ليزا روبرتسن ...

جيان لورنزو برنينيي، نبتون وترايتون (تفصيل لنبتون)، حوالى 1622-1623. رخام، 182 سم. متحف فيكتوريا وآلبرت، لندن.
محتضَراً في غرفةٍ في روما، أثناء إنصاتهِ إلى نافورةِ باركاتشيا لبِرنيني، المنحوتة على شكل زورق والمحاذية لنافذته، ألّفَ الشاعرُ جون كيتس الكلماتِ المنقوشةَ على شاهدةِ قبره: «هنا يرقدُ مَن كُتبَ اسمه بالماء».
بودلير، الذي وصفَ في «سأم باريس» رجاءَه أن يعضَّ شَعرَ جانّ دوفال الأسودَ المنثالَ المعطَّر، ما كان بمستطاعه أن ينطقَ إلا عبارة واحدةً طوال الشهور الأخيرة من حُبْسة الشلَلِ الذي أودى به: «sacré nom» [اسم مقدَّس].
دهمتِ الشاعرَ سكتةٌ دماغية أثناء انبهاره بشبابيك الاعترافات، المقدودة برهافةٍ وبراعة، في كنيسة سان لُوْ الباروكيّة في نامور ببلجيكا، وهي كنيسةٌ سبقَ له وصفُها بأنها «مشؤومةٌ وتُغازِلك» في آنٍ معاً، باطنُ «منصّة نعش رهيبة وتُشْتهى» «مزركشة بالأسود والورديّ والفضيّ». (تذكّروا أن منصّة النعش هي القطعة المزخرفة التي تسند التابوت في الجنازة).
إذا كان بودلير، في قصيدة «نصف كرة أرضية في خصلة شَعر»، يقارن شَعر جانّ دوفال الأسودَ بالماء، فذاك لأن شَعرها مبدأ كونيٌّ عصيٌّ على الاختزال. «دعيني . . . أغمس فيه وجهي كلَّه، كظمآن يغمسُ وجهَهُ في مياهِ ينبوع».
داخل هذا الشَّعر، الحافلِ بالأشرعة والصواري، يشرعُ برحلةٍ بحرية. شَعْر جانّ دوفال ينبوعٌ وبحرٌ في آنٍ واحد، منهلٌ ومسافة. هاتان هما سمتا الماء.
في الديانة الرومانية القديمة، كان إلهُ البحر نبتون في البدء إلهاً للينابيع والأنهار، يقول جورج دوميزيل. كان الاحتفالُ بواحدٍ من أعياد هذا الإله، عيد لوكاريا، يتمّ في 21 تموز/يوليو من كلّ عام، تخفيفاً لظروف القحط في الغابات.
سنة 1826، كتب جيمس ميلينغن في «معالم أثرية قديمة غير مسبوقة 2»: «قبل ركوب البحر في مِلاحةٍ بعيدة أو في خضم عاصفة وسواها من مخاطر البحر، كان عهْدُ البحّارةِ وآخرين سواهم أن يَعِدوا بتقديم القرابين والأعطيات لنبتون وغلاوكوس وشتّى آلهة المحيطات، إذا وصلوا آمنين إلى وِجهتهم. وأحياناً كان قصُّ الشَّعر واحداً من تلك النُّذور».
جرتِ العادة بتصوير إلهِ البحر نبتون بشَعر ولحيةٍ مُرسَلين أجعدين. وعند نجاتهم من تحطُّم السفن، كان البحّارة يجزُّون شَعرَهم ويتركونه على مذبح الإله كأعطيةٍ طقوسية. أو كانوا يجلّلون المذبحَ بأية قطعةٍ من ملابسهم التي لم يمزّقها عن ظهورهم عُبابُ الموج.
الشَّعر أساسيٌّ في العالم البودليري. حركته وعُمقه وملْمَسه وعبَقه تستدعي رحلاتٍ في الذاكرة والأحاسيس. يتأرجحُ بودلير داخل الشَّعر كمَن تؤرجِحه رقّةُ الأمواج في ميناء. وكان ينفض شَعر جانّ دوفال "مثل منديلٍ معطَّر"، ليطلق سراح ذكرياته في الهواء، مثلما يطلق البحرُ فَوْحَهُ العريق.
عضُّ الشَّعر، الكتابةُ بالماء، تسميةُ الإله، نفْضُ القماش - تمّحي الإيماءةُ لحظةَ تدوينها، تمحوها الاستقلاليةُ الباهتة لدى حاملها الأساسي.
الاسم، الماء، الشَّعر، العبَق - تأبى الاستحواذ. استقلاليتها تستدعي انغماساً غامضاً.
كان عالِمُ اللسانيات إميل بنفنيست، المولود في حلب، قد غيّر اسمه المعتمَد من عزرا إلى إميل سنة 1924، عند حصوله على الجنسية الفرنسية. كان قد سافر وحده في طفولته، من سوريا إلى باريس سنة 1913، ليبدأ تعليمه في المدرسة الحاخامية. وفي وقت لاحق، تتلمذ على عالم اللسانيات المقارنة أنطوان ميّيه، متلقّناً المناهجَ التحليلية لمعلّمه ومُطوِّراً إياها.
في مقاله «مفهوم الإيقاع في تعبيره اللسانيّ» سنة 1951، حلّل بنفنيست انزياحاً تاريخياً في معنى الكلمة اليونانية القديمة ruthmos، مستهلاً مقالَه بانتقادِ الأصل المائيّ المعهود لهذه الكلمة، والذي يربط مفهومَ الإيقاع إلى «الحركة المنتظَمة لأمواج البحر».
ومع ذلك، قال بنفنيست، فإن rein، جذرَ كلمة ruthmos، كانت تشيرُ إلى الأنهار لا إلى البحر. الماءُ العذب وماءُ البحر ليسا سِيَّين. ومثلهما حركةُ الأنهار والبحر. التدفُّقُ وارتطامُ الموج بالصخر شكلان مختلفان لحركةِ الزمن. الماءُ المالح عقيم. «البحرُ لا يتدفّق»، كتبَ بنفنيست.
بالنسبة إلى بودلير، كان شَعر جانّ دوفال ينطوي على الوقتين كليهما، إضافة إلى كونه مذكَّراً ومؤنثاً في الآن ذاته، la mer, l'océan [المحيط، البحر].
يقول بنفنيست إن كلمة ruthmos، في النصوص المسرحية والفلسفية ما قبل الأفلاطونية، كانت تشير إلى العنصر المكاني الذي يتحوّل اعتباطياً في التعبير الثقافي الإنساني، في اللباس على سبيل المثال، أو عبر تقاطيع الوجه، أو في التكوينات الانسيابيّة للحروف الأبجدية المكتوبةِ بخطِّ اليد.
الشَّعر معبّر على نحو مماثل.
ruthmos «يعيّن الشكلَ في اللحظة التي يتراءى فيها من خلال ما يتحرّك، متنقّلاً ومنساباً، شكل ما ليس له قِوامٌ عضويّ».
اقترح عالِم اللسانيات إن الإسقاطَ الأفلاطونيّ لقاعدةٍ عَروضية على الطبيعة كانت نقلةً تاريخية حوّلتْ وحصرَتْ معاني كلمة ruthmos، لتتيحَ بدورها تبنّياً مجازياً لفكرة الانتظام الزمني في أحداث الإنسان وشؤونه. تتّبع القوانين المفهومَ اللساني.
يقول بنفنيست: «إن هذا التوحيد الهائل بين الإنسان والطبيعة بمقتضى الزمن، بفواصله وتكراراته، كان يستلزمُ استخدامَ الكلمة نفسها، تعميمَ مصطلح rhythm [إيقاع] في معجم الفكر الغربي الحديث».
أعدَّ بنفنيست، أثناء سنوات عمله الأخيرة، سلسلةً مستفيضة من الحواشي تمهيداً لدراسة لغة بودلير. بدأ المشروع كدراسةٍ أوّلية لمقالٍ كُلِّفَ بكتابته، ليتحوّل إلى خطط ومسوَّدات وصولاً إلى كتابٍ في المستقبل. توقف هذا العمل عندما دهمته سكتة دماغية سنة 1969، ليدخل إثرها سبعَ سنين من الاحتجاز في حُجرته. سنواتُ الحُبْسة الكلامية والشلل انتهتْ بموته.
إحدى صفحات هذه الحواشي هي قائمةٌ بالأفعالِ لدى بودلير تحت عنوان «مجازات الماء»،
-سبَحَ
-غطَسَ
-غَرِقَ
-زَلَقَ
-طفا
الحريةُ واللانهايةُ والموت هي أشكالٌ من الحركة خارج الزمن.
ومع ذلك، يكتب بنفنيست في حاشيةٍ أخرى من حواشيه، فإن الصُّوَر المجازية لدى بودلير:
التي تعود مراراً وتكراراً إلى البحر/ (أبحرَ، انجرفَ <غطس> سبحَ، إلخ) و/ هذا من جهة أخرى، يستحضرُ في جلّ الأحيان الفناءَ، الموت/ أو النوم، <وكثيراً ما يستدعي العُمق، غطس> فلا تتضمَّن أيَّ مثال عن: تحطُّم السفينة، الانصِباب، الابتلاع/ كارثة.
الفعل غَرِقَ محضُ مجاز لدى ب.
. . .
ب لا يستجلي الموتَ من الداخل/ داخل الماء، الانغِمار أو اختفاء الجسد/ <لن يكون «يهبطُ الغرقى ليناموا مُكْرَهِين» (رامبو) ممكناً أبداً لدى بودلير>
الكلمةُ الأخيرة المكتوبة لبنفنيست شهدتْها الطالبةُ الشابة جوليا كريستيفا التي كان قد استدعاها إلى غرفته في المستوصَف في كريتايّ. قالت إن العلّامةَ المشلولَ جزئياً قد جهَدَ ليخطَّ على الورقِ حروفَ الاستهلال الكبيرة T-H-E-O بقلمِ بيك راجفٍ أثناء وقوفها إلى جوار سريره.
ولكنه قبل تناول القلم، حاول أولاً أن يقتفي خفيةً بإصبعهِ أشكالَ الحروف على صدر البلوزة التي كانت الشابةُ المرتبِكة ترتديها.
«روحي تنطلقُ في رحلةٍ طويلة»، قال بودلير.
«إننا نجسّده كإلهٍ على الدوام، وحدانيّ ومُحيّرٍ وسحيقِ القِدَم»، قال بنفنيست عن البحر.
مجرَّدون من الأسماء هم غالبيةُ الآلافِ الخمسة الذين غرقوا في البحر المتوسط سنة 2016.
فلنملأ البحرَ بشَعرنا المجزوز.
ليست هناك تعليقات