أحدث المنشورات

عندما يُطحن القمح، يكركر الطاحون (مدوّنات حول الطهو)


 

رسوم علي عيال.

EN

في كتابته عن تاريخ بيروت الملحميّ منذ العصور القديمة حتى عصر إعادة الإعمار لشركة سوليدير، يقول الصحافي والمؤرخ الراحل سمير قصير أن ما جعل المدينة قائمة بذاتها وأبقاها صادقة مع نفسها، هي تلك القدرة التي تكاد أن تكون غير منقطعة لسكانها على التّوفيقيّة والتّثاقف. لم يبدُ هذا جليّاً أكثر من على طاولة أحد مطاعم وسط المدينة، في أي وقتٍ تقريباً من القرن العشرين، المجهزة لإحدى الوجبات الماراثونيّة، ومحدودبة تحت ثقل عدد كبير من الأطباق الصغيرة، مقدمةً قائمة مأكولات متنوعة وودّية للسياح  من المطبخ التركي- الحلبي، يتم تمريرها على أنها شرعياً لبنانيّة. «كل شيئ يجعل من المازة المقدمة في بيروت لحظة إكزوتيكية أكثر سحراً»، يشرح قصير، «من غير أن تجافي أصحاب الذوق التقليدي في الطعام».[1]
من جهة، ربطت الوصفات والمكونات وطقوس المازة تقريباً جميع أراضي الإمبراطوريّة العثمانيّة السابقة، من البلقان مروراً باسطنبول وصولاً إلى يافا، وكانت هي نفسها مبنيّة على تقاليد غذائيّة يعود تاريخها إلى العصور الوسطى أو حتى المیزوبوتاميّة (بلاد الرافدَين). فمفهوم التراث المطبخي المشترك كان حقيقياً بالفعل، ويبقى كذلك حتى اليوم. من جهة أخرى، برز هذا المفهوم كتجارة بحتة (تطوّرت ثقافة مشاركة الوجبات في المطاعم ودفع ثمنها في لبنان وتركيا قبل بكثير من أي مكان آخر في المنطقة)، بحيث أنه إذا كان يوجد مصدر للربح، فإن مسائل الذّوق والأسلوب والنكهة يمكن تكييفها بسهولة. كان المطبخ بمعنى ما أبدي، وبمعنى آخر  متغيّر على الدوام. إذا كان سبب ذلك هو أساساً الربح في أوقات الإزدهار الوافر، فقد نتعلم إذن شيئاً مفيداً وغير متوقع بالوقت نفسه، من التغيّرات والإضطرابات في عادات الأكل التي تحدث في فترات المِحَن والكوارث والعنف. عندما تعطّلت براعة المدينة في التوليف والتأليف بحسب تقييم قصير (وغيره)، برزت اختلالات على مستويات عدة منها علاقة سكانها بالطعام.
«الطهو» هو مسار تحقيق جماعي يتم متابعته بعددٍ من الإتجاهات من قبل مجموعة متنامية من الفنانين والمفكرين، وسيتتوّج في سلسلة من الأحداث في خريف العام 2017 في بيروت، من تنظيم جمعية «أشكال ألوان»، أحد محاوري «بينالي الشارقة 13». يتخذ المشروع هذا المفهوم لتاريخ تذوقي مشترك، وإن كان أيضاً مضطرباً، نقطة انطلاق له. يبدأ الطهو مع فكرة أن جزءاً معيناً من العالم – سَمِّهِ الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، بلاد الشام، أو ببساطة «هنا» – يتماسك ببعضه من خلال كيف وماذا يأكل شعبه (ولماذا) أكثر منه بكثير من قومياته أو أيديولوجياته أو لغاته أو أديانه أو أعراقه. يقترح الطهو منذ البداية أن طقوس الأكل في هذه المنطقة دراماتيكية، واستعراضية ومؤداة. هي السمات الأدائيّة للهويّة، إذ أنها كاشفة ومعبِّرة أكثر من الدولة أو المجتمع.
في العصر العباسي، عندما ارتقى الطبخ إلى مصافي الفن الامبراطوري الرّفيع، أدّى الإعتناء البالغ في تحضير الأطباق وتقديمها وإستلذاذها، من القرن الثامن، إلى نشوء واحد من مفاهيم (أو شخصيات) الأداء وهو «الطُّفَيلي»، والذي كان عملياً ضيفاً غير مدعو. كان الطُّفَيلي يصل إلى المأدُبة باكراً، يُطيل المكوث، يزعج مضيفيه، ويسترسل في تسلية باقي المدعوّين. كما تشرح بريجيت كالاند، الباحثة في التحليل النفسي واللغات الساميّة والخبيرة في مجال المطبخ العباسي، وواحدة من الباحثين الخمسة الذين يعملون حالياً مع «أشكال ألوان» على مشروع الطهو. كان الطفيليون محبوبين ومكروهين، مذمومين وممدوحين بالقدر نفسه.
كان الطُّفَيلي، على غرار الشاعر الأنيق بنان، شديد الفخر بمهنته، إذ كان ضيفاً غير مدعو لأكثر من ثلاثين عاماً. وقد اتخذ تلميذاً واحداً فقط تحت إشرافه، وعلّمه كيف يحضر باكراً  للجلوس في مكانٍ جيد ومقابلة النخبة وتناول أجود القطع. كان ينصح بالمغادرة قبل إزعاج الشخص المُضيف، وبالجلوس على يمين الحشد من أجل مراقبة ورَصد الحفل بأكمله. وإذ أقرّ بأن تناول الطعام مع الأصدقاء لن يضر أحداً بعمره، شرع بالحديث عن أطباقه المفضّلة: المديرة، والسكباج، والعدسيّة، والفالوذج. ذوّاقٌ أصيل، كان ينصح المدعوّين بعدد اللقمات التي يجب تناولها من كل طبق، ومتى يتناول المزيد، وطريقة تناول الطعام من الآنية، إلى أن ينهاروا.[2]

على النّقيض من حيويّة الطُّفَيلي المنبسط والودّي، يتحوّل الجانب الأدائي من الطهو في زمن الإضطرابات الإجتماعيّة والسياسيّة نحو الداخل، جاعلاً الجسد عرضةً لتشوّهات القلق والخوف والوُهام والنفور والإنحراف. في كتابه «مِحَن الحداثة العربيّة: الوجدان الأدبي والسياسة الجديدة»، يتتبّع الباحث الأدبي طارق العريس حركات كبار مفكّري النهضة التي سادت العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الذين «يجسّدون الحداثة بسرديّات القلق والإنهيار». يعير العريس اهتماماً خاصاً للجسد كحيز معني بالقطيعة والذي يشوّشه النفور من الطعام ونوبات التّوهان والهَلَع، ويصوّر الحداثة كسلسلة من الحوادث والمصائب، والأحداث المفجعة أو المحرجة.
يعطي العريس مثالاً عن الكاتب أحمد فارس الشدياق، الذي قدم مساهمات شاسعة للنهضة الأدبيّة في عصره، ولكنه فعل ذلك خلال عمليّة انخلاع  مؤلمة وغالباً عسيرة، مسافراً من لبنان إلى مصر ولاحقاً إلى بريطانيا وفرنسا، ثم تونس واسطنبول. في أوروبا، في الوقت الذي كانت عناصر الإستعمار والإستشراق تتداخل في الأدب من جهتي الإنقسام الشرقي-الغربي، إنصرف الشدياق إلى مراقبة عادات وتقاليد «الحضارة» في المدينة الكبرى. ولكن في كتاب رحلات مهمّ صدر في العام  1863 (عنوانه «كشف المُخبّأ عن فنون أوروبا»، ومُشار إليه في نص العريس بـ«الكَشف»)، كتب الشدياق بأشد الحدّة عن الاخلالات في عادات الأكل الخاصة به، عن معاناة جسده من مذلّات عسر الهضم وسوء التغذية والإعياء. في مدينة لندن، المعروفة بنشاطها التجاري والمالي الصخب، لم يجد الشدياق تطوّراً  وإنما تعفّناً، مدوّناً المُخبّأ في المورِد الوخيم:
يأخذ المُخَبّأ في نص الشدياق شكل التعفّن السافر والمنكشف، الذي يظهر ويختفي، ويسمّم الجسد ويسبب له بالانهيار، ويحرمه من الهواء النقيّ ويخنقه ويكبحه. يظهر التحلّل والتعفّن واضحاً في شوارع المدينة وأبنيتها، في المنتجات الغذائية في دكانة القرية، في جيف الحيوانات النافقة وفي الطعام الذي يقدمونه في المطاعم وفي منازل الأثرياء، وحتى في القهوة المخلوطة خلف الأبواب المغلقة في المقاهي. يَكمُن هذا التحلّل أيضاً في تنظيم الحضارة الأورروبيّة تبعاً لفئات العمل والمعرفة، كوسيلة لتحديد علاقتها بـ«الآخر» – الذي «يفتقر» لأخلاقيّات العمل والتنظيم. لذا فإن الكشف يعمل كتشخيصٍ للإنتاج الإيديولوجي للحضارة من جهة، وكتحديد للعوارض والآثار والروائح والدخان من جهة أخرى. ينشأ المُخَبّأ بوصفه بلاء وتحلّلاً، من موردٍ وخيم يولّد عسر الهضم والرأسماليّة والكتابة الحديثة. المُخَبّأ الذي يسعى الشدياق إلى تشخيصه في فنون أوروبا، هو أيضاً المُخَبّأ في فنون الطّهي. هذا المُخَبّأ، الذي ينضح كرائحة سامّة من إست الأرنب، إلا أنه عارٍ على مرأى من الجميع في قصيدة الشدياق، يكشف الحداثة كعمل فني مقرف، كطبقٍ مقرف، كنص «حديث» مقرف يدخن ويفوح برائحة العفن.[3]
وإذ نقترب من يومنا الحاضر، نجد بأن الطهو يتوغّل في تجارب من الإنخلاع، ليس فقط بين المثقفين على مستوى الشدياق وحسب (بعضهم الذين هم مواضيع دراسة استقصائية قامت بها كالاند عن طقوس الأكل المُعاصرة)، وإنما أيضاً بين شابات وشبان في بيروت إنتهى بهم المطاف كلاجئين في لبنان، شرعيين كانوا أم غير شرعيين. ست سنوات من بدء الإنتفاضة واندلاع الحرب في سوريا، شُرِّدَ فيها أكثر من ستة ملايين شخص من ديارهم، نصفهم من الأطفال.  وبينما ظلّت  الممرات المتعددة والمُهلكة في أغلب الأحيان إلى أوروبا وباقي أنحاء العالم تشغل وبشكل مستمر وسائل الإعلام العالمية والسائدة، بقي ملايين السوريين داخل الشرق الأوسط. الكثير منهم انتقل إلى لبنان بحيث أصبحت المدارس الرسميّة تعمل بدوامَين، مستوعبةً جزءأً صغيراً جداً فقط من التلامذة الذين تعطّل برنامج تعلّمهم النظامي. اتخذت نانسي نصرالدين، وهي باحثة أخرى تعمل مع «أشكال ألوان» على مشروع الطهو، مقاربة مضيئة وغير مباشرة للوضع من خلال استطلاع آراء أطباء نفس الأطفال والمراهقين عن تأثيرات التهجير على عادات الأكل لدى الناشئين. وتختبر نصرالدين فكرة أنه ربما يكون اللاجئين اللاجئون عرضةً لإضطرابات الأكل أكثر من أولئك اللذين بمقدورهم المحافظة على بيوتهم وعيشهم وروتين حياتهم.
في الماضي كنا نظن أن اضطرابات الأكل مقتصرة على . . . العائلات من الطبقات الإجتماعيّة والاقتصادية العليا، بسبب تأثيرات وسائل الإعلام والمسائل المتعلّقة بصورة الجسد. . . . ولكنني أظن، وبفعل العولمة، أن المعطيات الحاليّة تشير إلى إمكانيّة حدوث ذلك . . . عبر مختلف الطبقات الإجتماعيّة-الإقتصادية. فحتى ضمن المجتمعات التي تعاني من الحرمان المادي، فإننا نرى حالات من فقدان الشهيّة العُصابي وغيرها من التغيّرات في عادات الأكل. . . .
واليوم، إذا تحدثنا عن شخصٍ معرّض لخطر الإصابة باختلال في الأكل – بيولوجياً أو وراثياً، أو بسبب طريقة تكوين جسمه أو جسمها -  فإن وجود ضغوطات بيئيّة (في هذه الحالة التهجير والنزوح يمكنها أن تطلق العنان لاضطراب الأكل. يمكنها كشف القناع عنه وحثّه وتفجيره، وهنا تكمن العلاقة باعتقادي. . . .
فإذا كنت مراهقاً نازحاً وليس لديك الكثير من الطعام، وأنت قلق بسبب ذلك، وأنت تعاني أصلاً من ضغوطات نفسيّة بسبب التهجير، إن كان لي أن أخمّن، فإنك إما قد تمنع نفسك عن الأكل قلقاً من أن ينفذ الطعام، أو أنك ستخشى ألّا يتواجد ما يكفي من الطعام لإخوتك وأخواتك، أو أنك ستقلق لأن أمك قد تمرض ولا تجد ما يكفي من الطعام لتأكل – يشعر هؤلاء الأطفال بالقلق على جميع من حولهم، وقد يحدّون من مقدار استهلاكهم للطعام بسبب هذا القلق هذا، أو ربما تُصاب بالنّهم وتُسرِف في أكل الأطعمة غير الصّحيّة بدلاً من تلك الصّحيّة – هذان هما، باعتقادي، إثنان من السيناريوهات المحتملة.[4]
تتكرر حالات اضطراب الأكل المتّصلة بالحروب والنزاعات بعدة أشكال في لبنان، وتترواح بين معتدلة وبالغة. وهي تظهر أيضاً في الفن كما في الحياة. في «حجر الضّحك»، رواية هدى بركات البالغة الحسّية عن الذّكوريات المتصدعة في سياق بدايات الحرب الأهليّة، يبرز الطهو متجلياً بالعديد من المظاهر الفاتنة، من ضمنها رقصة دقيقة من الإلمام والإغواء والإمتناع في حوارٍ بين رَجُلين، أحدهما هو خليل، الحسّاس ومُثلي الجنس، الذي سيُحرق تماماً لمحاولته العيش خارج عنف الحرب.
في ناجي أشياء كثيرة لن يستطيع خليل تقليدها.. ولع ناجي بمذاق الأطعمة مثلاً، وقدرته على التمييز بين البهارات والمطيّبات أو درجة النضج، رغم أنه لا يأكل إلا القليل مما يثير شجن الست إيزابيل باستمرار ويحدو بها غالباً إلى دعوة خليل إلى الأكل بهدف فتح شهيّة ابنها...[5]
من الجهة الأكثر تطرّفاً في نطاق اضطراب الأكل، قامت الفنانة فرانسيسكا بيرفوس في بحثها لـ«أشكال ألوان» بإجراء مقابلات مع صيادلة وأخصائيي تغذية وجرّاحي معالجة السُّمنة، ومع أمهات وشقيقات نساء شابّات يعانين من اضطرابات الأكل، ومع تلك أولئك النساء الشابّات أنفسهن. عند قيامها بهذا كشفت الغطاء عن عالم هائل ومرعب من إيذاء النفس الوسواسي وسوء معاملة الذات – الكثير منه مرتبط بضغوطات تتراوح بين انفصال الوالدين، والتّهويل في المدرسة، ومرحلة البلوغ العاديّة، إلى الحرب في لبنان وفرض الحِصار على بيروت في صيف العام 2006 - بما في ذلك الإفراط في التمارين، الشره المرضي، فقدان الشهية العُصابي، الإسراف في تناول المسهّلات وحاصرات الدهون الدوائيّة ومثبطات الشهية ومضادات الإكتئاب ومضادات الذُّهان، للتخفيف من تلهف حرمان النفس من الأكل، وخافضات سكر الدم الموصوفة لمرضى السكري والتي إنما لها أثر جانبي معروف: خسارة الوزن. بعض النساء في لبنان يحقُنَّ أنفسهن بمثل هذه العقاقير في أماكن محددة من أجسامهن قبل ارتداء البيكيني مع قدوم موسم السباحة وارتياد الشواطئ في بيروت. اللافت للنظر في دراسة بيرفوس هو هذا الصراع لدى جميع الذين عاينَتهُم تقريباً (رجالاً ونساءً) من أجل إيجاد لغة ملائمة ومساوية لما يعيشونه.
كانت طريقة تعاطي ابنتي مع [اضطرابها] هي بإيذاء نفسها وجرح نفسها. كانت تنتقم من ذاتها لأنها أكلت أكثر من المقدار الكافي. عندما كانت تصل إلى هذه الحالة وتحسّ بالألم، تتوقف وتقرر إما أن تذهب إلى شخص يمكنه تنظيم أكلها، أو تدخل في هذه الحالة لفترة قصيرة من الوقت، وعندما ترى أنها لا تخسر وزناً في الوقت الذي أرادته وبالطريقة التي أرادتها، تبدأ بتجويع نفسها من جديد. وهكذا، نوبة تجرّ الأخرى.[6]

في حبكة من البحث المتشعب، ينظر مشروع الطهو في صياغة طقوس الطعام وعادات الأكل للنفس الفرديّة والإجتماعيّة. هذه المشاريع مُجتمِعة لا تأخذ في عين الإعتبار قضايا الإستهلاك فقط، لكن أيضاً مفاهيم الترويج والعناية، كما هو الحال مع استخدام ما يُسمّى «الشيطان الأحمر»، وهو مُركَّب كيميائي يوصف لعلاج العديد من أنواع السرطان، و«الدّوخة»، وهو نوع من التبغ يُزرَع في شبه الجزيرة العربيّة منذ ما يقارب الخمسمئة عام، والذي غالباً ما يُخلَط مع الأعشاب والتوابل والأزهار والفاكهة المجفَّفة. أُنس قطّان هي باحثة أخرى تقوم بدراسة حول استهلاك الدّوخة في الإمارات العربيّة المتحدة من قبل جيل الشباب المعرّضين للإصابة بالسّمنة المفرطة والسّكري. هل فقط في لحظات المرض والإتّكال والنّقص يصبح المجتمع قادراً على إعادة النظر في علاقته مع البيئة؟ هل أن تآكُل الموارد وحده هو الذي يُجبِرنا على جعل وصفاتنا وزراعتنا ومطبخنا قابلين للإستدامة؟ ماذا تخبرنا اضطرابات الأكل عن تداعي جسد، دولة، حضارة، ثقافة، عصر ما؟ غالباً ما تفرض تلك «القطيعة» نفسها في الجسد بطرق دراماتيكية، كما تروي نورما السنوح تجربتها مع «الشيطان الأحمر» لنانسي نصرالدين:
عن الدواء الأحمر ذاك . . . [ما أن] حقنوني به – أنظري، حتى في هذه اللحظة، مجرد الحديث عنه يشعرني بالغثيان – حتى شعرت بمذاقٍ غريب في فمي وأصابني الغثيان. كنت أشعر بالمرض بطريقة تجعلني عاجزة عن تحمّل رائحة العطر أو الأكل. لم أستطع أكل أي شيء. شعرت بغثيان مستمر طوال الجلسة الأولى، التي كانت يوم خميس. ظللت أشعر بالغثيان حتى يوم الأحد. في صباح يوم الإثنين بدأت أشعر بأنني شخص طبيعي مجدداً، ولكن بعد الجلستين الثانية والثالثة (عدد جلسات هو أربع [بالمجمل])، كان الغثيان يستمر خمسة أيام تقريباً. كنت أقول أن الشعور أشبه بجلوسي في بعلبك بينما غثياني يصل إلى الهرمل. إلى هذا الحد كانت نفسي تَجيش. . . . كنت أرفض جميع أنواع الطعام خلال فترة الجلسات هذه. عندما أرى شخصاً على وشك الخضوع لعلاج الشيطان الأحمر، تَجيش نفسي من جديد وأشعر بالتوتر الشديد. صارت تتطور عندي عقدة نفسيّة من الموضوع. . . . كنت أيضاً لا أنام كثيراً بعدها. . . . حتى شرب الماء كان يجعلني أتقيّأ. . . . شعرت وكأن ستاراً أسود يغطي وجهي. . . . لم يكن بإمكاني القيام بأي شيء. لم يكن بإمكاني أن أعمل.  كنت عاجزة عن الإستمتاع بوقتي. . . . لم أكن قادرة على الكلام. كنت أشعر بالغثيان باستمرار. . . . طوال فترة علاجي من السرطان، كان هذا بأشواط أعنف ما مررت به، وقد استمر لثلاثة أشهر كنت فيها مرهقة للغاية، كنت مغثيّة، توقفت عن الأكل، وكنت مجهَدة وضعيفة عموماً – وبالطبع، فقدت شَعري حينها.[7]
في الطهو إذن تتلاقى العمليات التي من خلالها نَستهلِك ونُستهلَك، مع ثقافات التذوّق والملذّة. ربما هو الفرن الذي يُطهى الموت داخله ليتحوّل إلى ثقافة (تُقدَّم على موائد الأكل)، ثم يُستَقلَب عائداً إلى الحياة عبر أجساد الأَكَلة. في حالة امرأة شابة تعاني من اضطراب في الأكل، إمرأة تعاني من الوسواس القهري ومُبدعة بشكل مأساوي بنزعاتها الإنتحارية، كان أفضل ما يمكن أن تحصل عليه من رعاية صحية عقليّة (التي لا يغطّيها التأمين، طبعاً) هو طبيب وصف لها تناول سبعة أدوية مختلفة يومياً. هنا  لا يُعنى حيّز الطهو باستنتاجات علم الإجتماع الجافة بقدر ما يُعنى بالسيطرة ــ أو فقدان السيطرة ــ على ذات المرء وجسده.  يُعنى الطهو باستخدام الروتين، والممارسات الصحيّة ظاهراً كالأكل، كسلاح في العلاقة مع ثقافة التّجويع والإنكار وإيذاء النفس. تقدّم تجارب هذه الأجساد الهشّة، والتشويه البالغ في رؤية العالم لها، تعبيراً ماديّاً قاسياً ولكنه ضروري لجسم سياسي غارق في محنة عميقة. 
تهبُّ الرياح الساحليّة باتجاهي وترفعني حتى النهاية. أنظر إلى الخلف وها هو آكل لحوم البشر، يتأرجح من جانبٍ إلى آخر على دراجته. ثم من حيث لا أعلم، كبوّابة عديمة الجدوى تقف من تلقاء نفسها في وسط الصحراء، تبعث بي سيارة مركونة إلى الإسمنت. لست متأكداً من نوع السيارة أو مصنّعها، لكني أشعر وكأنني في مُدّرَّج عام، عاري تماماً. يُشاهد عابروا السبيل وكأنهم يَشْهدون عملية إعدام. دراجتي ترتجف والحشود تزأر ترقّباً. لدي صعوبة في تذكّر لحظة الإصطدام، باستثناء أن القوّة أردتني أرضاً. في لمحةٍ يقلب العالم أسود بلون الخوخ المجفّف، مجعّد عند أطرافه. أفقد شهيتي تدريجياً. تبدأ حواسّي بالتلاشي. دمي، ألذّ من رمّانة، يُستنزَفُ من داخلي. اُخِذّت أطرافي منّي ليأكلها آخرون.
الطاحون يكركر عندما يُطحن القمح.[8]


[1] سمير قصير، «تاريخ بيروت»، ترجمه من الفرنسية ماري طوق غوش (بيروت، دار النهار،2007)، ص. 422

[2] بريجيت كالاند، «بين الحقيقة والخرافة: الطعام كعرض للسلطة والحركات الفكريّة من بلاد الرافدَين إلى الإمبراطورية العباسيّة»
(Between Reality and Myth: Food as a Display of Power and Intellectual Movement from Mesopotamia to the Abbasid Empire)، ص. 8 - 9

[3] طارق العريس، «مِحَن الحداثة العربيّة العربيّة: الوجدان الأدبي والسياسية الجديدة»
(Trials of Arab Modernity: Literary Affects and the New Political، نيويورك،
Fordham University Press، 2013)، ص. 77

[4] فادي معلوف، طبيب متخصص في علم نفس الأطفال والمراهقين، أستاذ مساعد في قسم الأمراض النفسيّة في المركز الطبي في الجامعة الأميركيّة في بيروت، في حوار مع نانسي نصرالدين.

[5]  هدى بركات، «حجر الضحك» (لندن، رياض الريس للكتب والنصر 1990).

[6] أم لإبنة عمرها 20 سنة تعاني من اضطراب في الأكل، في حوار مع فرانسيسكا بيرفوس.

[7] نورما السنوح، ناجية من السرطان ومن علاج الشيطان الأحمر الكيميائي، في حوار مع نانسي نصرالدين.

[8] فيكين بربريان، «الدَّرّاج» (The Cyclist،  نيويورك، Simon & Schuster، 2002)، ص. 187


ترجمه عن الإنكليزية زياد شكرون.

عمر برادة وأمل عيسى وبراين كوان وود وكيلين ويلسون- غولدي  محرّرو «تماوج»، منصة النشر الإلكترونية لـ«بينالي الشارقة 13».

زياد شكرون (بيروت، 1982) ممثل ومترجم يعيش ويعمل في بيروت ومدريد. حائز على بكالوريوس في المسرح من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، وعلى ماجستير في الترجمة من مدرسة طليطلة للمترجمين في إسبانيا. من آخر  ترجماته كتاب «زمن العين وعمره» لـِ وليد صادق (من العربيّة إلى الإسبانيّة)، و«كيف تعرف ما الذي يجري حقاً» لـِ فرانسيس ماكّي (من الإنكليزيّة إلى العربيّة).


إرسال تعليق

أحدث أقدم
header ads
header ads
header ads