سلوى لوست بولبينة جايسون دوكاير تايل...

جايسون دوكاير تايلور، «قارب لامبيدوزا» (2015)، المتحف الأطلسي، متحف تحت الماء قرب الشاطىء الجنوبي لجزيرة لانزاروت بجزر الكناري. الصورة: جايسون دوكاير تايلور
FR
فوضى الماء هي أكبر فوضى (...). وماء البحر هو الماء الأكثر لاتحدّدا من اللامُتحدِّد. فهو في كل لحظة في حركة بشكل غير ذي معنى، بلا نهاية ولا أصل.[2]
الأساس هو ألا يفشل المرء في أن يجعل من مجهودات حياتنا مجهودات متناغمة، وفي أن يعضّدها حتى الرمق الأخير.[3]
حدد علماء القانون الماءَ بوصفه خيراً مشتركاً. فقانون الملكية المتحكِّم في الأشياء (بخلاف قانون الأحوال الشخصية الذي ينظم الأفراد)، يقيم اختلافاً بين ما يمكن تملُّكه وما يتعذر تملكه، أي الخيرات المشتركة، كالهواء والبحر أو الماء الجاري. إذ سبق أن ثبّت القانون الروماني الأنهار وشطآنها خيراً عمومياً. والماء، من بحر ومحيط،[4] كما نعلم، لا يقبل العمران، فلا يمكننا أن نشيّد فيه أسواراً أو أبنية. وحدها بعض المحطات والمنشآت البحرية الثابتة أو العائمة تشكل قواعد لاستغلال آبار البترول. بالمقابل، يقبل الماء الإبحار فيه وعبوره، سواء تعلق الأمر ببحيرات أو أنهار، ببحار أو محيطات. الماء هو فضاء حركة، وبالتالي فهو فضاء هجرة. الماء طريق المبادلات التجارية والحركة «الحرة» للأشخاص والبضائع. وهو اليوم، أولاً وقبل كل شيء، مكان التدخل الإنساني العاجل.
الخلاء مرتْع لكل أنواع الضياع والغرق
حين طرح أحد الصحافيين اليابانيين سؤالاً على ميشال فوكو سنة 1979، عن «ناس القوارب» الفيتناميين والكامبوديين، أجاب قائلا: «هؤلاء اللاجئون يشكلون إنذاراً بالهجرة الكبرى في القرن الحادي والعشرين».[5] وكان أربعون ألف فيتنامي قد أبحروا من غير وجهة محددة في قوارب صغيرة، إضافة إلى أربعين ألف كامبودي تم طردهم من تايلاند آنذاك. ارتكزت إجابة فوكو على ثلاثة عوامل محدِّدَة. فقد رأى أن المجازر الجماعية وعمليات الاضطهاد العرقي سوف تعود للظهور في المستقبل، وسوف تتكاثر هجرات المجموعات البشرية بفعل اضطرابات ما بعد الاستعمار. كما رأى أن البلدان المتقدمة قد تجبر المهاجرين على العودة إلى بلدانهم. يقول فوكو مضيفاً: «هذه الاضطرابات كلها، تؤدي إلى مشكلة الهجرة التي سيعاني منها ملايين الأشخاص. وستغدو الهجرة الجماعية بالضرورة أمراً مؤلماً ومأساوياً بحيث لا يمكن إلا أن يصاحبها الموت والتقتيل. وأنا أخشى أن ما يحدث في فيتنام ليس جرحاً من رواسب الماضي، وإنما هو أمر ينبئ بالمستقبل».
هذه النبوءة لم تلبث أن تحققت فعلاً، بل وصارت الظاهرة أكثر بروزاً مع تدفق اللاجئين والنازحين على الدول المتقدمة، آتين من البلدان الأكثر فقراً في العالم.
أما غرق القوارب فهو أمر كثير الحدوث، وذو طابع سياسي أيضاً. فالقوارب تنقلب عادة في بحيرة ألبير التي تتقاسمها أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وهي غالباً ما تكون معبأة بأكثر من سعتها، ومن جهة أخرى تتقاذفها الرياح الهوجاء. ففي مارس/آذار 2014، كانت حصيلة غرق باخرة تقلّ لاجئين كونغوليين من أوغندا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية 201 غريقاً ومفقوداً. وفي شمال تلك المنطقة، في بداية تشرين الثاني/نوفمبر 2016، مات غرقاً في عرض سواحل ليبيا 239 شخصاً بحيث بلغ عدد الغرقى والمفقودين 4220 منذ بداية السنة. «ثمة مأساة أخرى حدثت في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، على بعد 25 ميلا من السواحل الليبية. ففي ليل الأربعاء والخميس، تم إنقاذ 29 مهاجراً من الموت بعد غرق قاربهم، وتم إيواءهم بجزيرة لامبيدوزا الإيطالية. وللتو،ّ أكدت شهاداتهم قلق المنقذين، إذ أن قاربين ممتلئين عن آخرهما بالمهاجرين كانا قد غرقا وعلى متنهما حوالى 300 شخصا».[6] وغالباً ما يكون «العبور» الذي ينظمه «العبّارون» إكراهياً. واليوم صارت هذه التجارة البحرية مزدهرة على نحو مأساوي. ففي أوائل يونيو/حزيران 2016، هلك ما يناهز 1500 شخص في البحر المتوسط في غضون أسبوع واحد. واقترحت إيطاليا لمكافحة الظاهرة إقامة محطات طارئة عائمة لفرز المهاجرين في عرض البحر.[7] أما بالنسبة لـ«أناس القوارب» الفيتناميين، فقد قدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن ما بين 200 و250 ألفا منهم قد هلكوا في بحر الصين غرقاً، ومن بينهم حرس السواحل والقراصنة.[8] إنها الأبعاد الكونية للسماء والماء والحياة.
إزاء هذه «الهجرة الكبرى للقرن الحادي والعشرين»، تكون نظرتنا اليوم قد انقلبت كلياً، على الأقل في أوروبا. فإذا كان المنفيون في سبعينيات القرن الماضي يُنظَر إليهم باعتبارهم ضحايا، فإن طالبي اللجوء اليوم يُنظر إليهم باعتبارهم انتهازيين. لقد كان أفلاطون يعتبر الدخيل «طيراً مهاجراً يعود في فصل الحصاد لأثينا، بحيث يشكل خطراً عليها، إذ أن المكاسب تغريه».[9] وبالفعل فإن علاقة الدخيل بالمواطن ليست مثل علاقة المواطن بالدخيل لأنها علاقة غير متوازنة. فعلى الرغم من أن أولئك الغرباء يسْدون الخدمات للمدينة، فإننا نعتبرهم يقومون بذلك من باب الحرص على مصالحهم الشخصية، من غير أن يدافعوا عن أثينا حين يكون ذلك ضروريا، حتى حين يحاربون من أجلها.[10] إنهم يساهمون في الحياة الاجتماعية، غير أن الانتخاب ممنوع عليهم. ومن ثمة، هم فاعلون سياسيون غير مكتملين.[11] ولكن كما يؤكد صابر المنصوري[12] (في اختلاف النظرة إلى الدخيل بين الماضي عن الحاضر): «هم لم يواجهوا أبداً همومنا ولا مفاهيمنا المعاصرة، من عدم تسامح، وعنصرية وعداء للأجانب وخوف من الغريب واضطهاد، الخ». إذن، لا يمكننا أن نُسقط على العصور القديمة مقولات مألوفة لدينا اليوم، فالرفض الكبير للآخرين[13] ليس أمراً من المستحيل تفاديه. واقتياد «المهاجرين غير الشرعيين» إلى الحدود، المصحوب بالمشهدية وبالضجة الإعلامية، يجعل منهم كبش فداء. وحق اللجوء تقلَّص كما الجلد اليابس. وهو أمر ينطبق على الأخص على البلدان الأوروبية التي تتوفر على ثغور بحرية كاليونان وإيطاليا.
نادراً ما تتوافق الجغرافيا، التي يحملها المهاجرون في أذهانهم وحسب، مع الخرائط البحرية والأرضية، في العبور الخطير والطويل للفضاءات البحرية. وحين نطلب من بعض المهاجرين أن يرسموا لنا مسيرهم، مستفسرين منهم سبل تنقلهم ووسائل النقل التي اعتمدوها، فإن المخيال وحده هو الذي يُوظّفونه، ليتفتَّق عن هذا الفارق بين الخرائط ومخيالهم كل الأخطاء والتشوهات التي يولِّدها جهلهم بالجغرافيا. فهل يعرف هؤلاء الشباب إلى أين يقصدون؟ إنهم لا يتوفَّقون في تحديد الأمكنة على الخريطة، فالمسافة بالنسبة إليهم هي الزمن، المحسوب بالساعات والأيام والأسابيع بل بالأشهر أحياناً. وحين يحالفهم الحظ فيصلون إلى لامبيدوزا.[14] آمنين سالمين، فذلك وهم يقصدون مكاناً آخر. الهوة تكون أكبر مما نتصور بين مخيال أولئك الذين يذهبون في رحلة بلا عودة وبين الواقع الذي يدركه من يراقبون تحركاتهم. ذلك هو تناقض الفضاء الأملس للمبحرين والفضاء المحزَّز للمراقبين.[15]
إن الأمر مختلف من الناحية الذاتية كما الموضوعية، بين أن يغير المرء بلده بالفرار منه على قارب الحظ، من غير أن يكون متأكداً أنه سيصل إلى الضفة الأخرى سالماً، وأن يكون المرء قد استقر في بلد آخر مدعوماً لحد كبير من شركته، أو أن يكون قد تم تشغيله كيد عاملة رخيصة من قِبَل مشغِّلين بعيدين وغرباء. هؤلاء المهاجرون لا يعبرون كلهم البحر بما يحمله ذلك من مخاطر. فالهجرة ليس لها الأشكال ولا الأسباب ولا الآثار نفسها. فهي يُنظَر إليها باعتبارها حركات عنيفة (أرسطو) تبعد الناس عن «الوسط الطبيعي». كانت راحة الشيء في وسطه الطبيعي (أي ثباته) تمثل في نظر الفيلسوف الوضعية العادية، والعودة إلى الوسط الطبيعي حركة طبيعية. وننحو إلى التفكير، سياسيا، في الهجرة داخل مقولات من قبيل «الإقتلاع من الجذور». فكيف يمكن أن نفكر فلسفياً في هذه الظاهرة؟ ما معنى أن يغير المرء قارته؟ ما الذي يعلمنا إياه «أناس القوارب» أمس واليوم، عدا الشجاعة وقوة الشكيمة، حين يتوصلون إلى الاستقرار بعيداً عن مواطنهم؟
الهجرة بوصفها واقعة اجتماعية شاملة وانعداماً للياقة
إن المكان التي تنتجه تلك الرحلات البحرية، باعتباره هو نفسه، متحركا وعائما، عبارة عن «عالم بين عالمين». تشهد على ذلك تلك النزعة الوطنية الخصوصية غير المتصلة بأرض معينة التي تسمى «وطنية عن بعد».[16] إنها وطنية متحركة و«محمولة» حسب تعبير بنديكت أندرسون، «تتمظهر تحت يافطة الهوية، وتتنامى بشكل مطرد لدى الأفراد الذين يوجدون في حركة».[17] الهجرة تعيد تشكيل الطريقة التي بها يتصور المهاجرون العلاقة مع الدولة والأمة خارج بلدهم، لأن «المهاجر يعيش بشكل تزامني في فضاءين اجتماعيين: فضاء بلده الأصل وفضاء بلد الاستقرار. والهدف لا يكمن في إنشاء دولة أمة، وإنما في إعادة بناء البلد الأصل».[18] المهاجر إذن يعيد خلق بلده الأصل، وهو نقيض مفهوم «وطنية الشتات» الذي ابتدعه إرنست غيلنر[19] لتعيين الوضعية الخصوصية للأشخاص في وضعية أقلية دينية أو لغوية كيهود أوروبا الوسطى، والذي يُفضي إلى مطالب قومية ترابية. إن الحدود اللامرئية لـ«الجماعات»، الناجمة عن الهجرة ولكن غير المنتَجَة من قِبَلها، تضاعف الحدود المرئية لـ«الأراضي» من غير أن تتقاطع معها.
الهجرة واقعة اجتماعية شاملة.[20] وقد أدرك كلود ليفي ستراوس رهاناتها وخصائصها؛ ففي نظره، كل واقعة اجتماعية ثلاثية الأبعاد: «إذ ينبغي المطابقة بين البعد السوسيولوجي الحصْري بما يرافقه من وقائع تزامنية متعددة، والبعد التاريخي أو التعاقبي، وأخيرا البعد الفيزيوسيكولوجي».[21] من هذا المنظور، فالهجرة في الآن نفسه «شيء» و«تمثيل»، وهي تُمفْصل صيغاً متنوعة للاجتماعي، ذات طابع قانوني واقتصادي وجمالي وديني، الخ. إنها تدمج لحظات مختلفة من تاريخ فردي ما، من الولادة إلى الطفولة والمراهقة، إلى التعليم، والزواج، الخ. وهي أخيراً تقبل العديد من أشكال التعبير، ذات الطابع الفيزيولوجي كردود الأفعال اللاإرادية والنزعات العاطفية والإبطاء والإسراع، وذات الطابع الرمزي كالتمثيلات، سواء كانت واعية أو لاواعية. إن معنى مؤسسة ما لا يمكن التوصل إليه إلا بشرط الإمساك بوقعه الذاتي. فلكل واحد طبقته الاجتماعية وتاريخه الفردي وصيغ تعبيره.
غالبا ما تصاحب الموسيقى (كما الطبخ) الهجرات باعتبارها فن من فنون الذاكرة وحبلاً يسمح باستمرار الارتباط بالبلد الأصل وثقافته. كم من الدومينيكيين في نيويورك بالأخص يستمعون بلا انقطاع لموسيقى الباشاطا وغيرها من أنواع «الميرينغي»؟ وبصفة أكثر عمومية، تساهم الموسيقى بشكل كامل في الهجرة وتجد أصلها في «الوطنية العابرة للوطنية» التي حدّدتها ريفا كاستوريانو. إنها تشكل ركيزة ودعامة. وهي، في العمق، المقابل لا لأرض ما وإنما لأرضية (عائمة)، لأن الموسيقى، بقدرتها على الاحتواء، تشبه اللغة الأم، التي كما هو معلوم لا تحتاج شرطاً إلى الكلمات كي تُفهم. وبما أنها تجسيد للنوستالجيا و«للحنين إلى الوطن»، فهي تساهم في الحفاظ على ديمومة الأنا. يلاحظ إدوارد سعيد أن «أغلب الناس يكونون واعين بثقافة ما وبمحيط أو بلد ما؛ والمنفيون يعيشون منها على الأقل اثنين، وهذه التعددية تجعلهم واعين بوجود أبعاد متزامنة. إن وعياً من قبيل هذا هو وعي «طباقي»، كي نستعمل تعبيراً موسيقياً».[22]
في أغلب الحالات ليس هناك «عودة للبلد الأم». هكذا تنشأ فضاءات انتقالية تتم فيها إعادة تشكيل الذات. وقد كان أوفيد صاحب كتاب «التحولات» هو أيضا محكوماً عليه بالنفي إلى حد أنه صام عن الأكل وصار سقيما، وتحدث عن ذلك بمرارة في كتاب «الأحزان». للهجرة أيضا أمراضها، وآلامها الجسمانية والنفسية. فالقطيعة مع الحياة الماضية تولّد فقدانا نسبياً للتحكم في النفس، يمكن أن يكون لها بالغ الأثر على الفرد؛ ذلك أن الأغلفة المتعددة (الاجتماعية والعائلية والرمزية والجسمانية، الخ) التي كانت تحتوي الأنا تكون قد تبددت. وعلى المرء أن يعيد تشكيلها أو بناءها في أقصر الآجال، وغالبا ما يتم ذلك في عزلة كبيرة. ويكمن الخطر في الإنهيار أو في الانغلاق (الغيتو). على المستوى الشخصي، تعني الهجرة انفصالاً في البدء، ثم تكيّفاً، وأخيرا اندماجاً. كتب ستيوارت هول قائلا: «وأنا أفكر في تصوري الخاص للهوية، أدركت أنها قامت دوماً على كوني «مهاجراً»، وأنها نهضت دوماً على ما يجعلني مختلفاً عنكم».[23]
في هذا السياق، وبالتفكير في الأسئلة الموجهة للمهاجرين من قَبيل «لماذا أتيت إلى هنا؟» أو «متى ستعود إلى ديارك»، يقدم ستيورات هول تفسيراً يبدو محرّماً (تابو) بشكل عميق. فهو يمنح سبباً بغاية الفرادة لهجرته، بحيث يبدو ذلك تفسيراً كونياً. وتصريحاته لا يمكن إلا أن تثير الدهشة: «في الحقيقة أنا أوجد هنا (في إنكلترا) لأن عائلتي غير موجودة فيها. لقد نزحت إلى هنا هرباً من أمي، ذلك هو السبب الحقيقي».[24] لقد كان عبوره للمحيط الأطلسي فراقاً كبيراً: إذ أنه أيضاً فراق عن الذات أو عن ذات معينة. ليس من الممكن، حين يكون المرء بشكل ما منفصلاً عن ذاته وغير قادر على «امتلاك» هوية موحَّدَة، أن ينخرط سياسيا مئة في المئة. وبالتالي، يأتي الانطواء على «العرقية». إن الانخراط في هوية خيالية مفترضة يبدو إذن شرطاً للانخراط في عمل سياسي معين. فعلاقات القرابة أو الأصل تكون وراء الخصام أو الاختلاف (ما زال من الممكن تبادل الحديث)، بينما الحرب تكون مع الغرباء أو العائلات الغريبة. وسيُقال اليوم بأن الخلاف يكون داخل الجماعة نفسها، حين تكون الحرب مع جماعات أخرى. الهجرة تقلق المواطنة، فهي تفكّها عن المجال الترابي، وتصدّرها، ويمكنها أن تتخلى عن مواطَنة ما لتمارس أخرى، مطابقة مع حقوق سياسية مختلفة. ففي إطار دولة وطنية كفرنسا، يُنظر إلى المهاجرين كتهديد للتراب الوطني، ومن ثم، للسيادة الوطنية.
في العمق، ما يتم نقده إن لم يتم عتاب المهاجرين عليه، خصوصاً الأشد فقراً والأشد هشاشة من بينهم، هو انعدام اللياقة والملاءمة. والكلمة في الفرنسية (impropriété) مشتقة من الفعل اللاتيني « appropriare » ومن الإسم « ad proprius » و« proprius » أي «ما ينتمي أصلا، وما لا يمكن تقاسمه»، وهو يتعارض مع « communis » (المشترك). ونظرا للأصل اللاتيني المشترك فإن الإسمين الحديثين « property » و « propriété » يتقاسمان الأصل نفسه في الجذر الهندأوروبي (per-) الذي يوجد في أصل النعْتين « proprius » و« privus » (الشخصي والخاص). كان الجذر الهندأوروبي (per-) يعني «الأول»، و «قبل الباقي» و«الوحيد». المهاجرون ليسوا هم الأوائل، إنهم الأخيرون على كافة المستويات. فهم فعلاً دوماً أجانب (منظوراً إليهم باعتبارهم بلا وطن)، وفي الغالب باعتبارهم متشردين (أي بوصفهم أناساً بلا عمل).
التنقل والتحول والفلسفة البحرية
«الماء هو حقاً العنصر الانتقالي. إنه التحول الأنطولوجي الجوهري بين النار والأرض. والكائن المنذور للماء كائن في دُوار دائم. فهو يموت في كل لحظة، وثمة باستمرار شيء من ماهيته ينهار».[25] ففي ميتاسياسية هيرقليطية للماء (البحار والمحيطات) يمثل الماء عنصر الفكر نفسه. لماذا شُغف إدوارد سعيد عميقاً بجوزيف كونراد؟... يعود تحرير المعارف من الاستعمار إلى الهجرة، وإلى المرور والعبور. فكل فضاء يتم عبوره خلال هجرة ما هو، بعبارة مجازية، عائم، وبعبارة مفاهيمية عالم بيْنيٌّ. إن الوجود البيْني الخاص بالهجرة يفجر مجموع التدابير المكتسبة للتفكير والفعل في محيط محدد، ما إن يتم فقدانه حتى ينتج فقداناً للمعالم يفرزُ بدوره ضرباً من العوم التائه. ففقدان السياق واستعادته، وإعادة التشكيل والحياد الفكري عن المركز، أمور تفتح الطريق أمام العديد من أنواع تفكيك الحدود. وهي تتخلّى عن المعارف المستهلكة. والتطرق لنزع الاستعمار عن المعارف انطلاقا من منظومة الهجرة هو سبيل لمحاربة إمبراطورية الخاصية وديانة «الخاص». وبعيداً عن اعتبار الأفكار انطلاقاً من «موطن ولادتها» الذي غالباً ما يكون مبني على الهيْمَنة، علينا تصورها من منظور التداول والمبادلات. ما هي خارج «البلد الأم» و«اللغة الأم»؟ وأي استعمال يُخصَّص لها؟ كيف يمكننا التطرق للعوالم البيْنية التي تنتجها التنقلات ومجاوزات الحدود وانمحاؤها ؟
الأرض والبحر. لقد سعى أغلب المفكرين إلى مسّ الصخر أو بلوغ اليابسة (السفر الشجرة).[26] كما سعوا إلى القضاء على اللايقين، الذي يظل ملازماً لكل نشاط فكري. ومع ذلك فالماء هو صورة التنقل والشفافية بامتياز. أن نسيل هو أن نصفّي، ونوضّح، وننير. والسائل يعني المائع والجاري والواضح والشفاف. كما أن الماء، والبحر أو المحيط بالأخص، يمكِّننا من إدراك فضاء الفكر نفسه (السفر الجذور).[27] وليس من قبيل الصدفة أن الإغريق جعلوا من عوليس تجسيدا للـ«مِتيس»، أي للذكاء الماكر الضروري لكل ملاحة. إن الهجرة والتنقل أساسيان في تشكيل السيرورة الفكرية، عبر الانتقال من حقل معرفي إلى الآخر، بترجمة لغة أو لسان إلى آخر، وعبر هجرة المثقفين والفنانين من بلد إلى آخر، بل من قارة إلى أخرى. كيف نقيس كل الهجرات التي تتمُّ بنيوياً وظرفياً مع الأفكار وفي الأفكار، وكذا العلاقات بين المسارات الجغرافية للمفكرين والتنقلات والتحولات التي تعيشها المفاهيم والنظريات التي يصوغونها، والتوتر بين العالم الكلي، المتشكل دوماً تاريخياّ، والجغرافيات التي يتبلور فيها؟
إذا كان تغيير المكان الحياتي يؤثر على الكائنات الإنسانية، كيف يمكن أن تشذَّ أفكارهم عن ذلك التأثير؟ ليست فقط الشروط المادية واللامادية هي التي تتغير من مكان لآخر ولكن أيضاً فضاءات الفكر نفسها ومساحات انتشارها. إن عبور المحيطات، والإقامة فوق الماء، تخلْخل الوجهات وتمارس التحويل وتحفر في أعماق الحيرة. لقد اختفت المعالم الأليفة؛ ومن السهل أن يحس المرء بالضياع في أحادية العنصر المائي مغموراً في شساعة مياهه. ألا يلزمنا لكي نفكر أن ننقطع عن ذاتنا، وألا يكون لنا مكان خاص ولا خاصية؟ فمن دون هجرة، ليس ثمة من فكر ممكن؛ ومن غير عوَز ليس ثمة من فلسفة. لقد قام أفلاطون بتوظيف إحدى الأساطير كي يكشف عن «الفقر» البنيوي للبحث. ففي كتاب «المائدة»، يجعل أفلاطون من إيروس شيطاناً متسولاً شارداً مثل أمه، ولكن بذكاء ومكر أبيه، «من غير مأوى ولا يفترش إلا الغبراء»، ولكن مثابراً وحذقاً وراغباً في المعرفة، «لا يكف عن التفلسف، وفاتناً وساحراً وسفسطائياً»، في ما بين الوفرة والفقر، لا هنا ولا هناك، وليس من هنا ولا من هناك. يصلح لكل شيء ولا ينتمي لشيء. لهذا، يلزم التخلي عن فكرة التحكم في النفس، عن ادعاء الإتقان والانتماء. وينبغي تفضيل الأملس على المحزَّز.
«البحر فظ بلا قلب، فهو لم يبحْ بشيء لأولئك الذين توددوا لرضاه المتقلقل. على خلاف الأرض، فهو لا يمكن إخضاعه مهما طال الصبر وكبر الجهد».[28] إن الحقول المفتوحة المسجلة عقارياً هي صورة لفضاء معلَّم ومشفَّر ومقسّم وذي حدود، أي أنها «فضاء محزَّز » أو قماشي (بحيث تتشابك خيوطه مع وجه وقفا). وبالعكس، فإن المحيط هو صورة «الفضاء الأملس» للشرود والانفتاح، واللَّبَد (بحيث تتشابك أليافه من غير وجه أو قفا)، ففيه تَرسُم الطرق نفسها عوض أن تُرْسم، ذلك أن المعالم إذا ما هي وُجدت، فإن العواصف وغيرها من التيارات لا ترحم المبْحرين. الإستقرار مقابل الترحال والشكل مقابل القوة. وإذا ما كان هذان النمطان من الفضاء يتمازجان، فهذا لا يعني البتة أنهما ليسا متمايزيْن. فالفضاء الأملس لمْسي؛ إنه فضاء (توجيهي) كثيف بالعواطف والأحداث.[29] والسَّفر الفلسفي والفكري، بشكل أكثر تعميماً، هل هو «سفر شجرة» أم «سفر جذور»؟ هل هو «اشتغال» للفضاء المُحزَّز أم «فعل حرّ» للفضاء الأملس؟ الفكر يرسم فضاء ذهنياً. لكن أي من الفضاءات الذهنية؟ والنموذج الملاحي للأملس والمحزَّز يهمنا بشرط «ألا نعتقد أبدا في أن فضاءً أملس يكفي لإنقاذنا».[30]
على الفكر أن يتعلم من الملاحين والغرقى ولاجئي الأمس واليوم؛ كما من المغامرة والمخاطرة. عليه أن يتعلم من الدوامات والتيارات والعواصف والمدّ والجزر، كما من الحيرة وعدم الثبات. روى غاستون باشلار أن أولى قراءاته لكتاب «مغامرات آرثر غوردن بيم من نانتاكيت»، وهي حكاية رحلات وغرق، قد أضجرته إلى حد أنه لم يستطع إتمام قراءة الكتاب. لم يفهم إدغار ألان بو. وحين استعاد، بعد ذلك بسنوات، هذا الكتاب على ضوء التحليلات التي قامت بها له ماري بونبارت وضع الكتاب في محله، «أي في تخوم اللاوعي والوعي». لقد أدرك حينها أن «هذه المغامرة التي تبدو كما لو تجري أحداثها في محيطيْن هي في الواقع مغامرة للاوعي، أي مغامرة تتحرك في ليل نفس بشرية».[31] والعادة القاضية بوضع الموتى أو الأطفال في البحر هي لديه الدليل الصارخ. هكذا تهمِّش عقلانية الفكر الأمور الجوهرية. كتب باشلار: «لا نفعية يمكنها أن تضفي الشرعية على المخاطرة الكبرى لمعانقة الأمواج. فلمواجهة الإبحار ينبغي توفر مصالح بالغة القوة. والحال أن المصالح القوية الحقة هي المصالح الخيالية. إنها المصالح التي نحلم بها لا المصالح التي نحسبها. إنها المصالح العجيبة. بطل البحر هو بطل الموت. والبحّار الأول هو أول إنسان حي كانت شجاعته تضاهي شجاعة الميت».[32]
ليست هناك تعليقات