ليلة ساخنة طاف المتظاهرون الغاضبون خلالها حول البنايات المحترقة، صاخبين ملثمين، نصف عراة. أوقِفُ اللقطةَ حتى صباح اليوم التالي، مع عشر...
ليلة ساخنة طاف المتظاهرون الغاضبون خلالها حول البنايات المحترقة، صاخبين ملثمين، نصف عراة. أوقِفُ اللقطةَ حتى صباح اليوم التالي، مع عشرات من لقطات الليلة الماضية. أعود في الصباح فأحرّك المشهد: الدخان ينعقد فوق البنايات الواطئة؛ رائحةُ احتراق تملأ الهواء.
مئة خطوة في مربع العشّار تُحسَب بمئة شظية تدخل الرأس. مفكرة الهاتف النقال تمتلئ بالملاحظات المتتابعة وتفيض عن حدّها على الحفظ، تقابلها ذاكرة تستعيد الصور وترتبها بالتوازي مع التقاط الشظايا على جانبي الممرات الداخنة. قائمتان متقابلتان تجهزان النصَّ الملولَب، رماديّ السحنة، بآلية التوازي والتقاطع. تتحرك الأقدام وتتصل الأفكار بتيار جامح، هو عزم الحركة في مربّع العشار الدافق نفسه.
القائمة على اليسار تتدرج بأحداث الأيام السبعة الماضية، توازيها قائمة بمحفوظات الأمس المرتبة على مدى العقود السبعة من حياة "العشّاري" المتجول دون هوادة. لا يقتضي سردُ المربّع الحياتي سوى الوصل بين السواكن والمتحركات كي تعمل ذاكرة النص آلياً وتقترب شواهد اليمين من كوامن اليسار، في القائمتين المتوازيتين. حركة لولبية متصلة على محور التجاور والتبادل.
أبدأ بسحب شظية من قائمة الملاحظات اليمنى (تمثال العامل ذي المطرقة أمام مئذنة الجامع بجانبه) فتتداعى القائمة الموازية بإجراء التقاطع المطلوب وتركّب المشهدَ المتحرك (النحات عبد الرضا بتّور يخطف بدراجته، على خلفية المشهد الملبّد بِسُحُب الدخان). تعوزني الرائحةُ والكلام المخزونان لهذه اللقطة، فتنجدني اللقاءاتُ السريعة على ضفة نهر ضحل، كان النحات يرتاده ويخوض في طحالبه بحثاً عن الديدان لحوض أسماكه البيتي.
أنتقلُ الى مفردة أخرى في قائمة اليمين (طحالب) فيتحرك النهر الأخضر في قائمة الشمال، ويجهزّني بوقتٍ للسباحة في ظهائر الصيف القائظة (صِبية عراة يتقاذفون أجسامَهم النحيلة من قمة جذع نخلةٍ شديد الميلان على الضفة المطيَّنة). أما مفردة (شصّ) فستجتذب مزيداً من الأسماك المشكوكة في خوصة اصطادها صبيانُ النهر قبل سباحتهم فيه (أدخلتُ لقطتها في قصة: إله المستنقعات، قبل أربعين عاما). التفرس في صفحة نهرٍ أخضر يبعث لي بسهمٍ يخترق الروح ويشطرها كقبلة سامّة.
ومن وراء حُجُب القائمتين المتوازيتين، يسقط شِهاب من مدار كبسولة رائد الفضاء السوفييتي يوري غاغارين، فيكشف نورُه عن أوّل نصّ سردي كتبتُه على حافة مسفن "الدوكيارد" في العشار، أمام هيكل سفينة جانحة. آنذاك أهديت قصتي القصيرة الى عمّال المسفن، واليوم أعلّق صورةَ السفينة المجهَّزة للتصليح على جدار غرفة الاستقبال؛ أما الوجوه العمالية المكدودة فسأستدعيها من قائمة التجهيزات التي جمعتها الليلة البارحة.
أبتعد عن الأفق الداخن بحرائق الليالي الماضية، وأحصي مدخراتي من الألفاظ المجهّزة (نعال، قبعة، لثام، لافتة كارتون، مصيادة مطاط، قنينة ماء خالية، سفرطاس ألمنيوم، ملاعق، أقداح ورقية، قطرات دماء، ضماد متسخ..). أتوغّل في المربّع الحيّ، يستردّ أحياءه المأخوذين بتيار الصخب والغضب والتوجس، يرتّبهم في أماكن أعمالهم المعتادة؛ كلّ في حانوته وكلّ وراء عربته أو بسطته في أركان السوق؛ ثم أنيخ بقائمتيّ على تخت مقهى في ركن العطارين، أحتسي قدح شاي معطَّر.
العطّار المتدرّب في القائمة اليمنى، إزاء العطّار المتمرّس في روائحه وتأملاته البعيدة في القائمة اليسرى؛ توازيات الحاضر إزاء تقاطعات الماضي في وعي العشاريّ المتجول؛ أخوة الكاووس وأخوة الناموس يشقّان الممرَّ الهادئ ويدخلان اللقطةَ الأخيرة يداً بيد، وخطوة بخطوة.
بعد أسبوع، من تلك الليالي الرعناء، يصعب الوثوق بهذا التوازي البارد بين قوائم العشار المتداولة تحت قاعدة التمثال - يحدس العطار المتمرس. فلأنّك - أيها العطار - قرأتَ في ضحى السقوط البعيد للتماثيل، قبل خمسة عشر عاما، في قائمة التقاطعات الحادة، أسماءَ من غابوا/ أعدِموا، وقد ألصِقت على القاعدة نفسها، فقد لا تتشبّث طويلاً بتوازيات الليالي الفائتة.
صباحاً، تتطاير الأوراق تحت سماء الخريف الداخنة، وسيأتي من يصبغ التمثال بلون ذهبي. لكن رائحة الاحتراق تملأ الهواء الرطب. هذا هو التقاطع الحقيقي الوحيد.
(جريدة بين نهرين)
٢٠١٨/٩/١٣
(تصوير أسامة الموسوي)
ليست هناك تعليقات