Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

محمد خضير... صانع المفاتيح

لا قيمة لشيء مستنسخ، مفتاحاً كان أم صورة من ماض غارب؛ غير أنّ محترفي فكّ الأقفال يتباهون بحرفتهم التي ورثوها عن أرباب الصناعات الدقيقة و...


لا قيمة لشيء مستنسخ، مفتاحاً كان أم صورة من ماض غارب؛ غير أنّ محترفي فكّ الأقفال يتباهون بحرفتهم التي ورثوها عن أرباب الصناعات الدقيقة ومشاغل الخيميائيين المستترين وراء جدران سميكة، ومواقد مشتعلة. أزعم هذا بالرغم من معرفتي عدداً منهم لبّوا رغبتي في المقارنة بين مغاليق الأبواب الأثرية وشفرات الكتب المؤلفة في أزمنة الحظر والحصار. أحمل كتابي المغلق إلى واحدٍ أخصُّه بسرّي وأنقر بقبضتي على غلاف الكتاب، فيما صانع المفاتيح منعكف بنظارتيه على المفتاح الذي يبرُدُه باهتمام شديد. 

كان صاحبي فناناً، يختلف عن الآخرين باعتكافه على صنعته في منزله، الذي ورثه عن جدّه، الأسبق في المهنة. أسأله عن كثرة الصنّاع في أسواق العشار ودرجة احترافهم، فيقول: "أغلبهم من الهواة الذين يستعينون بآلات ميكانيكية حديثة على صناعتهم، مزيفون ليس إلا" ثم يرفع بصره نحوي "لكنهم لازمون للسوق بعد أن أثقلت الأسرار سكّان المدينة. أتلاحظ شبكات المفاتيح المعلقة في أحزمتهم تشدّهم للأرض؟"

- "كتل مبهمة، لا أميز سرّ امتلاكهم للمفاتيح"
-"انت واهم. هذا عصر الشكّ الكبير"
- "لكنه عصر سيبرانيّ لا يعبأ بالملكيات الثابتة"
- "لا مكان لحفظ سرّ ما. كلّنا مقفَل على شيء وحيد لا يريد إشاعته. وهذا ما لا يدركه الصّناع المزيفون. يستنسخون المفاتيح جهلاً بحقيقة السرّ"
- "اتحتفظ بمفتاح لنفسك؟ ما نوع هذا الشيء الثمين، الوحيد من نوعه؟"
- "أنا المفتاح الأكبر. أقول هذا لأني أؤمن بالسرّ الأعظم"
- "أليس هذا سرّاً مشاعاً؟"
-"نعم. هو كذلك. لكن لا أحد يعتقد بذلك. صنّاع المفاتيح لا يعترفون بوجود مفتاح واحد لكلّ الأقفال لا يمكن استنساخه، فهم يخدعون زبائنهم الذين تعذبهم ملكياتهم التافهة بكثرة المفاتيح".
لا يزور فنانَ المفاتيح زبونٌ يعترف بملكيته المشاعة. الخوف والإستئثار يلبيان غرور صنّاع المفاتيح المتكاثرين حول بيته؛ إذ كلما تعددت المفاتيح زادت مجهوليةُ السرّ الأعظم. إنهم وزبائنهم أحرار فعلاً، بينما الفنان المعتكف على مفتاحه يزداد غوصاً في لجة الشكّ العظيم، بالرغم من شيوعه. يقودني هذا الاستنتاج الى الالتفاف حول عقدتي المستحكمة في ضمير الأغلبية لأفتحها. وما دمت لا أعرف كُنه المفتاح المناسب، فسأتخبط كثيراً قبل أن أشارك صاحبي -فنان المفاتيح- سرَّه الأعظم.

ألتفتُ الى عقدتي، فأختار منها مفتاحاً أنفذُ به الى عمق التاريخ الشخصي لبيت المفاتيح وصاحبه. أستدلّ من عدد المفاتيح المعلقة على جدران الإيوان الأمامي لبيت الجدّ الموروث، وأشكالها الغريبة، على الهوية الغامضة- المشاعة لسيّد المفاتيح. كان جدّه قد جُنّ قبل أن يلقي بجسده في بئرٍ تتوسط البيت، إملاقاً وإدقاعاً؛ وليت الفقر والهجران وحدهما قتلا الأب أيضاً. فسِرُّ الصناعة لا تتيح إلا تخمينات تغطي المفاتيح بصدئها، يعكف الابنُ الوارث على جَلْوِها وإشاعتها بدأب مهلِك، لظنّه مصيراً آخر غير معروف للآخرين الهواة والمحترفين. فما لا يدركه زبون، أنّ المفتاح الأكبر سيخفّ وزناً، لكنه سيثقل شكاً وارتياباً، وتلتفّ سلسلتُه حول كاحل فنان المفاتيح، فيما يتوجه حثيثاً نحو بئر الدار.
أعود، بعد انقطاع، الى بيت المفاتيح، فألفي الباب مقفلاً، وليس غيري مَن يخمّن نهاية الثيمة المعقدة لحياة صاحبي الفنان. أستعينُ بصنّاع السوق لنحت نسخة مفتاح، أفضي بها الى مغارة صانع المفاتيح؛ ببديهة لصّ احترفَ الارتياب بالملكيات المحجورة؛ فيعجزون ويرهبون: لن تجد من يفتح الباب -أيها الصديق المرتاب بمفتاح السرّ الأعظم. سنغرق كلُّنا لو حاولنا استنساخ مفتاحٍ لا يُستنسَخ واحدٌ مثله، بيدٍ أو بآلة ميكانيكية.

(جريدة: بين نهرين)
٢٠١٨/٨/٩

ليست هناك تعليقات