______________ "تنويه: أولدت الأحياءُ الكبيرة للمدن عشرات القصص تستغرق روايتها عشرات السنين، كحيّ "العشّار" بالبصرة، ال...
______________
"تنويه: أولدت الأحياءُ الكبيرة للمدن عشرات القصص تستغرق روايتها عشرات السنين، كحيّ "العشّار" بالبصرة، المنصَّف بنهر متفرع من شط العرب الكبير، كانت تُستوفى في زاوية مصدره ضريبةُ "العُشر" الجمركية، خلال العهد العثماني. لا تتعدى مساحة هذا المركز التجاري ميلاً مربعاً واحداً، لكن الدوران حوله مقرون بعدد القصص المروية عن حياة ساكنيه وعامليه المحسوبة بحوادث غير مسجلة في ديوان ولا تنتسب حكايتها لراوٍ بعينه. تتداول الألسنة حكايات شفاهية خفيفة بوزن طاقية رأس، أو ثقيلة بوزن كيلة قمح في قبّان ضريبة العُشر؛ وكل راوٍ يطارد لقطة عابرة من جريان النهر البشري المجاور للنهر الطبيعي، يستخلص منها متعة للنظر ونغمة للصوت ونشقة من رائحة إنسان.
سأروي تباعاً عن عربة بائع الشاي، وخيمة الإسكافي، وزاوية بائع الخواتم، ودكان العطار، وبائع التمور، وناشر العطور، ومصرّف العملة، واستوديو التصوير، ومطعم الفلافل، ومقهى البنائين، ومسطَر الأجراء، وساقي السبيل.. ولي في كل قصة مذهب ورفقة ومغزى.
خمسون قطعة/ قصة مساوية لنصف قرن مضى، أو سبعون بعمر راويها، أو مئة في سجل الأحياء المعمّرين، هو العدد المطلوب لتخليد أحياء المربّع الشعبي، في عصر ما عاد يأبه للأرقام أو لمرور السفن في الأنهار. ما يبقى من الحكاية أثر ممهور على جبهةٍ لا تكفّ عن ملامسة الشمس والرياح الساخنة".
______________________________
1. ديك البجاري
يزِنُ هذا الديك ثلاثة كيلو غرامات. هنا هو المخلوقُ الوحيد الحيّ بين أشياء بائع الخردوات بزقاق من محلة "البجاري" بالعشار. سيأخذ محترِفُ الرهانات هذا الديك "الهراتي" مساءً الى الحلبة كي يُثبت نسَبَه إلى أمّه، قبل أن ينتهي أجله في أحد النزالات.
خلال الأجواء المعتمة للعام 1991، كانت حلبة صراع الديكة واحدة من تخطيطات "كراسة كانون". آنذاك تضافرت كوميديات أرستوفان مع كرافيك غويا لتهيئة حلَبة "المهارَشة" المنزوية في سوق الطيور بالبصرة القديمة. استقبلت الحلبة ديكَ سقراط القادم من أطلال المدن المخربة، مع حفنة من طيور "العقل النائم" في ظلّ سقائف السوق المتداعية.
لندع الخيالَ وألعابه حُرّين في ارتجال حوار طريف بعد دورات من ألعاب المستقبل الغامض. لنفترض مثل هذا الحوار بين ديك ضابطٍ إنكليزي وفَدَ مع طلائع الجيش الغازي في 2003، وديك البجاري الموزون بثلاثة من كيلوات السخط والخيلاء، كما قد يرسمه غويا على الحجر استيحاءً من أرستوفان:
ــــ "يا صاحبي. من أيّ قنّ أتيت تُرى؟"
ـــ "قن؟ آه كلا. كنت طليقا في مزرعة. الحشرات والدود مُلك منقاري. والغناء. أجل أسمع جوقة العنادل فوق رأسي تغني كل صباح وترسل التسبيحات الى عنان السماء".
ـــ "أشكّ في ما تقول أيها المتفاخر، المنتوف. فمنقارك لم يذُق غير الطعام المجفف".
ـــ "أتهينني أيها النوّام بين الأنقاض؟ اسمع إذن قصتي. كنت مستشاراً في البلاط، قبل أن يحملني مدرّبي إلى بلادكم".
_" قصتي تختلف قليلاً. كنت سيداً في زريبة الرئيس. لكني فقدتُ رُتبتي حين أشرتُ على سيدي بغزو جيراننا الهداهد. كما تعلم لقد خسرنا الحرب. وعُدنا خائبين ننبش في المزابل.. ولا أحسب أمّك إلا من تلّ الرَّوث الذي جذبت رائحتُه أبي".
ـــ "أيها الروثانيّ الحقير، دعنا لا نتفاخر بالتيجان التي تعلو رؤوسنا. فهي ليست إلا شعارات مخضَّبة ستتطاير بعد حين. انظُر، فقد حضر كورسَ المباراة جنودُنا وجنودكم. هيا استعد، فسيراهنُ كلّ منهم على صولجانينا".
ارتفع ضجيج الكورس المتراهن على رأسي الدِّيكين، حين صرعَ ديكُ العشّار ديكَ الإنكليزي، وانتصب على جثته، وانبرى شاعرُ الكورس الملتف حول الحلبة ليلقي بالحكمة المنتظرة على أصحابه: "تصوّروا فقط، أيها النظارة الأعزاء، أنّ لكلّ منكم زوجاً من الأجنحة، إذن لا تحتاجون، إن اعتراكم التعب والجوع، إلى البقاء في كورس تراجيدي، بل تسرعون خفافاً، إذا سئمتم، إلى نشر أجنحتكم وتطيرون". كانت هذه خطبة طائر الوقواق أرسله أرستوفان مع بضعة طيور ليشهد المباراة.
بعدئذ ستنفضّ حلبةُ المهارَشة، وتعود روح الديك الإنكليزي الى قنّها، ويُحمَل ديكُ البجاري، شبه ميت، الى مكانه في دكان الخردوات، وليس في دَور أحدهما ما يدلّ على غير الحماقة الرجولية (عكس نسبهما الأمومي) في إنشاء علامات المستقبل: الرياح، الغبار، المتاريس، المجازر، القيود، النصوص الراديكالية.
_________________________________
2. حارة السكاكيني
في جانب من سوق الأحجار، كان سمييّ البائع ينتظر موعدَ لقائي الأسبوعي به. فلدينا ما نتبادله ونتهاداه ونخبئه، هو في صَحفة نحاسية، وأنا في بطانة سترتي وجيوبها الداخلية. والحجر كريمٌ يبرق بأصله ويتباهى، وأنا أمدّده بسحر حروفي وكتابتي، وأعينه على النطق بما علّمني إياه حرفيّو الصَّنعة من أسماء وأجفار. أقلّبه في قبضتي فتسري حرارة السرّ الى جسدي. ارتفعُ سنتمترات عن الأرض. ولا يلحظ أهل السوق السائرون هذا الارتفاع. فهم كذلك يرتفعون دون أن يدروا، ساعين الى هدف مخبأ في بطانة أيامهم.
في نهاية النهار، رافقتُ بائع الأحجار إلى داره، خلف ضريح الوليّ عز الدين، الواقع في حارة السكاكين - ولا تسَل عن سر تسميتها بهذا الاسم قبل هذا الوقت - وشققنا طريقنا على ما تبقى من رائحة المصارين وأحشاء السمك والبَعَر والصوف وأشياء لا حصر لنفايتها، ثم ولجنا زقاقاً هو أضيق من عنق إبريق السيد السكاكيني، زعيم أسرة الحارة التي أتى منها سميّي بائعُ الأحجار. طرق محمد باباً واطئاً في نقرة جدار أدرد، فانفتح رتاجه الداخلي بخيط يتدلّى من قلب الدار، وسحبني من يدي إلى مسرحه ومرتعه الوثير بأنواع من السجاد والمصنوعات البرونزية والأحجار المصنّفة في خزانة.
سألته إن كانت الاحجار تأذنُ لي بالاطلاع على الأسرار المخبوءة لنا. أجاب بأن للأحجار أبوابًا ستدخل واحداً منها. قد تفسر وجودك هنا بالحظّ والمصادفة، لكني أؤكد لك إنه الحتم الذي يقود الآخرين من أمثالك الى مصيرهم من ناحية أخرى. فلكلّ حجرُه المرصود باسمه.
دلفنا معاً إلى غرفة الجدّ السكاكيني، وكانت تحتوي في صدرها على السرّ الحجري الأكبر: مطبعة الكتب على لوح محبَّر، تحيطها رفوف حروف الرصاص وماكيتات الزنك المحفورة. قال إنها المطبعة التي سرّبت للسوق أغلبَ كتب السحر والطلاسم الحجرية. ولكي يُصدِق ظنّي ويُشبِع فضولي أخرج من سَفط تحت منضدة المطبعة أوراقاً متفرقة، أخذ بخرزها وتخييطها وتصميغها، حتى اكتملت كتاباً. ناولني الكتاب وقال: "لا ينقص الكتاب إلا الاسم التسلسلي المعتاد: محمد السكاكيني. إنه تسلسلك الذي جئتَ من أجله اليوم. فافعل به ما تشاء واستعمله في قلب الأمور فوق تحت".
ليست هناك تعليقات