، وتعبّر تعبيرا صريحا أو مضمرا عن شك عميق في فاعلية القيم المتوارثة وفي جدواها، أو عن انفصام رهيب في شخصياتنا إذ نتأرجح  بين أوضاع وحالات شتّى: انعزال نسبيّ أو شغف بالتقاليد إلى حدّ الهوس، وانفتاح قويّ مُشرع على العالم الغربي؛ أو سيادة التفكير العلمي العقلاني جنبا إلى جنب مع التفكير الغيبي الذي لا يزال يحتفظ بسطوته وفتنته. وعلى رواج مفردات الثقافة الحديثة في سائر فضاءاتنا، فإنّ المسجد لم تتهيّأ له بعد فرصة تعديل ساعته، والسير في اتجاه حديث لا يتعارض وقداسته أو ما نسمّيه «هويّة ثقافيّة». إنّ مجال «العيش معا» قائم على جملة مبادئ هي عهود ومواثيق، وفي عدم الإيفاء بها يتصرّم النسيج الاجتماعي لا شكّ.
وممّا يزيد هذا الإشكال حدّة الوضع العالمي المعقّد، وظهور الإسلاموفوبيا، وكلّ ما يشحذ في الشعور الجمعي رماد التناقض القديم بين الشرق والغرب من حيث هما عالمان منفصلان مختلفان متعارضان في السجايا والخصال والقيم الجوهريّة؛ ويذكي الحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى المسجد. والمسألة الثقافية في المسجد أعمق من أن تختزل في العبادات، أو في العلاقة بالدولة التي تقوم على رعاية المؤسّسات الدينيّة وصيانتها والإنفاق عليها، أو في «السياسي» بالمعنى الحزبي الضيق للكلمة فهذه أمور لها منابرها وفضاءاتها.
يمكن، من ثمّة، أن يلتبس أمر «الفضاء» بـ»المكان»؛ ويقع في الظنّ أنّ هذه دعوة لاستحداث صيغ وجود وصيغ معرفة غير مألوفة أو هي تتعارض والسنن والتقاليد. وقد لا تهدأ الأخلاط، فمنذ أن انبرى خطاب الحداثة بمفهومه المعرفي والأخلاقي الأشمل يثبّتُ مقولات مثل العقلانيّة والعَلمانيّة، وشتّى النظريات والمذاهب تسحب هذه المقولة على مضامينها ومنجزاتها، أو هي تعارضها وتدحضها. بيْد أنّه ليس من مقاصد هذا المقال فرز الأخلاط، وإنّما قصارى الأمر تدارك بعض ما نسيناه من «فضائيّة» المسجد، وما اضطلع به في مجال الثقافة أو العيش المشترك. بل لعلّه هو الذي نهض بتأسيس الثقافة الإسلاميّة بشتّى مفرداتها من علوم وآداب وفنون. ويكفي أن أحيل في السياق الذي أنا به إلى كلمة «مسجد» في دائرة المعارف الإسلاميّة؛ وما كتبه أحمد أمين في «ضحى الإسلام». وكان ذلك بواسطة العربيّة التي لا تزال تتردّد فيها أصداء التراث الثقافي الشرقي واليوناني والروماني. ولكنّ المسجد فقد كلّ هذا أو أكثره، وصار فضاء ثقافة تعيد إنتاج نفسها محاكاة ونسجا على منوال؛ وكأنّ وعي التاريخ وعي في التاريخ، وما إلى ذلك ممّا تأصّل منذ انقلاب المتوكّل على المعتزلة عام 232 هـ، وتحديدا مع ابن قتيبة داعية مذهب السنّة والجماعة المحافظ، على الصعيدين الأدبي والمعرفي، في هذا القرن الثالث (التاسع ميلادي). وفيه يقول ابن تيميّة: «كلّ بيت ليس فيه شيء من تصنيفه [ابن قتيبة] لا خير فيه». وليس أدلّ من هذا على سلطانه المعرفي المحافظ المبسوط على كثير ممّن جاؤوا بعده بقرون. وليس هذا مجال الخوض في تشدّد ابن قتيبة، وفي مطاعنه على الجاحظ المفكّر الساخر الذي يشبّهه ميتز بفولتير، والذي كان أدبه امتدادا لابن المقفّع، وتفاعلا خصبا مع ثقافة الآخر أي العالم القديم: الهند وفارس واليونان.
كلّنا يدرك أن الطابع الغالب على ما نسميه مجازا «روح العصر» هو البعد الثقافي. وليس أدلّ على ذلك من تغليب قيمة الاستعمال على قيمة التبادل، بما يمنح القرار الاقتصادي نفسه والقرار المجتمعي بشكل عامّ، مرجعيته الثقافيّة. وهو ما يقتضي تطوير المفاهيم الثقافية بحيث نتجنّب النظرة «الثقافوية» المبتورة التي تؤدي عادة إلى الخلط بين المكان والفضاء: واحد مندمج بشكل فاعل في العمل الثقافي الحضاري أو يكاد، وآخر منغلق هو المسجد هذا الذي دارت في رحابه سجالات العلماء والفلاسفة والكتّاب والشعراء؛ بل نشأت المذاهب جميعها، بل حدث فيه ما ينافي قداسته، على نحو ما ساقه جلال الدين السيوطي في سيرته «التحدّث بنعمة الله»؛ بما يذكّر بفضاء الكنيسة حديثا وقديما. فقد ساق دون أيّة مواربة، وصفا دقيقا للمكان وقد تحوّل إلى بيت «سيئ السمعة» يجتمع فيه خلق كثير «على أنواع من الفساد… ومنهم من يجلس على باب المسجد ينتظرون انتهاء النوبة لهم…».
على أنّنا نحبّ أن نشير في هذا السياق إلى ناحيتين: نشأة فنّ القص في المساجد، وسيرة الحكيم الفذّ ابن رشد. والأولى دارت في مناخ ثقافي كما يبيّن محمد أركون، كانت فيه مفردات المعيش واليومي والدنيوي عامة؛ من شعر وأدب وتاريخ ومغازي واقتصاد… في أهميّة مفردات الدين نفسها. وكان معاوية بن أبي سفيان أوّل من عيّن قاصّا رسميّا للدولة هو سليم بن عتر التجيبي؛ لما صار للقصّ من حظوة عند العامّة، وانتشاره بعد الفتنة الكبرى. وربّما سعت الدولتان الأمويّة والعبّاسيّة، بهذا «الأدب» إلى بناء أرثوذكسيّة دينيّة، وثقافة من شأنها أن تثبّت دعائم ملكهما، وتحافظ على وحدة السلطة السياسيّة. وكان مصطلح «الأدب» وقتها فضفاضا؛ فكلمة أدب التي نديرها اليوم على ألسنتنا بكثير من اليسر، لم يكن لها دائما هذا المعنى الاصطلاحي الإنشائي المبذول الذي يختصّ به صنف من الكتابة: الأدب الجميل أو الكتابة الرفيعة. إنّما كانت الكلمة تعني السلوك والأخلاق والتأديب.
وأمّا الثانية فهي مفارقة لا نخالها إلّا مثيرة، في تاريخ الفلسفة عندنا، عندما استحكم الخلاف بين الحكمة والشريعة في فضاء المسجد، أو عند الأوروبيين، عندما احتدم النزاع بين أنصار الرشديّة وخصومها واضطرت الكنيسة عام 1271م وعام1277م، إلى إصدار لائحة تدين الطروح الفلسفيّة «الرشديّة» التي تعارض العقيدة المسيحيّة أو تناقضها، أي تلك الحاصلة من تأويل ابن رشد وأتباعه من الفلاسفة المدرسيّين في الغرب اللاتيني، لفلسفة أرسطو. من كان يتصوّر أن ينهض ذلك المسلم المالكي بدور رائد، في فلسفة الغرب ومعتقداته الدينيّة خلال القرن الثالث عشر(م)، على نحو لم يكتب إلاّ لأرسطو؟
وهو ليس فيلسوفا فحسب وإنّما هو طبيب وقاض أيضا وعالم بالشعر والرياضيات والفلك، ولم يقدّم الفلسفة أو الحكمة على الشريعة، على قدر ما أحكم الصلة بينهما. وهو يعرف أنّ الأمر في كليهما، يتعلّق بحقيقة واحدة.
لا رأي مستوثق، ولا تصوّر متناضج حدّ الإفحام. وما أكثر ما تتشاكل المنظومات وتتجانس، لولا فسحة الـتأويل تسوّغ الاستئناس بمقولة التأصيل في هذه المنظومة، وتستنكر إقحامها في تلك. على أنّ مصطلح التأويل نفسه ذو سياق مضلّل مراوغ، وقد يكون قرين «التأصيل»، إذا نحن أخذنا بالاعتبار جذر كلّ منهما: (أ.و.ل) و(أ.ص.ل). وكلّ تفكير معقود على هذه المقولة، تميد من تحته المراجع ويضطرب التنظير. فالتأصيل لم ينقطع عن الوجود، ونحن نقصد به جملة المعاني التي «تبلورت» مفهوما لحظة الحداثة ـ وما أكثر الحداثات ولحظاتها ـ وإنّما نعني تخصيصا لحظة الحداثة الفلسفيّة، طالما أنّها هي التي استوعبت ـ في ما يتهيّأ لنا من قراءاتنا ـ قِران النقد والتأسيس، وعَقَدَتْ مهمّة هذا، مثلما عَـقَـدَتْ مهمّة ذاك على العقلانيّة دون سواها.
ليس شأننا إذن أن نبحث عن أصل، فمثل هذا البحث هو كما يقول صديقنا عبد السلام بن عبد العالي «لا يؤسّس، إنّه يربك ما ندركه ثابتا، ويحرّك ما نفترضه ساكنا، ويجزّئ ما نراه موحّدا، ويفكّك ما نعتبره متطابقا. تقصّي الأصول والحالة هذه هو التقويض الدائم لهويتنا، ذلك أنّ الهوية التي نسعى للحفاظ عليها وإخفائها تحت قناع، ليست هي ذاتها إلا محاكاة ساخرة: فالتعدّد يقطنها ونفوس عدّة تتنازع داخلها والمنظومات تتعارض فيها ويقهر بعضها البعض».
وعليه فإنّ إعادة الاعتبار إلى المسجد فضاء ثقافيّا بكلّ ما يعنيه هذا الفضاء من مكتبات حديثة تضمّ كلّ صنوف الآداب والعلوم والفنون، وليس مجرّد بيت للصلاة، ليس أكثر من تهيئة الحاضر أو «الحال» كما كان يسمّيه أسلافنا، للمستقبل؛ في مسعى أو سيرورة أو طريقة ما في إعداد مختلف الإمكانات القابلة للتحقّق، أي تلك التي تنهض على إحكامات وتراتيب وإصلاحات تجري في الزمن على نحو ما تجري مختلف مفارقات الوجود البشري. هو مشروع نبدأ في تحقيقه في الحاضر، لاختبار ما يمكن أن نفعله: هنا/الآن.
 وإذا كان البعيد زمانا يخدم القريب زمانا، ويمنحه أفقا ويضفي عليه معنى؛ فإنّ كلّ فعاليّة مستقبليّة تعني أنّ المستقبل ليس مكتوبا ولا هو نتاج القدر. إنّما هو صنيعنا نحن البشر مثلما هو صانعنا.
كاتب تونسي

ليست هناك تعليقات