شربل داغر (أنشر، في أربعة أيام متتالية، أربع نبذات مقتطَعة من دراسة عن التصوف والفن والأدب، ألقيتُها مؤخرًا في "بيت الزبير"،...
شربل داغر
(أنشر، في أربعة أيام متتالية، أربع نبذات مقتطَعة من دراسة عن التصوف والفن والأدب، ألقيتُها مؤخرًا في "بيت الزبير"، في عُمان – هنا، النبذة الأولى):
لا يسع الدارس أن يُغفل أن الحديث عن التصوف والفن والشعر صعب، بل إشكالي، لأسباب عديدة : منها أن جانبّا من هذه المدونة يَتعيَّن سواء في اختبار وجودي، أو في اختبار تأليفي فني وكتابي، ما تختلف معالجته بين هذا الجانب وذاك. ويزيد من أسباب هذه الصعوبة هو أن هذا الحديث انتقل من سياق ثقافة قديمة إلى سياق آخر، هو الثقافة الحديثة والمعاصرة. وقد تكون إحدى سمات هذا الانتقال هي أن إنتاجات الماضي العربي-الإسلامي تختلف في أنواعها وقواعدها وقيمها وأطر تداولها عما باتت عليه الإنتاجات الراهنة. وقد تكون العلامة الفردية إحدى أهم هذه العلامات المتأخرة. كما بات الإنتاج الحالي محكومًا بصنع ثقافي واقع سلفًا في التداول العمومي، فيما كانت تتعين الإنتاجات الماضية في سياقات تداولية مختلفة، خصوصًا بين البلاطات والمجالس و"الحلقات" وغيرها. لهذا لا يمكن الحديث عن إنتاجات اليوم، الشعرية والفنية، من دون التنبه إلى أنها تندرج في زمن مختلف، مهما اعتقد البعض بأنهم "يعودون" إلى ما كان قد انقطع في الماضي الزاهي (...).
بين "التذوق" و"التجريب"
التوقف عند خطاب التصوف يطلبُ فحصَ ما فيه، وفي التجارب والسلوكات الموصولة به، طالبًا من ذلك طرح أسئلة باتت لازمة، ما ينطلق من السؤال الابتدائي : أفي خطاب التصوف ونتاجه ما "يعيق" أو "ينمِّي" بناء خطاب حديث عربي حول الفن والأدب ؟
وجدتُ في مفهوم أول – "الذوق" و"التذوق" في الخطاب القديم – ما يساعد في استبيان المسألة المطروحة. ولو استعدتُ، في أكثر من معجم عربي قديم، معاني ودلالات مشتقة حول : ذوق، لوجدتُ أنها تتراوح بين الحسي والثقافي، وبين التجريب والخبرة والحُكم الجمالي. فإذا كانت جذور اللفظ تدور حول "اختبار الشيء" لجهة طَعْمِه، فإن هذا المعنى ينتقل ويبلغ تعيينات مجازية : "ذوق : الذال والواو والقاف أصل واحد، وهو اختبار الشيء من جهة تطعُّم، ثم يشتق منه مجازًا". وفي معجم الخليل : "كلُّ ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه؛ أي أنه يقع في كل ما يصيب الإنسان، ويذوقُه، سواء أكان طيِّبًا أم مكروهًا. كما ورد في "أساس البلاغة" التعريف المعجمي التالي : "ذقت الطعام، وتذوقته شيئًا بعد شيء، وهو مرّ المذاق. ومن المجاز : ذقت فلانًا، وذقت ما عنده (...)، وهو حسن الذوق للشعر إذا كان مطبوعًا عليه، وما ذقت اليوم في عيني نومًا. وذاق القوس : تعرّفها ينظر ما مقدار إعطائها".
يتبين، إذًا، أن المعاني والدلالات توسعت، وباتت مفهومًا جامعًا وعالي الحمولات، إذ يصيب "طعمَ" ما يذوقه الإنسان بلسانه، وبكفاءته الثقافية، إذ يبلغ التذوقُ الشعرَ نفسه. وهو ما يجده الدارس مجتمعًا في تعريفات "لسان العرب" : "الذوق مصدر ذاق الشيء (...)، والمذاق : طعم الشيء، والذواق : هو المأكول والمشروب (...)، ذقت فلانًا وذقت ما عنده، أي خبرته، وكذلك ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقَه، وأمرٌ مستذاق، أي : مجرَّب معلوم، والذوق يكون في ما يُكره ويُحمد".
إذا كان اللفظ ورد أكثر من ستين مرة في القرآن الكريم، ومرات كثيرة في الأحاديث النبوية، فإن في إمكان الدارس أن يلاحظ، في متون أخرى، ورود تعريفات مشتقة من اللفظ عينه، وتفيد عن معان ودلالات مستحدَثة، ما يجد مرتكزاته في الخطاب الفلسفي والكلامي والصوفي : يتحدث الجرجاني، في "دلائل الإعجاز"، عن "أهل الذوق والمعرفة"؛ وهو ما يؤكده ابن الأثير في مقدمة كتابه : "واعلمْ – أيها الناظر إلى كتابي – أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم"، فيما يشير ابن خلدون، في "المقدمة"، إلى "التذوق" بوصفه "حصول ملكة البلاغة للسان".
إلا أن هناك توسعًا مزيدًا أصاب هذا اللفظ ومشتقاته، وظهر في خطاب المتصوفة : يرِد في "تاج العروس" التعريف التالي : "الذوق عند العارفين : منزلة من منازل السالكين أثبت وأرسخ من كل منزلة". فـ"التذوق"، لدى المتصوفة، عبارة عن علوم إلهية تُدرك قلبيًّا عن طريق الذوق والكشف، لا تعلُّمًا أو نقلًا من كتاب، أو سماعًا من أحد. يكتب الإمام القشيري : "ومن جملة ما يجري في كلامهم : الذوق، والشرب، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجليب، ونتائج الكشوفات، وبوادِهِ الواردات. وأول ذلك : الذوق، ثم الشرب، ثم الري. فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني، ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب، ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الري، فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح". كما يعرف عبد الرزاق القاشاني "الذوق" بالقول : "هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث من التجلي البرقي، فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود سمي شربًا، وإذا بلغ النهاية سمي ريًّا، وذلك بحسب صفاء السر عن لحظ الغير". أما ابن عربي فيرى "الذوق" بوصفه علمًا إلهيًّا : "العلم الذوقي : علم نتائج المعاملات والأسرار، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلبك". ويضيف : "إن الذوق عند القوم أول مبادئ التجلي، وهو حال يفجأ العبد في قلبه، فإن أقام نفسَين فصاعدًا كان شربًا، وهل بَعْدُ هذا الشرب ريٌّ أم لا ؟ فذوقهم في ذلك مختلف". أما الغزالي فيقول : "انظرْ إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس، وهو نوعُ إحساسٍ وإدراك، ويُحرم عند بعضهم، حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظرْ كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار (...). ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه". كما يقول : "واعلمْ أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة، والقول إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي، وإلا فعلمُها من المستحيلات لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيًّا لا يستقيم وصفها بالقول، كحلاوة الحلو ومرارة المر، لا يعرف إلا بالذوق"؛ بل يشبهها الغزالي بـ"لذة المجامعة"، التي لا تتعين في قول وكتابة لأنها "لذة ذوقية".
يعتمد الصوفية على "الكشف" الذي به يعرف الصوفي الحقائقَ الغيبية التي يعجز عن إدراكها النظرُ والفكر، فيكتب الغزالي : "إن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر، وإنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى". كما يكتب ابن عربي : "إن في عباده من حُرم الكشف والإيمان – وهم العقلاء عبيد الأفكار والواقفون مع الاعتبار – فجاوزوا من الظاهر إلى الباطن، مفارقين الظاهر، فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف ولا إيمان لما حجبَ الله أعينَهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها (...). وأما المؤمنون الصادقون (...) فعبروا بالظاهر معهم، لا من الظاهر إلى الباطن، وبالحرف عينه إلى المعنى وما عبروا عنه، فرأوا الأمور بالعينَين (أي بالظاهر والباطن)".
التوقف عند خطاب التصوف يطلبُ فحصَ ما فيه، وفي التجارب والسلوكات الموصولة به، طالبًا من ذلك طرح أسئلة باتت لازمة، ما ينطلق من السؤال الابتدائي : أفي خطاب التصوف ونتاجه ما "يعيق" أو "ينمِّي" بناء خطاب حديث عربي حول الفن والأدب ؟
وجدتُ في مفهوم أول – "الذوق" و"التذوق" في الخطاب القديم – ما يساعد في استبيان المسألة المطروحة. ولو استعدتُ، في أكثر من معجم عربي قديم، معاني ودلالات مشتقة حول : ذوق، لوجدتُ أنها تتراوح بين الحسي والثقافي، وبين التجريب والخبرة والحُكم الجمالي. فإذا كانت جذور اللفظ تدور حول "اختبار الشيء" لجهة طَعْمِه، فإن هذا المعنى ينتقل ويبلغ تعيينات مجازية : "ذوق : الذال والواو والقاف أصل واحد، وهو اختبار الشيء من جهة تطعُّم، ثم يشتق منه مجازًا". وفي معجم الخليل : "كلُّ ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه؛ أي أنه يقع في كل ما يصيب الإنسان، ويذوقُه، سواء أكان طيِّبًا أم مكروهًا. كما ورد في "أساس البلاغة" التعريف المعجمي التالي : "ذقت الطعام، وتذوقته شيئًا بعد شيء، وهو مرّ المذاق. ومن المجاز : ذقت فلانًا، وذقت ما عنده (...)، وهو حسن الذوق للشعر إذا كان مطبوعًا عليه، وما ذقت اليوم في عيني نومًا. وذاق القوس : تعرّفها ينظر ما مقدار إعطائها".
يتبين، إذًا، أن المعاني والدلالات توسعت، وباتت مفهومًا جامعًا وعالي الحمولات، إذ يصيب "طعمَ" ما يذوقه الإنسان بلسانه، وبكفاءته الثقافية، إذ يبلغ التذوقُ الشعرَ نفسه. وهو ما يجده الدارس مجتمعًا في تعريفات "لسان العرب" : "الذوق مصدر ذاق الشيء (...)، والمذاق : طعم الشيء، والذواق : هو المأكول والمشروب (...)، ذقت فلانًا وذقت ما عنده، أي خبرته، وكذلك ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقَه، وأمرٌ مستذاق، أي : مجرَّب معلوم، والذوق يكون في ما يُكره ويُحمد".
إذا كان اللفظ ورد أكثر من ستين مرة في القرآن الكريم، ومرات كثيرة في الأحاديث النبوية، فإن في إمكان الدارس أن يلاحظ، في متون أخرى، ورود تعريفات مشتقة من اللفظ عينه، وتفيد عن معان ودلالات مستحدَثة، ما يجد مرتكزاته في الخطاب الفلسفي والكلامي والصوفي : يتحدث الجرجاني، في "دلائل الإعجاز"، عن "أهل الذوق والمعرفة"؛ وهو ما يؤكده ابن الأثير في مقدمة كتابه : "واعلمْ – أيها الناظر إلى كتابي – أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم"، فيما يشير ابن خلدون، في "المقدمة"، إلى "التذوق" بوصفه "حصول ملكة البلاغة للسان".
إلا أن هناك توسعًا مزيدًا أصاب هذا اللفظ ومشتقاته، وظهر في خطاب المتصوفة : يرِد في "تاج العروس" التعريف التالي : "الذوق عند العارفين : منزلة من منازل السالكين أثبت وأرسخ من كل منزلة". فـ"التذوق"، لدى المتصوفة، عبارة عن علوم إلهية تُدرك قلبيًّا عن طريق الذوق والكشف، لا تعلُّمًا أو نقلًا من كتاب، أو سماعًا من أحد. يكتب الإمام القشيري : "ومن جملة ما يجري في كلامهم : الذوق، والشرب، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجليب، ونتائج الكشوفات، وبوادِهِ الواردات. وأول ذلك : الذوق، ثم الشرب، ثم الري. فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني، ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب، ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الري، فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الري صاح". كما يعرف عبد الرزاق القاشاني "الذوق" بالقول : "هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث من التجلي البرقي، فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود سمي شربًا، وإذا بلغ النهاية سمي ريًّا، وذلك بحسب صفاء السر عن لحظ الغير". أما ابن عربي فيرى "الذوق" بوصفه علمًا إلهيًّا : "العلم الذوقي : علم نتائج المعاملات والأسرار، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلبك". ويضيف : "إن الذوق عند القوم أول مبادئ التجلي، وهو حال يفجأ العبد في قلبه، فإن أقام نفسَين فصاعدًا كان شربًا، وهل بَعْدُ هذا الشرب ريٌّ أم لا ؟ فذوقهم في ذلك مختلف". أما الغزالي فيقول : "انظرْ إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس، وهو نوعُ إحساسٍ وإدراك، ويُحرم عند بعضهم، حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظرْ كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار (...). ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه". كما يقول : "واعلمْ أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة، والقول إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي، وإلا فعلمُها من المستحيلات لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيًّا لا يستقيم وصفها بالقول، كحلاوة الحلو ومرارة المر، لا يعرف إلا بالذوق"؛ بل يشبهها الغزالي بـ"لذة المجامعة"، التي لا تتعين في قول وكتابة لأنها "لذة ذوقية".
يعتمد الصوفية على "الكشف" الذي به يعرف الصوفي الحقائقَ الغيبية التي يعجز عن إدراكها النظرُ والفكر، فيكتب الغزالي : "إن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر، وإنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى". كما يكتب ابن عربي : "إن في عباده من حُرم الكشف والإيمان – وهم العقلاء عبيد الأفكار والواقفون مع الاعتبار – فجاوزوا من الظاهر إلى الباطن، مفارقين الظاهر، فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف ولا إيمان لما حجبَ الله أعينَهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها (...). وأما المؤمنون الصادقون (...) فعبروا بالظاهر معهم، لا من الظاهر إلى الباطن، وبالحرف عينه إلى المعنى وما عبروا عنه، فرأوا الأمور بالعينَين (أي بالظاهر والباطن)".
عن الفايسبوك
ليست هناك تعليقات