شاكر الأنباري * ولم يصل إلينا من كتاباته سوى عدد ضئيل من الروايات، والقصص، ترجمت إلى العربية بترجمات متعجلة، ركيكة بعض الأحيان. الكاتب...
شاكر الأنباري *
ولم يصل إلينا من كتاباته سوى عدد ضئيل من الروايات، والقصص، ترجمت إلى العربية بترجمات متعجلة، ركيكة بعض الأحيان. الكاتب الحائز على جائزة نوبل العام 2001 هو وريث حضارات، وثقافات مختلفة، فعائلته هندوسية من الهند، هاجر جده إلى ترينيداد، وكانت مستعمرة بريطانية تقع في قارة أميركا اللاتينية واشتغل هناك قاطع قصب سكر، فيما أصبح أبوه صحافيا من الدرجة الثانية، بينما هاجر نايبول إلى بريطانيا ودرس في جامعة أكسفورد، وكتب مؤلفاته التي تزيد على الثلاثين، بين الرواية والقصة والبحث، باللغة الانكليزية.
عاش متنقلا بين أفريقيا، والهند، وأميركا، وبريطانيا، ومصر، ثم كتب عن كل ذلك الموروث الحضاري، والثقافي، عبر شخصيات بينها المسلم الهندي، والأفريقي من الساحل الشرقي، والأنكليزي، والأميركي، والترينيدادي، والعربي. ولذلك جاءت رواياته، حسب توصيف اللجنة المانحة لجائزة نوبل، تنويعا حكائيا بروح شعرية عميقة لحقبة الإستعمار، وتفاعلاتها في روح الشخصيات. أبرز ما ترسمه أحداثها، وشخصياتها، وبيئتها، هي معاناة الاغتراب، وفقدان الجذور المجتمعية، والفولكلورية، وصعوبة ذلك على الصعيد الانساني. جاءت مقاربات نايبول للشخوص في رواياته حاملة ذلك التوتر الحضاري، والديني، والسلوكي، مع غياب الطريق الواضح للخلاص. فالاستلاب البشري شامل، يمكن تلمسه وعرضه عبر اللغة لكن يستحيل الخلاص منه. إنه سمة عصر وتطور صناعي وتقني منفلت ولا يمكن إيقافه. لم يكن نايبول يهتم كثيرا بحبكة رواياته، أو ترابط موضوعاتها، بقدر ما عني بإيصال روح الحدث، ومشاعر البشر الذين فقدوا أوطانهم، أو وجدوا صعوبة في التأقلم مع بيئات الهجرة الجديدة. ولهذا، كثيرا ما وجد قارؤه حوارات طويلة، هدف منها الكاتب الوصول إلى جوهر معاناة المتحدث، وهمومه. حوارات ربما نجد حدوثها على صعيد الواقع شبه متعذر، خاصة وهي تلخص رؤية فلسفية، أو ثقافية، حول التخلف والتقدم، الهجرة والتوطن، المواطن الأصيل والمواطن المغترب. ومن ملامح سرد نايبول أيضا تلك الانتقالات السريعة، والمفاجئة، بين الأمكنة. يكون الحاضر في قارة أوروبا، ثم ينتقل الشخص عبر ذاكرته، وتداعياته الذاتية، إلى أفريقيا، أو إلى مدينة هندية بعيدة، وهذه واحدة من أهم مفارقات الكتابة لدى نايبول. وهي مفارقة راح يشهدها العالم اليوم بعد الموجات المليونية للمهجرين، والنازحين، والمغتربين. تصاعدت في العقد الأخير لتكون واحدة من فضائح حضارتنا المعاصرة، دون أن يستطيع أحد الحد منها أو ايقافها، فضلا عن أنها في تنام مهول، نتيجة حروب الجشع، والهيمنة، والتطرف. ومثلما يتحرر نايبول من عقدة المكان وأسواره، فهو يفعل الشيء نفسه مع زمان أحداثه، فتراه ينتقل بين الحاضر والماضي، أو يتوغل في الأزمنة المتوازية ليخلق من كل ذلك سمفونية من الشخصيات، والأمكنة، والحوارات، والمدن، والبلدان، في سعي هادف، ومبرمج، لرصد وإمساك روح العصر وإيقاعه المنفرط خارج أسوار المحلية، بأغلاقها الدينية، والمذهبية، والتقاليد المهيمنة، والثقافات الموروثة التي لم تعد تصلح لهذه البرهة من التاريخ. كل تلك الانطباعات، وغيرها، يقع عليها قارئ نايبول في رواياته: شارع ميجيل، وفي منعطف النهر، ونصف حياة، واخبرني من أقتل، وسواها من الكتب. نثر نايبول هو سمة عصرنا المأساوية، السابحة في الفوضى، القاسية، المشتتة، المهيمنة اليوم بالكامل على الفضاء الملوث لكرتنا الأرضية.
(*) كاتب وروائي عراقي
عن الفايسبوك
ولم يصل إلينا من كتاباته سوى عدد ضئيل من الروايات، والقصص، ترجمت إلى العربية بترجمات متعجلة، ركيكة بعض الأحيان. الكاتب الحائز على جائزة نوبل العام 2001 هو وريث حضارات، وثقافات مختلفة، فعائلته هندوسية من الهند، هاجر جده إلى ترينيداد، وكانت مستعمرة بريطانية تقع في قارة أميركا اللاتينية واشتغل هناك قاطع قصب سكر، فيما أصبح أبوه صحافيا من الدرجة الثانية، بينما هاجر نايبول إلى بريطانيا ودرس في جامعة أكسفورد، وكتب مؤلفاته التي تزيد على الثلاثين، بين الرواية والقصة والبحث، باللغة الانكليزية.
عاش متنقلا بين أفريقيا، والهند، وأميركا، وبريطانيا، ومصر، ثم كتب عن كل ذلك الموروث الحضاري، والثقافي، عبر شخصيات بينها المسلم الهندي، والأفريقي من الساحل الشرقي، والأنكليزي، والأميركي، والترينيدادي، والعربي. ولذلك جاءت رواياته، حسب توصيف اللجنة المانحة لجائزة نوبل، تنويعا حكائيا بروح شعرية عميقة لحقبة الإستعمار، وتفاعلاتها في روح الشخصيات. أبرز ما ترسمه أحداثها، وشخصياتها، وبيئتها، هي معاناة الاغتراب، وفقدان الجذور المجتمعية، والفولكلورية، وصعوبة ذلك على الصعيد الانساني. جاءت مقاربات نايبول للشخوص في رواياته حاملة ذلك التوتر الحضاري، والديني، والسلوكي، مع غياب الطريق الواضح للخلاص. فالاستلاب البشري شامل، يمكن تلمسه وعرضه عبر اللغة لكن يستحيل الخلاص منه. إنه سمة عصر وتطور صناعي وتقني منفلت ولا يمكن إيقافه. لم يكن نايبول يهتم كثيرا بحبكة رواياته، أو ترابط موضوعاتها، بقدر ما عني بإيصال روح الحدث، ومشاعر البشر الذين فقدوا أوطانهم، أو وجدوا صعوبة في التأقلم مع بيئات الهجرة الجديدة. ولهذا، كثيرا ما وجد قارؤه حوارات طويلة، هدف منها الكاتب الوصول إلى جوهر معاناة المتحدث، وهمومه. حوارات ربما نجد حدوثها على صعيد الواقع شبه متعذر، خاصة وهي تلخص رؤية فلسفية، أو ثقافية، حول التخلف والتقدم، الهجرة والتوطن، المواطن الأصيل والمواطن المغترب. ومن ملامح سرد نايبول أيضا تلك الانتقالات السريعة، والمفاجئة، بين الأمكنة. يكون الحاضر في قارة أوروبا، ثم ينتقل الشخص عبر ذاكرته، وتداعياته الذاتية، إلى أفريقيا، أو إلى مدينة هندية بعيدة، وهذه واحدة من أهم مفارقات الكتابة لدى نايبول. وهي مفارقة راح يشهدها العالم اليوم بعد الموجات المليونية للمهجرين، والنازحين، والمغتربين. تصاعدت في العقد الأخير لتكون واحدة من فضائح حضارتنا المعاصرة، دون أن يستطيع أحد الحد منها أو ايقافها، فضلا عن أنها في تنام مهول، نتيجة حروب الجشع، والهيمنة، والتطرف. ومثلما يتحرر نايبول من عقدة المكان وأسواره، فهو يفعل الشيء نفسه مع زمان أحداثه، فتراه ينتقل بين الحاضر والماضي، أو يتوغل في الأزمنة المتوازية ليخلق من كل ذلك سمفونية من الشخصيات، والأمكنة، والحوارات، والمدن، والبلدان، في سعي هادف، ومبرمج، لرصد وإمساك روح العصر وإيقاعه المنفرط خارج أسوار المحلية، بأغلاقها الدينية، والمذهبية، والتقاليد المهيمنة، والثقافات الموروثة التي لم تعد تصلح لهذه البرهة من التاريخ. كل تلك الانطباعات، وغيرها، يقع عليها قارئ نايبول في رواياته: شارع ميجيل، وفي منعطف النهر، ونصف حياة، واخبرني من أقتل، وسواها من الكتب. نثر نايبول هو سمة عصرنا المأساوية، السابحة في الفوضى، القاسية، المشتتة، المهيمنة اليوم بالكامل على الفضاء الملوث لكرتنا الأرضية.
(*) كاتب وروائي عراقي
عن الفايسبوك
ليست هناك تعليقات