Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

محمد خضير... العشار (4)

 ________________________ 1. كاووس:  أقف بعد جولة في سوق "الكاووس" المحشورة بالأقدام والجيوب والأزرار، على بسطة بائعةِ خضار ...

 ________________________
1. كاووس: 

أقف بعد جولة في سوق "الكاووس" المحشورة بالأقدام والجيوب والأزرار، على بسطة بائعةِ خضار مقبَّعة بعباءة النصف الثاني من عمرها، وقد انتهتْ للتوّ من تقشير حفنةِ باقلاء انتزعتْها من أقماعها الخضر الطويلة. أسألُها أن تبيعني كومة الباقلاء المقشَّرة الى فلقتين صغيرتين، فتعتذر وتدّعي أنها استبقتْها من بقية الخضار لإطعام كنّاتها، المعتصمات في البيت، وقد لمزَت كلَّ واحدة منهنّ بلفظ غريب: "هذه لغداء جنايني (أي كنّاتي) المنتظرات عودتي. إنهنّ كووايس لا فائدة منهن".
عجبتُ لنطق بائعة الخضر للفظةِ المحرَّفة عن اليونانية المستعملة اليوم في وصف الفوضى (الكاووس (chaos التي تعمّ العالم، ويُفسَّر بموجبها قانون "رفرفة الفراشة" العشوائي. فأي حركة غير مقصودة في الجوار، مهما كان وزنها واتجاهها، قد تُحدِث دماراً هائلاً في نظام الحياة السائلة في مربع العشّار. أمّا كنّات بائعة الخضار، فإنّ أيّ فعل بسيط يأتينه في البيت الذي خلا من الأزواج، مهما كانت براءته، سيعني لها دماراً هائلاً، مهما تفادتْه وحسبتْ له ألف حساب. ولما أجابتني على رغبتي في شراء حفنة الباقلاء المقشَّرة، بلطف وابتسام، فقد هزّت طمأنينتي لِما بقي من النهار، عندما نقلتْ تأثيرَ كاووس الكنّات البعيدات الى كياني المتسائل قرب بسطتِها. 
درتُ دورة كاملة خلال الجموع المزرّرة الجيوب، ثم عدتُ لبائعة الخضار، فاستقبلتني بوجه باسم: 
_ "إن كانت لك رغبة بهذه الكومة من الباقلاء فسأبيعها لك بلا أسف".
_ "وكنّاتك؟".
_ "سأتبع حدسي وأتركهنّ نائمات حتى الظهيرة".
_ "ولن يأكل أبناؤك حين يعودون طعاماً".
_ "فليأكلوا كما الخرفان". 
_ "وستدافعين عنهن لو عنّفهن الأزواج".
_ "بل سأدعهم يتشاجرون بينما أسلم رأسي للمخدة وأنام".
_ "بحقك أيتها العجوز! أتقولين إن بيتك ساحة سيرك؟".
_ "كاووس أيها الأفندي.. كاووس وحسب. التفتْ حولك فقط وسترى".
حسمت البائعة المقبّعة الجدال، وجمعت كومة الباقلاء المقشورة وعبأتها في كيس بلاستيكي أسود ورمته نحوي. كانت الرؤوس تتلاطم وتبحث عن مخرج لها بين الرفرفات العشوائية لمربع السوق، وسرعان ما ابتلعت الموجةُ السائلة كتيار كهربائي بائعة الخضار في كاووسها. 
____________________________________ 
2. طفلة النهار
اعتاد الرجل الريفيّ الجلوس على أريكة المقهى المقابل للنُزُل العائلي المسمّى باسم امرأة مقدسة، ونظره يراوغ بين الواجهة الكالحة للنُزل وبوابته الواطئة المنفرجة كفمٍ متسخ. وعلى ذكر الأفواه، فالأريكة الوحيدة في المقهى تسدّ فوهة الدربونة- الدهليز، مصفوفةً للجدار، بينما تنعطف الدربونة وراء الضلع البارز للنُزل، وتنقطع النظرة عند ذلك الحدّ الآجري. تشاغلَ الرجل بعباءته المكورة بين فخذيه، ليصرف نظر القهوجي في جوف المقهى الملاصق للنُزل عن هيأته المريبة.
لِمَ العجلة؛ لتركد الدربونة الخالية تحت مستوى نظرته، واطئةً، مهملةً، فاسدة. لم يشاهد الرجل من قبل مثل هذا السمت الواطئ، تحت سماء غير مرئية: اوطأ جدار وشرفة ونافذة وباب وجارور ومنضدة؛ أخفى عالمٍ يحتجز زهرةً منفرطة. العالم بحذافيره تحت نعليه، حبّة سكّر التمَّ عليها الذباب!
استجمع الرجل الغريب نظرته لكي تنطلق ثانية عبر زجاج نظارته المغبر، شاردة قبل أن تحطّ على ماء الجارور. لا يجلس في فم هذا الدهليز المنعطف إلا ذو علاقة بصنف من ساكنات النزل: متسولات السوق الصغيرات، عاملات رقائق الخبز، الطباخات؛ ثم نضيف الى هؤلاء النزلاء الوافدَ المراقِب، يستتبع أثر ابنته الهاربة؛ وأيَّ وسيط آخر محشورٍ في خزانة قصّاصي الأثر العشّاريين.
كأنما أيقظته هواوينُ برونزية من شروده، أرسلَ الرجل الريفي للقهوجيّ ملاحظةً ثقيلة الوطأ: "لم أذق شاياً بهذا الطعم المرّ". ردّ القهوجي المتوتر: "سقيتكَ قدحاً من رأس القوري. أنت أفضل زبائني".
تغافل الريفيّ عن لهجة القهوجيّ، فتقدم خطوات، ورفع نصف القدح عن المنضدة ثم أفرغه في الجارور: "الشاي هناك.. شاي القصب. بمن أسميك..؟". 
نبرَ الريفيُّ برخاوة: "أبو سراب".
_ "أين بتّ البارحة؟ أستطيع أن أحجز لك غرفة خاصة في هذا النزل".
رفض الريفي العرض بطقّة خفيفة من شفتيه: "فندق حقير. معارفي كُثر هنا. لكني أسأل نفسي كيف وصلت المقموعة الى هذا المكان؟"
_ "سراب؟".
هز رأسه المطوَّق بعقال صغير: "أرسلتْ خالتها طارشاً يُعلمنا بهربها من بيتها".
_ "أهي في سنّ تمكنها من التسكع؟".
_ "سرّحتها الخالةُ اللعينة في السوق".
_ "هل تثبتَّ من وجودها في النزل؟".
التمعت حدقتاه خلف زجاج النظارة البلاستيكي، وقذف بلعنته: "سأخنقها كما أخنق فأرة".
_ "إنهن يغيّرنّ أسماءهن. طفلات النهار".
وعلى ذكر الفئران، تابع الرجل المتعقِّب دويبةً رمادية خرجت من ثقب في جدار النُزل، واندسّت في جوف المقهى الملاصق؛ لكنه لم يلاحظ خروج مخلوق بشري غيرها من البوابة المفتوحة، اليوم وقبل هذا اليوم.
_ "سأحملّك أمانة سراب. إن لاحظتَ من يشبهها فردّها إليّ".
_ "وهل تتسرّح ابنتك بِسِمةٍ معروفة؟".
_ "بيضاء موشومة بثلاث نجوم في جبهتها".
_ "علامة لا يخطئها مثلي".
_ "جِدها لي".
سيغيب الرجل الريفي ساعةً يتناول خلالها غداءه، ويقفل القهوجيّ راجعاً الى كهفه، يتناول هاتفه النقال من الرفّ ويتصفّح وجوه طفلات النهار المحفوظة في ذاكرة الصور؛ عشرات الوجوه النحيلة المتشابهة، المصنّفة فئات مسرَّحة في السوق وأخرى محتجزة في النُزل، وكلّها موشوم بعلامة النجوم الثلاث.

(جريدة بين نهرين 30/8/2018)

ليست هناك تعليقات