حوار مع "الشاعر المؤجل" الذي مدح الارهاب وصار "مناضلاً سابقاً" - الرومي

Breaking

Home Top Ad

Responsive Ads Here

Post Top Ad

Responsive Ads Here

الجمعة، 10 أغسطس 2018

حوار مع "الشاعر المؤجل" الذي مدح الارهاب وصار "مناضلاً سابقاً"

من أرشيف حسين بن حمزة


عباس بيضون: بعد قراءة إليوت وبيرس كيف تكتب مثل الجواهري؟ 


حسين بن حمزة | منذ 25 فبراير 2002(مجلة الوسط المحتجبة)
الحوار مع عباس بيضون لا يمكن أن يكون حواراً تقليدياً. فكلامه يأتي متصلاً ومتدفقاً. وتبدو الأسئلة بهذا المعنى جزءاً من الحديث، الذي يروي فيه الشاعر اللبناني، بعضاً من حياته وسيرته وتجربته الابداعيّة. وهذا الوضوح لا يبعده كثيراً عن قصيدته المتكتمة والجزئية، ونبرتها المصنوعة من بُرادة الكلمات لا من أفكارها. في كلامه، كما في قصيدته، يتداخل الشغف بالمعنى والسيولة اللغويّة بفرادة الإفصاح عن الذات. كل هذا ليس بعيداً عن وصف مسيرة عباس بيضون الشعرية. فهذا الشاعر الذي يُعدّ بحسب الكثيرين واحداً من أهم شعراء الجيل الثاني في القصيدة العربية الحديثة، كتب كثيراً في بداياته ولم ينشر. كان يفتش عن بيانه الشخصي، ولم يصدر مجموعته الشعرية الأولى "الوقت بجرعات كبيرة" "دار الفارابي"، 1982، وهو في السابعة والثلاثين.

لنتحدث في البداية عن طفولتك ونشأتك، ماذا تتذكر من تأثيراتها؟

- ولدت في قرية كان أبي مدرساً فيها. هذه القرية غادرتها وأنا في التاسعة ولم أعد اليها الا وأنا في الرابعة والثلاثين، لكن مغادرتها كانت جرحاً فعلياً وبقيت بعد مغادرتها أحلم بها. أبي كان رجلاً عصامياً هاجر الى أفريقيا في الرابعة عشرة، وهناك في السنغال لم ينجح في تجارته ولم يكن مهيأً لها. لكنه، وهذا الغريب، غدا أديباً اذ تعلم على يد الموريتانيين النحو واللغة والأدب، وعاد من أفريقيا بألف ليرة صرفها على استشفائه لأنه عاد مريضاً وفي حالة انهيار عصبي. وعمل مدرساً رسمياً، إذ كان من الممكن يومذاك ان يعمل المرء مدرساً من دون شهادة. أمي كانت ابنة رجل دين، كانت ذات بديهة سريعة، والأرجح انها كانت ذات ميل للتسلط وقدر لا بأس به من الوسواس. لم أشعر بتعاسة حقيقية، الا انني فعلاً قضيت طفولة شبه وحيدة. الأرجح انني استشعرت ذلك عندما انتقلنا من القرية الى صور. في صور كان هناك الرعب. هناك تجلّت حساسيتي وخوفي من المحيط، وأذكر انني كنت خائفاً من ان تُكتشف لهجتي الريفية التي تميل بالألف، وأذكر انني لفرط رعبي استطعت في مدى ساعات ان أتخلّى عن هذه الإمالة وخصوصاً في اسمي. كانوا ينادونني عبيّس مثلاً، ولم يلاحظ أحد في المدرسة لهجتي. وفي المدرسة كان يزيد في رعبي المعاملة التي يتلقاها الريفيون وتتلقاها ضمناً لهجتهم، كانت مغادرة القرية جرحاً، ورضَّة حقيقية نفسية أطاحت بتوازني بحيث انني رسبت في العام نفسه، أنا المتفوق في كل شيء.

< إلى ماذا تعيد صعوبات التكيف ومتى انتهت؟

- لا أريد أن أفكر الآن لماذا كنت كذلك، في الواقع ولدت كذلك ببساطة. كانت الصعوبة في التكيف ملتبسة للغاية. ففي مقابلها كان هناك الغنى الداخلي والقراءة والتفكير الخاص، وكان هذا بمثابة أفضلية على الآخرين. في الصف مثلاً لم يكن لدي أصدقاء، كنت أعيش دائماً على الهامش، بمشاعر وأفكار أنضج من غيري، بحيث انني كنت في العاشرة أُغرم بفتيات وهذا كان يمنعني من الحديث معهن ببساطة وعفوية. كنت مثلاً في تلك الفترة مستعداً لأن أتحدث بفصحى صافية، وأن أخطب بها. والغريب أن أبي، وبناءً على إلحاح أمي، كان يصطحبني الى مجالس أصدقائه. وكان هؤلاء الأصدقاء يمتحنونني غالباً، فيطلبون مني ان أخطب مثلاً، وأن أرتجل وكان هذا يشعرني بالتفوق ويعطيني جرأة مخيفة على الكبار. إذاً لم تكن صعوبة تكيف فقط. فمعها كان هناك شعور بالتفوق لازمني الى الآن، وفي الحقيقة انه بدأ يتخلى عني منذ فترة. ولكني، في ثلاثيناتي، كنت أملك هذه الثقة التي خدمتني كثيراً والتي أتبين الآن كم كانت خرافية، كما ساعدتني من دون ان يكون لها أي أساس.

< تتحدث عن تأثير العائلة ولا تذكر تأثير المدرسة.

- في الابتدائية كنت الأول في كل شيء وكنت صفراً في الفرنسية. وعندما انتقلنا الى الثانوية كانت الفرنسية هي العقبة لأن التدريس كان بالفرنسية. اللغة الأجنبية لشخص مثلي، يعيش على هواه ولا يستطيع ان يتعلم الا ما يحبه أدت الى احباط مدرسي تام.

< مـع أنك تتـقن الفـرنسية وتتـرجـم عنها أحياناً.

- هذا تم بإرادة خاصة، أنا أجبرت نفسي. ذهبت الى فرنسا ولم أكن أعرف شيئاً عن الفرنسية، وهناك قمت بتعلمها بجهد إرادي حقيقي، كأن أعتزل مثلاً كل اللبنانيين والعرب، وأعيش مع فرنسيين، وأكافح كل يوم لأصوغ جملاً للحديث معهم. وهذا أدى فيما بعد الى انهيار عصبي أدخلني الى المستشفى، والى معاناة دامت سنوات.

< هل تشعر ان هذه السيرة وهذه النشأة لشخص غير متكيف كانت شبه تحضير غير معلن لكاتب لاحق؟

- أنا وجدت نفسي كاتباً. في بيت توجد فيه مكتبة، وجدت أمامي والداً يتكلم بشبه فصحى. وجدت جواً أدبياً، زملاء والدي كانوا يتحدثون ليلاً نهاراً في الأدب والتاريخ الاسلامي. في العاشرة كنت أحاول الكتابة، وأذكر أنني في الثالثة عشرة كتبت موضوع الانشاء شعراً موزوناً، وبدأت أفكر وأتصرف كشاعر. واشتركت في مهرجان شعري مع شعراء المدرسة وكنت أصغرهم. ولكني لم أعد نفسي للشعر. بقيت متحيراً فترة طويلة ربما لأن والدي كان ناثراً، في ذلك الوقت لم أكن أظن أن الشعر سيكفيني. كنت أفكر أنه كالغناء وأنه لفترات الفراغ والرفاهية، وأن الناس يكتبون شيئاً آخر أكثر جدية. كان هناك حلم المفكر بالتأكيد، لم يغب حلم المفكر على كل حال الا بعد فترة طويلة. المهم انني كنت أقرأ كثيراً وأكتب كثيراً. في تلك الفترة مثلاً تعرفت الى نزار قباني، كان اكتشافاً قمت به بنفسي، قرأته وفتنني. وبالطريقة نفسها قرأت "نهر الرماد" لخليل حاوي، كان زلزالاً بالنسبة اليّ. اكتشاف آخر قد يستغربه الكثيرون هو "مدينة بلا قلب" لحجازي. كانت هذه الكتب الثلاثة الأولى التي هزتني، ولا أزال على كل حال أضمر لهذه الكتابات عاطفة ما.

< في تلك الفترة بدأت تنزل الى بيروت وتدخل جوّها الشعري، كانت هناك مجلة "شعر" وقتها.

- في الواقع تأخرت كثيراً في النزول الى بيروت وفي التعرف الى الجو الأدبي. أظن انني نزلت مع هاني مندس الذي كان أول من تعرف الى أنسي الحاج، وأظن انه اصطحبني مرة لزيارته، ففاجأني نحوله الشديد وارتداؤه بدلة، وأظن انني في تلك الفترة او بعدها تعرفت الى أدونيس. بالنسبة لمجلة "شعر" قرأت في الحقيقة بنهم الترجمات التي كانت تنشرها. كانت الترجمات بالنسبة اليّ أمراً لا يصدق، أمراً زلزلني. قراءة أليوت مثلاً.

< تتحدث عن الترجمات، ولكن كان هناك مشروع لتحديث الشعر العربي في المجلة في ذلك الوقت!

- القصائد الحديثة يومذاك كانت في بداياتها، ولم تكن مغرية بالنسبة اليّ. كان الفارق بين الترجمات والنصوص العربية مخيفاً. كنت ترى تمارين شعرية وعرة ومفتعلة غالباً ومركبة. في تلك الآونة كان النموذج هو النص الفج، بعض كتلك النصوص استمدّت جمالها من فجاجتها، "لن" لأنسي الحاج. قصيدة أدونيس لم تكن محتملة، لأن أدونيس الذي عرفناه فيما بعد لم يكن فجاً. أدونيس على أية حال لم يكن الشاعر الفج الأول الذي عرفناه في القصائد الأولى، بينما فجاجة "لن" كانت تبدو في تلك الآونة كأنّها قصد ومقصد لا مجرد ابتداء. لا أستطيع القول انني قرأت باهتمام كبير بدايات شعراء "شعر"، في الواقع كان السياب يفتتني أكثر.

< ماذا عن الماغوط؟

- الماغوط كان مؤثراً أكثر. احتجت قليلاً من العمل الإرادي لقراءة الماغوط، إذ بدت لي رومنطيقيته في "حزن في ضوء القمر" غير جذابة قياساً الى نضج النصوص المترجمة وعمقها آنذاك. لكن افتتاني بصوره كان كبيراً. وبالتأكيد كان هذا الكتاب فتاناً من هذه الناحية، وكان فيه ما يشبه النصوص المترجمة في القدرة على اكتشاف صور متناقضة في داخلها، ومشعّة وموحية ومركبة في الداخل الى هذا الحد.

< شوقي أبي شقرا؟

- شوقي لم يكن مطروحاً في تلك الفترة كثيراً على قراء "شعر". كان هناك أدونيس وأنسي الحاج. أنسي لم أستطع قراءته براحة بسبب ذائقتي وعلاقتي بالجملة العربية، وجدت نصه وعراً ويلوي اللغة. قرأت أدونيس بقدر أكبر من الاهتمام، ولم تكن هناك ممانعة تجاه نصه الا انني كنت غالباً ما أجد هذا النص أقل عذوبة من النص الكلاسيكي. كنت مفتوناً ببدوي الجبل مثلاً. الأرجح ان أثر النص الكلاسيكي جعل النص الأدونيسي لا يستولي عليّ، في تلك الآونة، كما استولى على آخرين. والسبب على الأرجح تربيتي الكلاسيكية.

< لنعد الى تأخرك في الاعلان عن نفسك. أنت تتحدث عن مجلة "شعر" ولم تكن نشرت كتابك الأول.

- لم أكن أنشر حتى في الصحف. لم أكن أعد نفسي حينها شاعراً على أية حال، تأخري في النشر كان عائداً لإحساسي بأنني هاوٍ ولست شاعراً فعلياً. أما عن مجموعتي الأولى، فكان هناك كسل النشر وليس كسل الكتابة. وقد سبق هذه المجموعة قصائد ومجموعات لم تنشر. ذات يوم ذهبت الى مصر لدراسة التوجيهية، وهناك كتبت من دون انتباه قصيدة تقريباً "بيرسية" نسبة إلى سان جون بيرس بعنوان "عصافير ولا شك تتحلق حولي". لم أنشر القصيدة مع انني اقتنعت بها، وبدت لي عملاً يملك قدراً من الاكتمال والهوية. بعدها ذهبت الى فرنسا وفي رأسي الترجمات. في رأسي مثلاً شاعر فتنني حين قرأته مترجماً، هو بيار جان جوف في قصيدته "عرق الدم". وكان يهمني أن أقرأ بالفرنسية النصوص التي فتنتني بالعربية. قرأت قصيدة جوف بالفرنسية وكانت سلسة جداً، ولا تتطلب تضلعاً في اللغة، وفتنتني فرنسية هذا النص كما فتنتني عربيته. والواقع ان هذا النص مفصلي بالنسبة إلي وهذه أول مرة أذكر ذلك. جعلني أفكر بكتابة أخرى تماماً، سميتها في تلك الفترة كتابة بسيكيولوجية، أي كتابة اللغة فيها تتبع ضبطاً نفسياً داخلياً.

< ما الذي أخرجك من السياسة وأعادك إلى الشعر؟

- كان خروجي من "منظمة العمل الشيوعي" لأسباب إرادية ولا إرادية: الضجر، التعب، الخوف. أصلاً لم يكن لدي استعداد لعمل سياسي. كان العمل السياسي يوازي الشعر ويوازي الفن. ان تعمل في سبيل قضية مستحيلة، وتعمل في سبيل خسارة دائمة وفي سبيل ما لا يتحقق، كان هذا شيئاً يشبه الشعر. ولكن عندما أصبح العمل السياسي سياسوياً، خفّ استعدادي النفسي والجسدي له. وعنـدما خرجـت مـن المنظـمة تحـولت السياسـة مـن عمـل منتظـم الـى عاطفة. حـرب الـ 1973 أعادتني الى الشعر. وكتبت قصائد تحريضية منها قصيدة "يا علي" التي غناها مارسيل خليفة، وهي رثاء لمناضل اسمه علي شعيب، قتل أثناء الهجوم على البنك الأميركي ولم أكن أعرفه. لكنني كتبت في رثائه قصيدة هي مديح للإرهاب عملياً، وكتبت عدداً من القصائد السياسية البحتة.

< هذا الكلام يفاجئ قرّاءك، وأنا منهم! هؤلاء يسمعون "يا علي" بوصفها شكلاً من أشكال اعادة اعتبار تاريخي إلى الجنوب اللبناني.

- هي اعادة اعتبار تاريخية للجنوب، من محل إرهابي. هي دعوة الى الجنوب الارهابي، دعوة للجنوب الغاضب والمتمرد، جنوب قطاع الطرق والارهابيين، هؤلاء هم الممجدون في القصيدة أصلاً. إرهابيون وقطاع الطرق كانوا كرامة الجنوب. الجنوب الذي كان في حالة طوارئ دائمة في لبنان، وكان محل مهانة مستمرة. القصيدة كانت قصيدة كرامة، وتاريخ الكرامة كان تاريخ الارهاب ببسيط العبارة.

< كيف خرجت بعد ذلك من الشعر السياسي البحت؟
ارشيف خالد المعالي

- ذات يوم كنت في بنت جبيل، وفجأة بدأت أكتب نصاً لا أعرف من أين أتى. لم يكن ذلك صادراً، بوضوح، من استلهام او من قراءة شاعر آخر. بدأت أكتب نصاً تحول فجأة الى نص مائي وتفجر بمخيلة مائية. عشت طفولتي كلها على شاطئ البحر، ولا أعرف الى أي حد كان هذا البحر يدخل ويتكلم في القصيدة. فجأة كانت هناك لغة مائية مطواعة، وقاموس مائي لا أعرف من أين أتى، وكانت تلك هي بداية "قصيدة صور". هذه القصيدة اكتملت في ثلاثة أيام، بينما كتب المقطع الثالث والأخير منها لاحقاً.

< قصيدة "صور" مثلت بداية جديدة؟

- هذه القصيدة أدهشتني. لكن سرعان ما أتت الحرب، ومحت القصيدة في الطريق، وسرعان ما كرهتها. قرأها إلياس خوري وأعجبته كثيراً، ويعود اليه فضل الاحتفاظ بها لأنني لم أكن أملك بسبب إهمالي سوى نسخة واحدة، وهي النسخة التي سلمتها لأدونيس الذي سلمها بدوره لإلياس خوري الذي كان يثق كثيراً بحكمه على أية حال. وبقيت القصيدة مع هذا الأخير الى ان وجدت جزءاً منها منشوراً في "شؤون فلسطينية"، وبعد ذلك حين اضطر إلياس لترك منطقة الأشرفية لم ينسَ هذه القصيدة وحملها معه، ولولاه لما كانت موجودة الآن. على كل حال هذه القصيدة كرهتها، عندما بدأت الحرب بدأت أكره أحلامي السابقة، وخيالي السياسي، ومخيلتي الماركسية، وافتتاني بالتاريخ، وبدأتُ أرى انه لا يناسب الواقع الذي آلت إليه الحياة في الحرب. توقفت مجدداً عن كتابة الشعر، ولم أعد أطيق اللغة الملحمية الفصيحة الانشادية لـ "صور" التي لم تعد تهمني، ولم أُعنى حتى بنشرها وبدا فجأة انها تخلفت عن الزمن وباتت خارجه.

< إلى أي حد شكلت الحرب منعطفاً في مسار الكتابة اللبنانية عامة؟

- الحرب اللبنانية كانت منعطفاً ثقافياً بشكل أساسي. فبالسرعة التي شحب فيها نظام سياسي متكامل، شحبت ايضاً ثقافة راسخة. لم نحتج الى وقت طويل، مثلاً، لنضجر من جزء كبير من أغاني فيروز ووديع الصافي، وليغدو سعيد عقل نسياً منسياً، ولتقل إلفتنا مع اللبنانيين الرواد، وليغدو التراث الليبرالي اللبناني، والماركسي اللبناني مدقعاً، ولننظر الى اللوحة التشكيلية اللبنانية المرتبة والمؤسلبة والى النحت اللبناني المنمق بقدر كبير من الريبة. والأرجح ان النتاجات الابداعيّة والفكريّة كما نجدها اليوم في لبنان، هي إبنة المنعطف الذي مثلته الحرب. كأن الحرب لم تفرز نقداً صريحاً لأطروحات وايديولوجيات سابقة، إلا على الصعيد الثقافي. مع الرصاصات الأولى انهارت مشاريع قومية ويسارية وليبرالية، وبدت خيالاً وطوباويات ومجرد لفظيات، وانهارت في الوقت نفسه ثقافة قائمة على الفلسفات الشخصية والاشراقات الوجدانية وعلى تنزيه الثقافة وتعاليها. كما ان فهماً خاصاً بالحداثة، رومنطيقياً وغيبياً في الغالب، وجد نفسه على المحك. وبكلمة: كانت هناك حاجة اكثر الى ثقافة تفصيلية عينية ميدانية، ثقافة أقل تعالياً، وأقل إفراطاً في الوجدانيّة والذاتيّة.



< تصف قصيدتك فتبدو قليلة الشبه بالقصيدة العربية؟

- من الممكن ان تكون سرعة تفاعلي مع قراءاتي من الشعر العالمي، ومناعتي القليلة ضدها، أفضتا بي الى تشرُّب هذه القراءات وتحوّلها الى حساسية خاصة، والى جِلد لغوي. لا أعرف كيف نشأ هذا الذوق الكتابي، لكنه ذوقي في شعري، وفي نثري، وفي مقالتي، ويكاد يكون حساسيتي الخاصة او لمستي الخاصة. وهذا بطبيعة الحال اكثر من ان يكون موقفاً، اكثر من ان يكون نقداً، انه ببساطة داخل في المزاج. فهو الى حد ما شيء عضوي. هذا أنا، في اللغة وفي الكتابة، وما أتجنبه لا أتجنبه بقوة الفكر بل بقوة اللمس وبقوة الحاسة. فأنا أنفر من كل تعبير فاقع وعلني.

< هذه الكتابة وذاك الأسلوب يجعلان قصيدتك "ضد عربية"؟

- من خلال اتجاه لغتي واتجاه شخصي، احساسي انني نوع من منشق. والأرجح ان تكويني الثقافي - النفسي انبنى بنوع من المقت لمهرجانية طالما شعرت انها ضاغطة وراسخة في الكتابة العربية اجمالاً. هذه المهرجانية هي في حماسة مبالغة، وتغنٍّ ومديح مجرد من أي سؤال، وفي تعبوية لقيم يقينية وإيجابية، وفي استعمال فحولي للغة، وفي ميلٍ للتشخيص والبطولية والتراجيدية المفرطة، او البدء من الأقصى ولغة الذروة والرخاوة التعبيرية. هل هذا هو ما تراه "غير عربي" في كتابتي؟ الأرجح ان هذا اقترن بنوع من نفور شبه جسدي من ثقافة شعبوية تحريضية خطابية وفصيحة.

< ذهبت الى ثقافة لا توجد فيها حذلقة ؟

- كان هناك انشقاق في الرؤيا والفهم والتخيل حتى، لكنّه لم يكن مرة بالنسبة إلي ذريعة لادعاء آخر. هذا الانشقاق هو نوع من تصويب وترسيخ، أكثر مما هو عنصر هدم. لذلك كانت سمته الأساسية تجنب الصفات التي ذكرتها منذ قليل. هذا الانشقاق بدا لا كموقع هجوم او دفاع، بل كموقع عيش وإقامة وجدت نفسي فيه. أليس من الطبيعي لشخص لم تكن قراءاته الأساسية عربية، ان يمتلك حساسية أخرى، وذلك من دون تعمد وافتعال؟ كنت من جيل أقل فصاماً من هذه الناحية، فالجيل الذي سبقنا تربّى في الأرجح على ثقافة أكثر ازدواجاً: ثقافة عربية راهنة وأخرى غربية. ولا شك ان الجيل السابق احتار وتردد بين هذين المصدرين. بالنسبة إلى واحد مثلي، كان الأمر أكثر اتساقاً. فالثقافة الجديدة، ذات المصدر الأوروبي، تحولت الى طبيعة والى أصل، وأمكن لها ان تكون حاسة وجلداً.

< هل تمّ "الانشقاق" بهذه العفويّة حقّاً؟

هذه القراءات الشعرية وغير الشعرية أخذتني، عفواً، الى موقع مختلف في التعبير وفي الفهم، وهو لم يبدُ لي حينذاك مختلفاً الى هذا الحد. عندما تقرأ إليوت وبيرس وويتمان وريتسوس قراءة حميمة، وتعايش هذه النصوص فتدخل في حسّك، وفي دم، لا يعود في وسعك ان تكتب نصاً كالجواهري. وتجد نفسك نهائياً في مكان آخر، من دون حرج وصراع. وهذا الخيار ليس هجومياً، وليس مفتعلاً، ولا يحمل ادعاءات كبيرة. انه نقدي بالتأكيد، ويحمل قدراً من التحفظ والتجنب والاعتراض، لكنه ليس موقعاً قتالياً. فسمةُ هذا الموقع هي التواضع ومعرفة الحدود

< أعرف أنك سُجنت...

- سجنت مرتين الأولى سنة 1969 بسبب منشورات وزعناها احتجاجاً على الهجوم الاسرائيلي على مطار بيروت. والثانية سنة 1982، أثناء الاجتياح، وقد قضيت فترة اعتقالي في سجن قرب حيفا. لم أكتب يومذاك عن هذه التجربة، فقد كان السوق يعجّ بذكريات سجناء، خيالية غالباً وبطولية من دون سبب. ولم أهتم بالاشتراك في هذا السباق، وهذا جنّبني ان أُدعى شاعراً مقاوماً. لكن هذه التجربة كانت وراء مجموعتي "مدافن زجاجية"، كما ان يوميات الاحتلال الاسرائيلي كانت وراء "نقد الألم". والتجربة والاحتلال معاً حوَّلا كثيراً او قليلاً في لغتي وتناولي الشعري. أذكر مثلاً ان كلمة كـ "الشرف"، كان صعباً علي أن أذكرها في شعري قبل تلك التجربة.
___________

قصائد لها قصة: عبــاس بيضون - يــــا علي

هذه قصيدة للشاعر اللبناني عباس بيضون، كتبها في مرحلة من مراحل انخراطه في العمل السياسي، ويصنفها البعض على انها من أجمل و أروع ما كتب من شعر، و هي في تمجيد الشهيد "علي شعيب" الذي استشهد في العام 1973 ، اثر الهجوم على " بنك أوف أميركا " في بيروت، و الذي نفذته مجموعة مسلّحة تابعة لـ "منظمة الاشتراكيين الثوريين"، مطالبة الدولة بالإفراج عن رفاق لهم. وقد حوصر المسلحون داخل البنك، وخرجت في الشوارع مظاهرات تأييدية، ورمى المسلحون بالعملات النقدية إلى الجماهير "الأحقّ طبقياً بتلك الأموال، و للتأكيد على أننا لم نكن عصابة من السارقين بل مناضلين عندنا قضية سياسية". قتل الجيش في اقتحامه للبنك اثنين من المجموعة أحدهما علي شعيب، الذي مجده عباس بيضون بهذه القصيدة الرائعة بتأثير راهنية المرحلة الثورية، ليتبرأ من القصيدة ورموزها لاحقاً، واصفا العملية بالارهابية، وهو موقف متذبذب يلقي بظلاله على خلفيات هذا القرار السياسي الارتكاسي الذي انخرط فيه العديد من المثقفين لاعتقادهم انهم ضحايا "الحركة الثورية الاشتراكية اللبنانية" التي قادت برأيهم الوطن الى اتون حرب طائفية طاحنة"، من ضمنهم طبعا بيضون الذي تبرا من القصيدة برغم جمالها وروعتها وثوريتها، وزياد الرحباني الذي الف مسرحية بعنوان "يا نور عينيا رحنا ضحية ضحية الحركة الثورية"، وتلك حكاية اخرى تدفعنا للتساؤل حول مسألة تخلي المثقف عن ثوريته، والتناقض المريع الذي يجد نفسه ضحيته.

وقد اشتهرت قصيدة "يا علي" شعرا ومغنى شهرة منقطعة النظير بفضل ادائها من طرف الفنان التقدمي مارسيل خليفة ، وأحبّها الكثير من اليساريين، وذاعت شهرتها اكثر لدى اهل الجنوب اللبناني خاصة، حيث اعتقد الكثيرون أن مارسيل خليفة يغني للإمام علي، لورود البيت الذي يقول فيه "يا علي نحن أهل الجنوب"، ولأن كلمة "علي" رائجة بكثرة في الأوساط الجنوبية، فحين يريد المواطن أن يقوم باي عمل يقول "يا علي".

ويتنذر البعض في امر موقف صاحب هذه القصيدة، ويحرفون مجرى كلماتها الى: "يا علي لم نعد أهل الجنوب"

قراءة ماتعة لهذه القصيدة الممتعة
نقوس المهدي


***


يـــا عـلي ..
عباس بيضون

يـــا عـلي ..

نحن أهل الجنوب ..
حفاة المدن نروي سيرتك
على أصفى البرك والأودية
إن حطام ابنائنا وأسلحتهم يغطي السفوح !

ونحن نرى ذلك بصمت
بصمت بصمت بصمت

تسقط كل صبيحة
بندقية على الجبل

ونحن نرى ذلك بصمت
بصمت بصمت بصمت

لكننا .. ذات يوم ..
سنوجه سكك محاريثنا
الى قلوبهم السمينة الفاجرة !

قاومت ..
لتحرر دمك
من عنابر الزيت
وفمك ..
من مخازن السكر

وعظامك ..
من مقاعد البكوات
وأمراء الدواوين

لكن يا علي .. يا علي

أين تجد هنا أرضا
لرأس طليق ويدين حرتين ؟!

من ينسى .. من ينسى ؟

عيون الأطفال الفارغة
في أرض موطني ..

من ينسى .. من ينسى

كيف يغوص الفلاحون
في تربة خوفهم كالخلد ..

من ينسى ... من ينسى ؟

يا قامة الوعر المنتصب
والجرد الذي يختزن الصواعق
والقلب الذي يترقرق بماء الوطن

لقد أخرجتك دموع الأمهات قبل الآوان
الى نهايتك المبكرة
الى نهايتك المبكرة

يا علي
يـا علي
يــا علي

قلبي طينة جنوبية وطبل جنوبي

وأنا مثلك يوما ما
على أرض أقل مجدا

سيقتلني حبي
سيقتلني حزني

يا علي

يـا علي

القصيدة كما نشرت في (مجلة «مواقف»، عدد كانون الثاني/ يناير ١٩٧٤)

مصرع علي شعيب



أكتب قصيدة بلا دم ولا أزهار. حين تكون الجثة منصوبة على السهل، حين نجمع كسر رجالنا بعد العاصفة، نجد القلب ما زال يعصر، القلب ما زال يعصر. الكتف تختلج كالسنبلة والقامات الصلبة التي تدحرجت كأنغام كبيرة من الجبال تتحول إلى شظايا قانية، ودم فوار.
حين ننقب في الأرض، نجد فتات رجالنا يجرح لهاة الأرض، والتراب يعرق من مضاجع القتلى، بينما تتفصد الينابيع الواسعة من الجراح الغائرة.
الهواء يجدف هادئاً على المرتفعات والسفوح، والجثة تسافر في غبرة حديدية بين شرطة وعربات تستقبلها النساء بعيون واسعة، وقصيدتي تندس بينهن، تمتلئ البرك إلى حافاتها بخفقة قلب، وتلذع جنوب النسوة أمومة مذعورة، وترق الأرض تحت الجثة المرشوشة بالرصاص، بينما يجلل الحزن القرى كقميص من حديد. ويحوم الهواء مسلحاً على رأس السرية والحرس.
تنضح أوراق النقد دماً، ووجوه الصيارفة كوجوه الدمى. وعلى الباحات والسلالم ينصب سوق الدم القطرة مقابل الرصاصة. والقلوب تنتفخ وتعمل كالفَعَلة.
تسقط قطرات على نجوم القادة، فتكتهل وتسقط على الأرض بلا مجد، بينما ينزف القادة رصاصاتهم في المباول. لكن القطرة تنزل أيضاً على قلب الجبان وفم الأخرس، والأمن الذي يطحن قلوب الأطفال.
يا علي نحن أهل الجنوب، حفاة المدن نروي سيرتك على أصفى البرك والأودية.
إن حطام أبنائنا وأسلحتهم يغطي السفوح، ونحن نرى ذلك بصمت.
تسقط كل صبيحة بندقية على الجبل، ونحن نرى ذلك بصمت، لكننا ذات يوم سنوجه سكك محاريثنا إلى قلوبهم السمينة الفاجرة.
ذات يوم نرفعك كزهرة، حيث قاتلتَ وسقطتَ كسنبلة كاسرة تحطمتْ على رؤوس القتلة. ذات يوم ننصبك على جبالنا.
قاومت لتحرر دمك من عنابر الزيت، وفمك من مخازن الكَسر وعظامك من مقاعد البكوات وأمراء الدواوين. قضمت قلبك بأسنانك، لتفك رأسك وساعديك. لكن أيها الصديق، أين تجد هنا مكاناً لرأس طليق ويدين حرتين.
الهواء محكوم والماء مصفد في برك سيدك. النسمة داجنة في الحقول، والليل مربوط إلى الأرض. 
سيكون رأسك صخرة على كتفيك، وذراعك ثقيلة كسلسلة حديدية. لذا تقف في برية نفسك، تتدلى من فمك صيحتك الجارحة. تنطبع على قلبك صورة الصرخة، كما تنطبع بقعة الدم على الرصاصة، وتتحرك بقع الزيت على المياه. بينما تتجمع الغابات على رؤوس أناملها ويمشي الليل على أذياله، ويمر الهواء كاللص على سفوح البحر.
كنت تسير معذباً بهذه الطبيعة الميتة ككف مقطوع وذراع وحيدة، وعين منفصلة وسلاح مدفون في الرمل.
لكنك تذكُر الفلاحين الذين كانوا يرافقون القوافل ويطبقون على المدن، المهربين الذين كانوا يبرقون كالسيوف على خطوط النار ويأكلون الموت بأعينهم وضحكاتهم الماطرة. لصوص الجبال الذين سقطوا في ساحات القرى، بين أعين النساء الحانية، والذين كانوا ينزلون كرعد الجبال والصخور من الذرى، ليرشوا لحم القطعان المسلوبة على الناس.
تذكُر الرجال الذين كانوا يدفنون الأحياء ويقتلون الأطفال على حليب الأمهات، كما تذكر شيوخ القرى الذين خنقوا ساداتهم بالمصاحف.
تذكر أننا كنا نحمل ذراعاً تضرب وبندقية تصيب، وقلباً يعض على الموت. 
لم نكن من قبل شحاذي المدن ولا صعاليك العواصم، ولا عبيد التبغ والسادة لم يجرؤوا علينا إلا حين ماتت قطعاننا وجفّت مياهنا في الآبار. لذلك كنت تسير كرجل من الماضي، كصخرة من الماضي.
من ينسى عيون الأطفال الفارغة في أرض موطني؟ من ينسى كيف يغوص الفلاحون في تربة خوفهم كالخِلد؟ من ينسى كيف يقتتل الإخوة على موائد السادة وكيف أذلت الجبال العالية، وكسرت الأرض العامرة؟ كيف يولد الذعر مع العين، والخور مع القلب في أرض الصخر الخاضع والجياد المسوطة والذرى الداجنة؟
من يرى الدم والعقال والشارب على الطريق والقامات الوعرة المرتفعة، منكبة على الأجران والحفائر وروث الخيل؟ من يرى الأهل الباكين والأمهات المجلودات والشيوخ الكبار ساقطي الرأس، من يرى كل ذلك ولا يحترق قلبه في موضعه كزهرة مصعوقة ولا يتحول قلبه إلى إبرة كاسرة، ويد ضارية وطُعم مسموم؟
لذلك أتحدث عنك وقلبي يطل من فمي، يا ابن موطني، ايها الرعد المبكر الذي ينزل على جبالنا ليفكها، وعلى أرضنا ليطلق سهلها وبركها الواسعة يا قامة الوعر المنتصبة والجرد الذي يختزن الصواعق والبندقية التي تحركت على المرتفعات والقلب الذي يترقرق بماء الوطن. لقد أخرجتك دموع الأمهات وسلاسل الشيوخ قبل الأوان إلى نهايتك المبكرة.
يا علي،
أنا الشاعر، قلبي طينة جنوبية وطبل جنوبي وأنا مثلك يوماً ما، على أرض أقل مجداً، سيقتلني حبي، سيقتلني حزني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Bottom Ad

Responsive Ads Here

الصفحات